شوف تشوف

الرأي

الدفاع عن يهودي

خالص جلبي
بين قصة دريفوس اليهودي الفرنسي وزيد بن السمين في المدينة نسب، ولكن لنبدأ من هذه الآيات التي تبدأ من قوله: (إنا أنزلنا إليك الكتاب لتحكم بين الناس بالحق)، حتى عشر آيات بعدها؛ فهي تروي قصة هامة تذكر بقصة اليهودي دريفوس، الذي سجن في جزيرة الشيطان (Devil’s Island) الذي تفتقت عنه عبقرية نابليون الثالث، واشتغل بكامل الطاقة أكثر من نصف قرن، قبل أن يذاع أمره للعالم بهرب أحدهم ومعهم صور الجحيم في غويانا الفرنساوية. وفي هذه القصة دفاع عن قضية العدالة، وأن الناس يجب أن يحكموا بالعدل بغض النظر عن انتمائهم.
تقول الآية: (إنا أنزلنا إليك الكتاب لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما)، خصيما أي تدافع عنهم، وسبب ذلك قصة عجيبة جاءت في كتب التفسير، يمكن الرجوع إليها لمعرفتها بالتفصيل، عن سرقة قام بها أنصاري، لدرع رجل من الأنصار (رفاعة بن النعمان)، وهو أمر يمكن أن يحصل في أي مجتمع، فالناس يبقون بشرا، ويحصل فيه مخالفات. وورد في بعض الروايات عن هذا الرجل (بشير بن أبيرق) أنه كان مطعونا، ويبدو أن الناس تكلمت في الموضوع والسرقة، فعمد إلى رمي الدرع في بيت يهودي (زيد بن السمين) ومضى إلى النبي (ص) ليبرئه علانية، وهو ما فعله النبي (ص). فجاءت الآيات تعاتب النبي (ص) على التصرف، (ولا تكن للخائنين خصيما، واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما. ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم أن الله لا يحب من كان خوانا أثيما. يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا).
إن الآيات حين يتابع الإنسان ظروف نزولها يصاب بقشعريرة ورعدة من التنزيل، ويفهم قول الرحمان: (يخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا).
يعاتب الله ويدافع عن يهودي متهم ظلما، وتتنزل الآيات في قضية رجل من قوم يكنون العداوة والكراهية والتآمر للأمة، ولكن هذا لا يمنع، بل هي كامل القوة، وسر قوة هذا المجتمع. إنها حقنة العدل في شرايين هذا المجتمع الفتي.
إنني أخجل حين أقرأ هذه الآيات، وأرى مظاهر الظلم في كل مكان وأعرف سر القوة والنهوض من الإحباط والانحدار.
وطالما تحدثنا عن اليهودي المظلوم وأشرنا إلى جزيرة الشيطان، فضروري أن ننير ذاكرة القارئ بهذه التحفة التاريخية عن جزيرة الشيطان؟
حين تأتيني أخبار المعتقلين والموقوفين في العالم العربي أتذكر جزيرة الشيطان. إنها ليست مكانا للشيطان، بل سجنا صممه البشر؛ ففاقوا الأبالسة في عملهم. فبين عامي 1852 و1947 م رحّلت فرنسا إلى غويانا الفرنسية في أمريكا الجنوبية 70 ألف معتقل مات ثلثاهم في جزر جهنمية، حيث تطلق صواريخ ارتياد الفضاء الأوربية حاليا. بدأت القصة من سيئ الذكر نابليون الثالث، صاحب النكبة الفرنسية عام 1870، الذي قادته إليه زوجته المغناج يوجينا. ففي هذا العام خسرت فرنسا الحرب ضد بسمارك، وتم تتويج الإمبراطور الألماني في فرساي. وخسرت فرنسا 135 ألف قتيل، ودمرت العائلة المالكة بعدها تدميرا، وقامت الجمهورية الثالثة. وحديثنا ليس عن نابليون التعيس وزوجته يوجينا الحمقاء، بل عن سجن رهيب لم يسمع به العالم إلا بعد مرور أكثر من ثمانين سنة على إنشائه. وكان مصممه والمشرف عليه نابليون الثالث، ولكن المصيبة أن من يسن سنة سيئة فلا تنتهي مع موته بل تستمر. واليوم وبعد موت أتاتورك بثمانين عاما، ما زال يحكم من قبره ضاحك من تزاحم الأضداد. وهو ليس الشاذ، بل هناك من شكله أزواج. وإن الإنسان لظلوم كفار. كان القضاء الفرنسي في القرن التاسع عشر قريبا من الإجرام، فيلقي القبض على من سرق دراجة ووجبة طعام ثم يجمعهم في طوابير على وجبتين في السنة ويرحلهم إلى سان مارتين، الميناء الفرنسي الشمالي، ثم يزربون زربا في ناقلات المحيط لمدة عشرين يوما حتى تنتهي بهم الرحلة على شاطئ غويانا الفرنسية، وغالبا ما كانت إقامتهم دائمة ولو كان حبسهم محدودا. وهو يذكر بقصة الكونت مونت كريستو، فمن دخل السجن نسي. وهناك تصفد أقدامهم ويجبرون على الأعمال الشاقة، يلسعهم البعوض وتعضهم الثعابين الخطيرة وتقرصهم العناكب السامة. ومن عصا فله العصا فيلقى المتمرد في السجن الانفرادي لمدة ستة أشهر، وإذا أظهر عدم الانضباط ولم يحترم الشرطي زادت عقوبته على شكل تصاعدي. ومن حاول الهرب فضبط زادت مدت حبسه سنتين، فإن عاد زيدت إلى خمس سنوات. فإن أظهر صلابة نقل إلى واحد من ثلاث جزر قريبة من غويانا، وبالتدرج حتى يصل إلى جزيرة الشيطان. هكذا سماها من استطاع الفرار وحمل رسومات الفنان، الذي قبع في سجنها لتزويره بعض اللوحات. وهناك من ضرب الرقم القياسي في مكوثه في السجن الانفرادي، وأنا شخصيا ذقته في بلد ثوري ولا أتمنى لأحد دخوله، هو بول بورساك، الذي بقي فيه 11 سنة متواصلة فلما خرج لم يطق الحياة، فألقى بنفسه في النهر وانتحر. وكان الفرار من الجزيرة بين خطرين عظيمين، المحيط الغادر والغابات القاتلة. ومن خلفهم المقصلة التي نقلت من فرنسا إلى هذه الجزر الجهنمية. وفي النهاية نجح اثنان في الفرار ونقلا الخبر للعالم فارتج رجا. وكان آخر حبيس غادرها عام 1947، وأغلقت جهنم أبوابها بعد أن التهمت عظام وأحلام عشرات الآلاف. وفي جزيرة الشيطان هذه سجن ضابط فرنسي يهودي ظلما، فدافع عن قضيته الكاتب الفرنسي المعروف زولا بمقالة عنوانها (أتهم je accuse)، ثم حشد جماعة الرأي الدفاع عنه حتى ردوا له الاعتبار وأطلق سراحه، بعد أن ذاق الأمرين في تلك الجزيرة الملعونة سنوات.
واليوم هي منصة إطلاق صواريخ وشاطئ تنزه وعبرة للسائحين. إن في ذلك لآيات للمتوسمين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى