شوف تشوف

الرأي

الخطابي مات مرة أخرى..

يونس جنوحي

رقية الخطابي لم يكتب لها أن تعود إلى المغرب، بعد فتح الحدود، لكي ترى أختها الصغرى عائشة وتشاركها شرب الشاي، في ركن قصي من فيلا «أنوال» بالدار البيضاء، حيث يقبع جلباب المجاهد محمد عبد الكريم الخطابي ونظارته الطبية وبعض أغراضه الشخصية، التي نقلتها عائشة الخطابي بعد وفاته في فبراير 1963 إلى المغرب، واحتفظت بها بموافقة من بقية إخوانها.

في فبراير ترحل أيضا الابنة رقية، والتي وُلدت في جزيرة «لارينيون» التي نُقل إليها الخطابي رفقة عائلته على يد الإدارة الفرنسية في المغرب سنة 1927، وبقي «عالقا» هناك إلى حدود سنة 1947، حيث كانت فرنسا بصدد نقله إلى ضواحي باريس، فتدخل الملك فاروق، أثناء توقف الباخرة التي تقل الخطابي في مصر، وأنزله لكي يحل بمصر منذ ذلك التاريخ إلى أن فارق الحياة.

رقية الخطابي التي وُلدت في تلك الجزيرة البعيدة، «لارينيون» التابعة للإدارة الفرنسية، فتحت عينيها وسط إقامة فخمة كانت محروسة على مدار اليوم والليلة من طرف الجنود الفرنسيين. شخصيات عالمية جاءت إلى تلك الإقامة لرؤية محمد عبد الكريم الخطابي، صانع المعارك التي قهرت الجيش الإسباني. ورغم محاولات الصحافة الفرنسية تسويق وجود الخطابي في تلك الجزيرة، على أنه إبعاد عن الأحداث، إلا أن المنفى يبقى قاسيا رغم كل ما روجته الصحافة الفرنسية، من مقالات وتسجيلات «فيديو» حاولت من خلالها إظهار الرفاهية التي كان يعيش فيها الخطابي مع عائلته. إذ يكفي معرفة أن الرجل كان ممنوعا من العودة إلى بلاده، وأن فرنسا صادرت كل أملاكه في منطقة أجدير بالريف، وأنه دفن والدته في رحلة المنفى، وأن إخوانه وزوجاتهم كانوا مجبرين على البقاء خارج المغرب، رغم أن بعضهم كانوا أميين لا علاقة لهم بالسياسة، ولا يتحدثون إلا بالريفية، ورغم ذلك كانوا مجبرين على العيش لسنوات طويلة في المنفى.

بعد وفاة الخطابي، تزوجت الابنة رقية رجل أعمال مصريا شهيرا، كان يرغب في الارتباط بها منذ مدة، إلا أن تحفظ الخطابي قيد حياته، أجل مشاريع زواج بناته. رغم أن «العرسان» الذين تقدموا لخطبتهن كانوا من أثرياء مصر والعالم العربي. والسبب أن الخطابي كان يأمل أن يعود إلى المغرب، ولم يكن يريد أن يترك بناته خلفه هناك بالقاهرة.

الحياة في مصر في فترة الأربعينيات كانت تختلف كثيرا عن الحياة السابقة في جزيرة «لارينيون». مشاهير مصر كانوا يعرفون محمد عبد الكريم الخطابي، ومنزله لم يكن يهدأ من الزيارات. يأتي الملك فاروق قبل ثورة الضباط الأحرار ليتناول وجبة الغداء مع الخطابي، وعندما وقع انقلاب أصدقاء جمال عبد الناصر، أصبح هذا الأخير يزور الخطابي هو الآخر، حتى أن الصحافة المصرية كانت تنشر صورة الزيارة على صدر صفحاتها الأولى.

الطلبة العرب الذين أصبحوا لاحقا رؤساء جمهوريات وسفراء، كانوا أيضا معجبين بالخطابي وأصروا على زيارته في إقامته بالقاهرة.

برحيل الابنة رقية، لم يتبق إلا شاهد وحيد فقط على تلك الحياة التي عاشها الخطابي إلى آخر يوم في حياته، دون أن يفارقه الأمل في العودة يوما ما إلى المغرب.

بقيت هذه السيدة التي ولدت في المنفى وماتت في مصر، ولم تعرف من المغرب غير زيارات العطل الطويلة التي قضتها هنا مع أختها عائشة، وفية لذكرى والدها. إلى درجة أن أختها عائشة اتصلت بها مرة لتخبرها أنها تريد تصوير مقتنيات والدها التي جاءت بها من مصر، ومنها نظارته الطبية المكسورة، فرفعت رقية السماعة من القاهرة أكثر من مرة، لتؤكد على أختها عائشة أن تمسح النظارة جيدا من الغبار قبل عرضها على الكاميرا، وأوصتها أيضا بأن تمرر أداة تنظيف الملابس الصوفية على الجلباب الشهير الذي خاض به الخطابي معاركه ضد إسبانيا، والتي ما زالت تملكها عائشة الخطابي إلى اليوم، وتضعها بفخر في قلب بيتها.

صورة بسيطة، تلخص حياة رقية الخطابي، وما كانت عليه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى