الحياة المنسية لقُضاة عاشوا أزمات المغرب
جمعوا بين القضاء والمناصب الاستشارية بالقصور الملكية
بعضهم وصل صدى أسمائهم إلى الشرق، وجمعوا بين العلم والسياسة في تركيبة نادرة. ورغم الصعوبات التي عاشها أغلبهم، إلا أنهم استطاعوا الوصول إلى القمة، وأصبحوا مقربين من الملوك وتركوا وراءهم مؤلفات ومراسلات لا حصر لها.
لكن آخرين منهم لم يُكتب لهم أن يخلدوا ذكرهم وغادروا منسيين، ولم تضمن أسماؤهم، رغم أهميتهم، إلا في حواشي بعض المؤلفات التاريخية.
هؤلاء العلماء، وُلدوا في ظروف صعبة، ومروا بامتحانات أكثر صعوبة اختبرت صبرهم وذكاءهم أيضا.
منهم من دخل «دار المخزن»، ومنهم من وُلد في قلبها، وغادرها مطأطأ الرأس.. اختلفوا في نقاط كثيرة، واجتمعوا في أخرى، وبصموا على مسارات استثنائية من تاريخ المغرب.
يونس جنوحي :
++++++++++++++++
القاضي سكيرج.. الأديب الذي «سرقه» القضاء
القاضي المعروف أيضا بالشيخ، أحمد سكيرج فتح عينيه في سياق سياسي عصيب. إذ إنه وُلد سنة 1877، وهي الفترة السياسية التي كانت امتحانا كبيرا لقضاة وعلماء كبار عاشوا بدورهم في فاس.
التحاق أحمد سكيرج بالقرويين كان أمرا متوقعا، بحكم أنه رأى النور في منزل معروف بالعلم، إلا أنه بصم على مسار جعله يصبح أحد أهم علماء القرن العشرين، رغم أنه لم ينل العناية التي يستحق، بعد وفاته.
تحدث عنه مؤرخ المملكة عبد الهادي التازي، في تقديم كتاب تناول رسائل هذا القاضي إلى مجموعة من القضاة والعلماء الذين عاصروه، حيث أقام ما بين فاس وطنجة وسطات، بحكم المناصب التي شغلها، ثم انتقل إلى مراكش التي أقام بها إلى حدود سنة 1944، تاريخ وفاته.
يتحدث عنه عبد الهادي التازي قائلا:
«(..) أحمد بن الحاج العياشي سكيرج الذي ألف أكثر من مائة كتاب ما بين كبير وصغير، وفي شتى أنواع المعرفة، وكان فيها ما استحق أن يترجم بالجزائر إلى اللغة الفرنسية منذ مطلع هذا القرن الذي نعيشه. وكان من بينها الرحلات المتعددة التي كان مولعا بتسجيلها بقلمه، سواء فيها ما كان إلى الديار الحجازية أو الأراضي الفرنسية. هذا العالم الجليل أذكر أنني كنت ألقاه بالرباط في بيت أستاذنا العلامة سيدي المدني بن الحسني، على نحو ما اجتمع به كذلك في مجلس أستاذنا الجليل السيد الحاج محمد الصبيحي بسلا، كنت وقتها لا أملك الحق في أن أشارك مثل هؤلاء المشايخ في الحديث الذي كان يروج في ما بينهم، وخاصة عندما يتعلق الأمر بالأحاديث الشخصية التي كانت تجري بطريقة المعميات، إن صح هذا التعبير. ومع ذلك كنت أشعر بأن الرجل يحمل معه بضاعة ثقيلة من خلال ما يتحدث به من أخبار وأسرار. وزادني تعرفا عليه، العم السيد الحاج أحمد التازي الذي كان كمعظم أفراد الأسرة ينتسب إلى الطريقة التيجانية انتسابا مغرقا. إلى جانب أنه كان من العاملين بسخاء في الحقل الوطني، والمساعدين البارزين في بناء مؤسسة محمد جسوس، التي كان يديرها الأستاذ الحاج أحمد بلافريج رحم الله الجميع، ذلك الرجل المغمور لا يمكن أن يعرف المرء حجمه وسعة اطلاعه، إلا بالاطلاع على ما حبره قلمه السيال، وما استطاعت ذاكرته أن تختزنه من فنون القول في مختلف الوظائف التي شغلها في مختلف جهات المغرب، وفي شتى المهمات التي تقلدها أصالة أو مع آخرين. إن من واجب المغاربة أن يتعرفوا على هذه الظاهرة التي نسميها القاضي سكيرج، الذي كان يجد من الوقت ما ألف فيه هذا العدد العديد من الكتب والرسائل والفتاوى والقصائد، مما وجدت أصداءه في الإجازة العلمية التي سلمها إياه علامة فاس الشيخ العباس التازي. ولقد اختارتني الصدفة أن أهتم برحلته المكية التي تمت أثناء الحرب العالمية الأولى، وبالضبط سنة 1916م، عند اقتراح رئيس الجمهورية الفرنسية على السلطان مولاي يوسف أن يرسل بعثة سياسية إلى الحجاز، لتهنئة الشريف حسين بن علي بانتصاره على العثمانيين، أعداء فرنسا آنذاك. لقد وقع الاختيار على القاضي سكيرج الذي راح صحبته السيد عبد القادر بن غبريط، أولا للقيام بهذه المجاملة، وثانيا لأجل مفاتحة الشريف حسين في شأن إنشاء وقف مغربي هناك، حيث وجدنا القاضي يحمل معه رسالتين اثنتين، الأولى من جلالة السلطان، والثانية من وزيره في العدل الشيخ شعيب الدكالي، مع هذه الرحلة الممتعة عشت ومع أصدائها في الأرشيف العسكري الفرنسي في CHATEAU DE VINCENNE، حيث تعرفت على بقية أعضاء الوفد من الجزائر وتونس والسينغال. كان أبو العباس سكيرج رائعا في ما يحكيه ويرويه عمن اجتمع بهم في تلك الديار من العلماء والمنتقدين والزائرين، أمثال الشيخ رضا رحمه الله».
مدرسة الصفارين.. العلبة السوداء للقضاة والعلماء المنسيين
لم تكن هذه المدرسة مجرد بناية يأتي إليها أبناء الأسر التي كانت ترغب في أن يصل أبناؤها إلى أعلى المناصب المخزنية وحسب، بل كانت بحد ذاتها «إرثا فاسيا» كبيرا، بحكم أن أبناء الأسر الشريفة مروا من أروقتها، قبل أن يلجوا عالم المناصب المخزنية.
أحد أبرز من درسوا في مدرسة الصفارين، هو شيخ الإسلام محمد بن العربي العلوي، الذي يُعتبر أحد كبار مؤسسي الحركة الوطنية المغربية والأب الروحي لعدد من الوطنيين. حتى أن هناك من يزعم أن شيخ الإسلام العربي العلوي أستاذ كل من علال الفاسي ومحمد بن الحسن الوزاني. ولم ينكر أحد هذا التوصيف الذي يكشف المكانة الكبيرة التي حظي بها شيخ الإسلام قيد حياته.
ورغم أنه وُلد سنة 1898، أي بعد أن طوى المغرب مرحلة سابقة من الحكم في فاس، وشهدت صراعا ضاريا في فاس، إلا أن شيخ الإسلام كان من الجيل الأول للعلماء وكبار الشخصيات التي تربت في فاس بعيدا عن أجواء السلطة، التي انتقلت إلى الرباط وهو طفل فتح عينيه على بداية دخول الحماية الفرنسية إلى المغرب.
كانت الأجواء إذن في مدرسة الصفارين محتدمة، بسبب الصراع السياسي، وتباين مواقف العلماء من التطورات التي عرفها المغرب في ذلك الوقت.
