الديبلوماسية التربوية
المصطفى مورادي
تناولت عشرات القنوات العالمية، فضلا عن الوطنية، حدث تنظيم الباكلوريا المغربية، سواء بأخبار أو بروبورتاجات ولقاءات مع مسؤولين مركزيين وجهويين ومتدخلين فضلا عن المترشحين. والحقيقة أن الأمر يتعلق بتسويق جيد لحدث مجتمعي تاريخي، حيث قد تكون المرة الأولى التي يحتل فيها حدث تربوي لا علاقة له بالاحتجاجات هذا الاهتمام، وطنيا ودوليا، إذ انتشرت عبر العالم صور غاية في الروعة والإبهار لتلاميذ يجتازون بالمئات امتحاناتهم في قاعات مغطاة، واضعين أقنعة السلامة ومحترمين لمسافة الوقاية. فقد شاهد الملايين عبر العالم أوراق الامتحانات توزع في أغلفة بلاستيكية وأوراق الإجابات تعقم قبل تسليمها للمصححين، كما شاهدوا أيضا المصححين يرتدون ملابس كالتي ألفنا أن نشاهد عليها الأطباء الجراحين.
بكل صدق، هذه تجربة للتاريخ. تظهر أن المستحيل ليس مغربيا، وبعيدا عن المديح المجاني، فالأمر يتعلق بعمل جبار تم التحضير له في وقت قياسي، لكون وتيرة انتشار الوباء كانت مفاجئة لكل شعوب ودول العالم. وإنما الإحراج التنظيمي والإنساني الذي وجدت فيه وزارة التربية الوطنية المغربية نفسها، هو أن تختار مبدأ السلامة لوحده وتلغي كافة الامتحانات، وبذلك تعيد عقارب شهادة الباكلوريا إلى الصفر، مثلما حدث في قطاعات تجارية وصناعية وفنية وإعلامية، علما أن سمعة هذه الشهادة دوليا تحتاج لمحافظة وصيانة، ويكفي أن نذكر هنا بمئات التلاميذ الحاصلين على الباكلوريا، والذين يتم قبولهم في مختلف الجامعات والمدارس العليا من اليابان في أقصى الشرق إلى كندا في أقصى الغرب. أو «المغامرة» بتنظيم الباكلوريا، وتعريض المتدخلين والتلاميذ لخطر الإصابة.
أمام هذين الاختيارين الصعبين، واللذين يرجحان لصالح الحل الأول، لكون الإنسان أهم من أي شيء آخر..، فإن الاختيار وقع على حل ثالث، وهو تنظيم الباكلوريا حتى لا يحرم مئات الشباب الطموحين من استكمال تعليمهم العالي في الخارج، وفي نفس الوقت تبني بروتوكول صارم جدا يضمن سلامة كل المتدخلين.
وكما قلنا تم تناقل صور هذا الحدث عبر العالم، ومرت هذه المحطة بسلام، وكسب المغرب الرهان. ما يهم هنا أيضا هو الاستراتيجية الإعلامية التي نهجتها الوزارة لتسويق هذا المجهود المجتمعي الشامل، استراتيجية تمكن تسميتها بـ«الديبلوماسية التربوية». فالعديد من القنوات، التي كانت قبل أشهر قليلة، وخاصة الخليجية منها، لا تترك خبر نفوق حيوان دون أن تعلق عليه، في إمعان واضح على مهاجمة المغرب، ملكا وحكومة وشعبا، لم تجد خرم إبرة تمرر منه نواياها المبيتة ضد المغرب الذي راكم تجارب على هذا المستوى، ليس فقط بسبب نجاحه في تنظيم الباكلوريا، بل أيضا بالنجاحات المبهرة لتلامذته وطلبته دوليا، حيث حصل العديد منهم في السنوات القليلة الماضية على جوائز عالمية، في مختلف المجالات، واستطاعوا منافسة ممثلي دول تصنف دوما على أنها رائدة تعليميا. وتناقلت أسماءهم منابر إعلامية مختلفة عبر العالم.
ومثلما نحب، بشكل يكاد يكون مرضيا، أن نجلد ذاتنا التربوية والتكوينية، فإنه من التوازن النفسي أيضا أن نعترف بمكامن قوتنا، أي أن نرى وطننا بألوانه الحقيقية، لا هو باللون الأسود المعتم ولا باللون الأبيض الناصع، إنما أن نراه بألوان الحياة نفسها. ألوان النجاحات وألوان الإخفاقات، ألوان التنافس وألوان التقاعس، ألوان الانخراط وألوان اللامبالاة. فمثلما عندنا مراهقون بدون تعليم وبدون تكوين، عندنا أيضا مراهقون حصلوا قبل أسبوعين على ميداليات دولية في الرياضيات. ومثلما عندنا عاطلون لا يتقنون أية لغة، عندنا أيضا مخترعون يحاضرون باللغات العالمية الحية. ومثلما عندنا باحثون جامعيون تحولوا لمهنة السمسرة عندنا أيضا منصف السلاوي وغيره كثير في مختلف دول العالم الحر.
وتبقى المشكلة عندنا هي أننا غير بارعين في تسويق أنفسنا، لأننا ألفنا أن نمنح للآخرين دوما الفرص ليُقَوِّمونا ونستدمج تقييماتهم في وجداننا، بينما ما نقدر عليه فعليا كبير ويكاد يكون إعجازيا، مثلما حدث مع باكلوريا هذه السنة. ما يخصنا فقط هو أن نتصالح مع أنفسنا ونرى تعليمنا بألوانه الطبيعية المختلفة ونتقن تقديمه للعالم.