ياسر عبد العزيز
يوم الأربعاء الماضي، كانت رئيسة وزراء الدنمارك ميته فريدريكسن تلقي خطاباً في برلمان بلادها، حين فاجأت المستمعين بالقول إن الجزء الأول كاملاً من هذا الخطاب كُتب بواسطة تقنية الذكاء الاصطناعي «شات جي بي تي».
كانت تلك لفتة ذكية من فريدريكسن، التي أرادت بطريقة بسيطة ومباشرة أن تلفت الأنظار إلى حجم التحديات الرهيبة، التي تفرضها التطورات المتسارعة والحادة في عالم الذكاء الاصطناعي، وأن تحذر من النزعة الثورية التي تنطوي عليها تلك التكنولوجيا، بما تحمله من مخاطر على عالم الديمقراطية والثقة والدقة والوظائف والحياة الشخصية والعامة.
وقد حاولت رئيسة الوزراء الدنماركية أن تلخص تجربتها في تفويض «شات جي بي تي» بكتابة جزء رئيسي من خطابها بقولها: «ما يمكن لهذه التقنيات الجديدة أن تفعله يثير مشاعر متضاربة من الدهشة والرعب في آن واحد».
«الدهشة والرعب» مصطلح يثير الكثير من المخاوف والأسئلة، كما أنه يبدو مشابهاً تماماً للأسماء الكودية للعمليات العسكرية الكبيرة، التي استخدمت طاقة نيران ضخمة، وخلفت دماراً وموتاً في عديد البلدان، وأنتجت أوضاعاً جيوسياسية جديدة، ظل معظمها محل نقد واستهجان.
لذلك، فإن العالم المتقدم لا يجب أن يبقى رهينة لهذا الشعور لوقت طويل، لأنه تحت تأثير الدهشة والرعب لن يقوى على فعل ما يتوجب عليه فعله لمواجهة مخاطر متصاعدة اتفق الجميع على وجودها واستدامتها.
وبعد تحذيرات شديدة اللهجة من قادة سياسيين وخبراء ورجال مؤثرين في صناعة التكنولوجيا، بات من المحتم أن تظهر استجابة تنظيمية، يمكن أن ترسي بعض القواعد اللازمة للتعاطي مع هذا القادم الجديد، ومع التحولات الصارخة التي يصنعها ويعد بها، والتي يظهر أثرها على الأرض وفي الفضاء السيبراني في كل ثانية.
لذلك، ظهر خبر جيد في نهاية الأسبوع الماضي في هذا الصدد، حيث عقد خبراء من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية اجتماعاً مهماً، في إحدى مدن شمال السويد، وهو الاجتماع الذي تمخض عن اتفاق على إصدار «مدونة سلوك» لتنظيم العمل في قطاع الذكاء الاصطناعي، وإرساء قواعد لاستخدام منتجاته.
وكما تقول المفوضية الأوروبية، فإن النسخة الأولية لهذه المدونة ستصدر خلال الأسابيع القليلة المقبلة، وستكون مفتوحة لتلقي الجديد من المقترحات، التي يمكن أن تتفق عليها الأطراف المعنية؛ إذ إن تطورات مجال الذكاء الاصطناعي تتسم بالتجدد والتسارع، ولذلك، فإن كل يوم من الأيام التي ستنشط فيها المختبرات سيحمل تحدياً تنظيمياً وقانونياً جديداً.
يقتضي الإنصاف القول إن تلك الاستجابة تُعد خطوة جيدة على طريق طويل وصعب، لكنها مع ذلك لن تفي بالحاجة إلى تنظيم هذا القطاع، وضمان عدم خروجه عن أطر محددة، سيطرح اختراقها تحديات كبيرة يمكن أن تؤسس لأوضاع يصعب جداً ضبطها أو التعامل معها.
تتسم مدونات السلوك عادة بطبيعة طوعية، وتقدم إرشادات وقواعد عامة تخاطب الملتزمين بها طوعاً، وتحثهم على اتباع أنماط معينة في التطوير والاستخدام، لكنها مع ذلك لا تضمن تحقيق الالتزام الكافي، ولا توفر ضمانات، ولا تعد بعقوبات في حال خرق الالتزام. لذلك، كان من المهم أن نسأل عن القواعد التنظيمية الملزمة والقوانين، التي من دونها يمكن أن تستبيح شركات التكنولوجيا، في مسعاها التنافسي الجارف، الساحة الاتصالية والمعلوماتية، وأن تقوض عالم العمل والإنتاج الراهن، لمصلحة عالم تحكمه الروبوتات، وتحل أنماط الذكاء الاصطناعي فيه محل الذكاء البشري، بما يطرحه هذا من تحديات كارثية.
ويبدو أن الاتحاد الأوروبي انتبه تماماً لهذه المخاطر، إذ يجري الحديث منذ أكثر من شهر عن انطلاق عملية لإرساء قواعد تنظيمية لمجال الذكاء الاصطناعي، حيث يتوقع أن يكون لدى الاتحاد إطار قانوني متكامل لحوكمة القطاع بحلول العام 2025.
لكن الفترة التي ستمضيها البشرية في معاينة و«مكابدة» آثار تطورات الذكاء الاصطناعي لحين صدور إطار تنظيمي، ستكون كبيرة بما يكفي لكي تنفذ مفاعيل هذا الذكاء إلى كافة أطر العمل في المعمورة، كما أن مثل هذا الإطار قد يكون عاجزاً عن فرض قواعد إلزامية عالمية، وهو الأمر الذي يفتح الباب أمام قوى دولية أخرى للمضي قدماً في تطوير منتجاتها وآليات عملها من دون القدر اللازم من الامتثال لأي إطار تنظيمي.
فعندما تحدث وزير الخارجية الأمريكي أمام الاجتماع الذي عقد في السويد، حرص على الإشارة إلى أن «الغرب في حاجة ملحة للتحرك»، وفي خلفية هذا التصريح ما يشير إلى مخاوف المجتمعين من الصين تحديداً، التي لا يبدو أنها ستشارك في عمليات إرساء تنظيم دولي ملزم في هذا القطاع، كما يبدو حتى الآن.
ستكون المنافسة الضارية بين الصين من جانب والولايات المتحدة ومن ورائها الغرب من جانب آخر، عنواناً أساسياً في الجهود التي انطلقت للتو لتنظيم قطاع الذكاء الاصطناعي، وستكون أيضاً عامل تعويق جوهري لإمكانية التوصل إلى إطار مناسب يحدث التوازن اللازم بين مزايا استخدام تلك التطبيقات الجديدة من جهة، وبين مخاطرها البادية للعيان من جهة أخرى.
لكن ماذا عن الشرق، والعالم العربي تحديداً؟ لا يبدو أننا انتبهنا إلى ضرورة التحرك فوراً، من خلال الأطر السياسية والفنية التي تجمعنا، من أجل إرساء قواعد ومدونات سلوك طوعية، أو الشروع في مقاربة قانونية، لمواجهة تحديات الذكاء الاصطناعي، وهو أمر ستكون له عواقب وتكاليف.