جاء محمد بن العربي العلوي إلى مدرسة الصفارين قادما إليها من منطقة واحات تافيلالت، التي شهدت أراضيها، قبل قرون خلت، انطلاق الدولة العلوية، وبالضبط من منطقة «مدغرة». ولم تكن الدراسة في الصفارين سهلة، فقد رافقه والده إلى فاس للاستقرار بها. ولم يكن هذا شأن محمد بن العربي العلوي وحده، وإنما كانت أسر كثيرة تأتي بأبنائها إلى الصفارين للدراسة، بقصد الالتحاق بالقرويين وضمان مقعد في الصف الأول لنخبة المغرب في ذلك الوقت.
أحد أبرز الأسماء التي مرت من مدرسة «الصفارين» هو العالم المغربي الذي عينه المولى يوسف قاضيا، ومات أثناء رحلة إلى الحج سنة 1918، وعمره لم يكد يتجاوز الأربعين، وهو العالم المغربي مصطفى بن العربي السماط.
هذا الأخير، الذي ذُكر في سيرته أنه درس في مدرسة الصفارين بفاس، كان والده رجلا بسيطا، ولم يكن ينتمي إلى أسرة علمية كبيرة شأن علماء آخرين جايلوه، لكنه استطاع الوصول إلى محيط المولى يوسف وعُين في القصر الملكي بفاس موظفا، ولم يلتحق بالرباط، رغم إغراءات السلطة، وفضل أن يبقى في فاس، وكان يُقيم حلقات علمية في أحد مساجد المدينة، كما أنه درّس في مدرسة الصفارين، بعد أن كان تلميذا بها. سيرة هذا العالم المغربي الذي خطفه الموت مبكرا، كانت ربما لتشهد منحى آخر، لو أنه بصم على مسار في القضاء أو في المناصب الكبرى، وقد ذكر اسمه في بعض المراجع التي جمعت أعلام مدينة فاس في القرنين التاسع عشر والعشرين باقتضاب، بحكم أن مسيرته العلمية القصيرة لم يُكتب لها أن تمتد.
++++++++++++++++++++++++++
المولى إسماعيل واليوسي والخرشي.. أشهر علاقة في التاريخ بين السلطان والقاضي
رغم أن المولى إسماعيل الذي حكم المغرب ما بين سنتي 1672 و1727 في واحدة من أكثر الفترات التاريخية حساسية، اشتهر بحزمه الكبير في التعامل مع أبنائه قبل وزرائه، إلا أن التاريخ يشهد له أيضا أنه كان شديد التواضع أمام العلماء الكبار، أمثال العالم اليوسي.
العلاقة بين الرجلين كانت مضرب المثل على مر التاريخ، حتى أن هناك مراجع تاريخية جمعت المراسلات التي تبادلها العالِم اليوسي مع المولى إسماعيل، والتي كان أغلبها نصائح في السلطة ومناقشات في السياسة والدين. وقد تعرض اليوسي لمكائد قادها ضده مجموعة من القضاة والسياسيين المحيطين بالسلطان المولى إسماعيل، حتى أن بعض مستشاري السلطان حاولوا تسميم العلاقة بين الرجلين.
ينضاف إليه أيضا العالم الخرشي، الذي قيل، في الفترة التي عزل فيها المولى إسماعيل مجموعة من القضاة، إن السماء أمطرت بزخات بحجم الرمان!
وهناك مراسلات تؤرخ لهذه الواقعة. في السنة نفسها التي بعث فيها المولى إسماعيل بالرد إلى الإمام الخرشي، قام برج الأرض التي يقف عليها العلماء والقضاة، وأحدث زلزالا عنيفا تساقطت على إثره أسماء كثيرة أشهرها القاضي البوعناني، ووضع مكانه فقيها اسمه الفيلالي، عرف اسمه في ما بعد كواحد من أشهر الذين أشرفوا على القضاء في فاس ذلك الوقت. وفي أواخر شهر رمضان من السنة ذاتها، ستنزل بالمغرب كارثة فلاحية حقيقية، أودت بالمحاصيل الزراعية. وهذا الحادث مذكور في التاريخ الرسمي، في كتاب تاريخ الدولة السعيدة، مما يضفي عليه كثيرا من المصداقية ويبعده عن الإشاعات التي تناسلت حول المولى إسماعيل وعلاقة سياسته بغضب السماء: «في ثامن عشر رمضان من العام، كان رعد أصاب سيله بعض الزرع، فيقال نزل معه حبات وحجارة مثل الرمان في باطنها دم».
تجدر الإشارة إلى أنه سبق في «الأخبار» أن خصصنا ملفا خاصا بمضمون الرسائل المثيرة بين السلطان المولى إسماعيل والعالم الكبير اليوسي، وذكرت فيها أسماء علماء آخرين، وسياق تعيين بعضهم وعزل آخرين.
عندما توفي العالم الإمام الخرشي، في مصر، ولم تتطرق الرسائل إلى سبب أو سياق زيارته إليها، وهو ما يرجح أن تكون الرحلة بهدف زيارة الأزهر الشريف، والمرجح أيضا أنه كان متوجها إلى الحج في السنة التي تلت توصله برسالة المولى إسماعيل، ولم يفصل بينه وبين وفاة العالم المشهور الحسن اليوسي إلا شهر فقط، وكلا الاسمين شكل رحيلهما فراغا كبيرا في ساحة الأسماء التي اشتهرت بالعلم والتأليف وعلاقتها المتينة بالمولى إسماعيل. وفي السنة نفسها، بعد أقل من شهرين، قاد المولى إسماعيل حربا ضروسا ضد قبيلة «العكاكرة»، وقتل جنوده العشرات من رجالها، رغم أنها كانت قبيلة صغيرة جدا.
هذان الاسمان شكلا معا نواة لأبرز العلماء الذين جمعوا بين الزهد في المناصب المخزنية، وبين الحظوة الكبيرة لدى السلطان. ورغم أن بعض الكتابات المنسوبة لمؤرخين وعلماء عاشوا في فترة المولى إسماعيل، حاولت النيل منهما باعتبار أن نصائحهما – خصوصا نصائح اليوسي للمولى إسماعيل- كان فيها نوع من التحريض على انقلابات وحملات تطهيرية راح ضحيتها بعض المتنافسين على السلطة، إلا أنهما معا دخلا التاريخ من أوسع أبوابه، عندما تفرغا للعلم ورفضا إغراء المناصب.
رسالة من المولى إسماعيل لابنه تصف أجواء «الصراع» على السلطة
رسائل المولى إسماعيل إلى ابنه المأمون كانت دائما محط اهتمام الباحثين، لأنها توثيق قوي لأجواء السياسة والحكم في المغرب، خلال فترة سياسية مبكرة جدا. ورغم أن أبناء السلطان تنافسوا في ما بينهم على الحكم مباشرة بعد وفاته سنة 1727، إلا أنهم كانوا خريجي مدرسة سياسية قوية، خصوصا أن المولى إسماعيل ترك في محيطه ثلة من العلماء الكبار الذين ساهموا في إضفاء نوع من الاستقرار السياسي لاحقا، عندما دعموا أحق أبنائه بالعرش على اعتبار المكانة العلمية أولا، ثم القرب من السلطان بالدرجة الثانية.
وهنا نورد نموذجا، مما جمعه المؤرخون حول علاقة المولى إسماعيل بأبنائه، سيما المأمون. جاء في رسالة المولى إسماعيل ما يلي: «وليسَتْ هذِهِ بأَوَّلِ وصيَّةٍ أَوْصَيْتُكَ بها، ولا أَوَّلَ مخاطبةٍ خاطبناك بها وبأكثَرَ منْهَا، وحالتُكَ الأولى هي حالتُكَ الآن من غير زيادةٍ ولا نقصانٍ، اللهم إنَّا قد آثرنَاكَ وعَمِلْنَا لك من الخيرِ ما عمِلَهُ اللَّهُ لَكَ، فلم تعمَلْ بمكَافَاتِهِ، ولم تُقَدِّرْ قَدْرَهُ، ولا كيْفَ تَتَلَقَّاهُ، ولا من أين تبدَأُهُ، ولا من أين تختمهُ، ولاَ مَرَّحْتَنَا عنْهُ بضبْطِ مسألةٍ، ولا عندَكَ عليهِ حجَّةٌ تحتَجُّ بهَا، ولا فائدةٌ واحدةٌ مفردةٌ تُدْلِي فيهَا وبهَا، لا ظاهرة ولا باطنة، والمخزَنُ لاَ يُأْمَنُ عَطَبُهُ، ولا يَسْلَمُ مِنْ غضبِهِ ولدُهُ وصديقُه إِنْ كانَ لَكَ، ولا يصبِرُ للَّذِي يكونُ مَعَهُ على حَالتِكَ، وَإِنْ صَبَرَ له يوماً لا يَصْبِرُ له شهراً، أَوْ رُبَّمَا يحْضَى عندَ الملوكِ مِنْ أهلِ هذِهِ الخطَّةِ الدينيةِ أَعْدَى أَعَادِيهِ إِنْ كانَ معَهُ فهْمٌ وتيقظٌ ونهوضٌ لِمَا أُرِيدَ مِنْهُ، فِطْرَةُ اللهِ التي فَطَرَ النَّاسَ عليهَا، لا تبديلَ لخلق الله، ولن تجد لسنَّةِ الله تبديلاً، وهذِهِ البراواتُ كنَّا نريد أن نكاتبَكَ بهَا مِنْ قَبْلِ هذا، وأحوجتنَا إليها من كُلِّ وجهٍ، والآنَ وقفت على السَّبَبِ، وعملتَ لنَا ما اقتضَاهُ الحالُ أَنْ نُخَاطِبَكَ بِهَا».
ليس هذا فحسب، بل هناك رسائل مضامينها أقوى بكثير من مضمون الرسالة أعلاه، وتصف بدقة أجواء الصراع بين العلماء، وهو الصراع الذي وصل إلى التأثير أيضا على أبناء المولى إسماعيل الذين كانوا يمثلون السلطان في مختلف الأقاليم، خصوصا وأن المأمون قد خلف والده في مهمة في الصحراء، وكان عليه أن يتعامل مع علمائها وأعيانها، وهو ما جعله في قلب المنافسة بين بعض العلماء الذين أرادوا فعلا التقرب من المولى إسماعيل، فورطوا الابن في نقل معلومات مغلوطة إلى القصر، وهو ما جعل المولى إسماعيل يتدخل بحزم لتصحيح الوضع وتنبيه ابنه إلى مكائد العلماء الذين زودوه بتلك المعلومات.
هذه المعلومات كانت تتعلق بأوضاع بعض القبائل التي قيل وقتها إنها خرجت ضد المولى إسماعيل، في حين أنها لم تكن كذلك.
عندما أطاح الخياطون بالعلماء
بعض هذه الروايات قد تتخللها مبالغات، لكنها – أي الروايات- تنقل على الأقل بعض أجواء محيط القصور الملكية في فترات سابقة من تاريخ المغرب، وبالضبط خلال القرن الثامن عشر.
كان الدبلوماسيون البريطانيون، حسب مراجع تخصصت في تاريخ العلاقات المغربية البريطانية، أحد أوائل من كتبوا عن القصر الملكي المغربي، ونقلوا أجواء استقبالهم من طرف السلاطين، في فترات مختلفة، ما بين مرحلة حكم المولى عبد الرحمن، ثم مع ابنه محمد الرابع، وصولا إلى المولى الحسن الأول الذي استمر في الحكم إلى حدود سنة 1894.
هؤلاء الدبلوماسيون الذين جاؤوا إلى المغرب في إطار مهام دبلوماسية، نقلوا كيف أن موظفي القصر كانوا يتحكمون في رقاب بقية من يريدون لقاء السلطان للبت معه في شؤون الدولة، وقد حضر بعض هؤلاء الأجانب في قلب المعارك الضارية في إطار صراع محيط القصر على السلطة. وكان من بين هؤلاء المتصارعين علماء ألفوا كتبا في الفقه والتاريخ والأدب، والسياسة أيضا.
وهؤلاء العلماء، الذين كان أغلبهم يُدرسون في القرويين، لم يكونوا يتورعون في الدخول في معارك سياسية مع منافسيهم، خصوصا على المناصب المخزنية، مقابل الفوز بحظوة داخل البلاط.
بعض هؤلاء العلماء ورثوا مناصبهم حتى بعد تغير السلاطين، سيما في عهد المولى عبد الرحمن.
وفي عهد المولى الحسن الأول، كان هناك علماء آخرون ممن واجهوا الدخول الأجنبي إلى المغرب، خصوصا في سنة 1880، عندما كثر الدبلوماسيون الأجانب على أبواب القصر الملكي، وهو ما جعل السلطان الحسن الأول يرفض استقبال قناصلة ووفود، عملا برأي علمائه المقربين.
واتضح لاحقا أن تلك السياسة لم تكن مجدية، وهو ما جعل المغرب يعرف نوعا من الانفتاح، ويُسمح لاحقا باستقبال الأجانب في القصر الملكي بفاس، والاستماع إلى اقتراحاتهم بشأن الصداقات مع المغرب، سيما مع الإيطاليين الذين أبرم معهم المغرب عددا من الاتفاقيات.
وبسبب دخول الأجانب إلى محيط القصور، خصوصا عندما تعين القائد ماكلين، الأسكتلندي الجنسية، مستشارا عسكريا في القصر، بعد وفاة المولى الحسن الأول ومجيء ابنه المولى عبد العزيز، أصبحت بعض الوجوه تحظى بمكانة كبيرة، أثرت على مكانة العلماء. حتى أن أحد الخياطين، وكان اسمه «ماكسيم»، كان نافذا إلى درجة أنه انتقم لبعض أصدقائه من علماء بعينهم، وتسبب في تأليب مستشاري السلطان ضدهم، وأصبحوا خارج القصر الملكي، رغم أنهم علماء في جامع القرويين، وراكموا تجربة سياسية مهمة عندما كانوا مستشارين لدى المولى الحسن الأول.
بعض هؤلاء العلماء كانت لديهم مواقف متطرفة من الأجانب، وهو ما جعل الخياط «ماكسيم» ينتقم منهم بنقل مواقفهم التي أعلنوا عنها في جلساتهم، وأمام طلبتهم في حلقات القرويين، إلى مسامع الوزير المنبهي، كبير وزراء ومستشاري السلطان، ليعصف بهم في أول انقلاب سياسي في عهد المولى عبد العزيز.
وأحد هؤلاء الذين عُصف بهم، هو القاضي الكبير الدربالي الذي ورث عن والده، الذي كان بدوره قاضيا أيام المولى الحسن الأول، وبلغ نفوذه درجة أنه درّس الأمراء أبناء المولى الحسن الأول، مؤلفات نفيسة في الفقه والقضاء، لكنها جميعا لم تشفع له عندما انتهت أيامه في السلطة، بسبب المكائد.
الباشا السرّاج.. مهندس إقالة العلماء الذي انتهى مغضوبا عليه
الذين يعرفون اسم الباشا إدريس السراج، يُدركون إلى أي حد كان هذا الموظف المخزني نافذا أيام المولى الحسن الأول الذي حكم المغرب ما بين سنتي 1873 و1894، حتى أن بعض المراجع الأجنبية أشارت إليه بالاسم وذكرت أنه كان مهندسا لعدد كبير من التعيينات المخزنية، وأنه أيضا كان وراء عزل بعض القضاة.
بعض الروايات الأخرى اشتبهت في أن يكون السراج رجل علم بدوره، وأنه خريج جامع القرويين، إلا أن هذه الرواية الأخيرة تبقى غير مسنودة، خصوصا أن هذا الباشا النافذ لم يترك مؤلفات تدل على خلفيته العلمية، وكل ما خلفه وراءه كان مجموعة من الانتقادات التي طالت اسمه، بحكم أنه كان وراء نهاية مسار علماء كبار في سلك القضاء، وتعويضهم بآخرين كانوا من التيار المخزني الذي كان يدافع عنه.
أيام المولى الحسن الأول، طالب الناس بسجن الباشا السراج، لأنه كان وراء إبعاد أحد علماء القرويين عن الخطابة، وهو العالم الكبير الحاج أحمد الدرقاوي الذي كان يحظى بمكانة كبيرة لدى المولى الحسن الأول.
كان الباشا السراج ينحدر من عائلة لم تكن ضليعة بما يكفي لتختبر قساوة ظروف السلطة، فقد كان السراج حديث عهد بالمخزن، ولم يكن يتوقع أن ينتهي، رغم أنه كان مدعوما من رجال الحسن الأول، ومن الصدر الأعظم باحماد على وجه الخصوص. حتى أن باحماد قال له مرة: «اسمع. أنت الآن مكلف من طرف سيدنا لتكون باشا على فاس. يجب أن تسمع شكاوى الناس وألا تطيعهم. وعد إلينا في كل صغيرة وكبيرة للمشورة». هذا التوجيه من رجل خبير بمزاج المخزن وطقوسه لم يكن نابعا من فراغ. ورغم أن هذه الجملة لم تذكر في المراجع الرسمية، إلا أنها تبقى ممكنة الوقوع، لأنها تترجم واقعا تاريخيا لا ينكره أحد.
المشكلة أن السراج لم يسمع النصيحة، فقد طالب الغاضبون بسجنه، لأنه ببساطة لم يستقبلهم ولم يسمع شكاواهم التي بدأت بسيطة، لتنتهي مطالبة بسجنه، وكذلك كان.
فقد سجن الباشا السراج، وفر أبناؤه إلى قبيلة شرق فاس، كانت موطن أخوالهم، ليعيشوا بعيدا عن السلطة، ورغم أنه قد أفرج عنه، وعاد إلى تقلد مهام في المخزن، خصوصا في الأشهر الأخيرة من أيام المولى الحسن الأول، إلا أن مساره السياسي تضرر كثيرا، بسببين: وفاة باحماد الذي كان يدعمه كثيرا، والسبب الآخر أن ممتلكات كثيرة كانت تحت حوزته صودرت وانتقلت إلى ملكية الأوقاف، وهو ما أضعف وجوده في الساحة، لينتهي مريضا فوق فراش خشن، لم يكن يزوره أحد إلا بعض أقاربه، وبعض القدامى الذين يذكرون له تدخلات كثيرة لصالحهم أيام كان باشا العاصمة.
قصة الباشا السراج تشبه إلى حد كبير قصة بعض رجال المخزن الذين كانوا مدعومين من طرف الوزير القوي باحماد، والذين انتهت حياتهم السياسية في نفس يوم وفاته، وأحد هؤلاء هو الموظف المخزني الذي كان مشرفا على الأملاك المخزنية، وكان اسمه الحسن ذنيبة بن عمر. وهذا الأخير كانت أصوله تلعب دورا كبيرا في وصوله إلى منصبه المخزني، لأنه كان سليل أسرة تنحدر من قرية في نواحي تازة، اشتهر أبناؤها بالعمل في دواوين الموظفين المشرفين على وثائق الأحباس وأملاك الدولة في قصر فاس. لكن ما ميز الحسن بن عمر أنه تسلق الهرم قليلا، بحكم قربه من باحماد، ليسقط مباشرة بعد وفاته، وكان أحد الذين سجنهم المولى عبد العزيز مباشرة بعد وفاة باحماد، بعد أن كتب الوزير التازي للمولى عبد العزيز رسالة يشرح فيها تجاوزات الموظف بن عمر، واستغلاله لوثائق الأملاك المخزنية لتفويت الأراضي لبعض المخزنيين الذين كانوا بدورهم قريبين من باحماد. ولم يشفع انتماء هذا الأخير إلى قبيلة عرفت تاريخيا بخدمة المخزن، وقربها من كبار علماء الدولة العلوية، في أن يقيه من شر الإقالة.