الحياء العام.. قطعة ثوب ناسفة
تكررت حولنا منذ مدة غير يسيرة حالات ناشزة من «الوكالة» الفردية على الأخلاق الجمعية والحياء العام، وتأججت بحكم تواترها النقاشات لتستقر من جديد بين لباس المرأة وحدوده وشرعيته، وبين سطوته وقدرته على نسف سلطة الرجل على رغباته أو حيوانيته.. فالأمر على ما يبدو سيان.
في خضم هذا النقاش المكرور تبقى الازدواجية التي تطبع تدبير هذه المسألة، مربكة جدا، فما بين الدولة التي تنخرط في التزامات دولية واضحة كمصادقتها على اتفاقية «السيداو» التي تنص في أحد أوائل بنودها على حرية المرأة في اختيار لباسها وحياتها، وبين المجتمع الجاهل في عمومه الذي يعيد إلى الواجهة نقاش الشرع والحرام والمنكر ويأخذ المبادرة لإصلاحه، نجدنا مبتعدين جدا عن الأصل في تحديد المساحات الفردية لكل مواطن، والذي هو المشتركات الاجتماعية داخل الفضاء العام. واعتبارا لهذا، فإن ما نشهده اليوم من حوادث عرضية بسيطة – بدلالات قوية-، يؤرخ لمرحلة تميزها تدخلات سافرة للمواطنين العاديين وتطاول وقح على هيبة الدولة والمؤسسات والأجهزة وعلى الأفراد في جنوح مخيف نحو «السيبة» و«الفوضى» وتهديد المواطنين في أمنهم.
من جهة أخرى، وارتباطا بما يحدث، يبدو أن سؤال حرية المرأة لا يزال على المحك حتى في بعض تفاصيله كاللباس، خصوصا في مجتمع يربط إلى اليوم بين اللباس والأخلاق ويتجاوز تدريجيا طابعه المحافظ نحو آخر منغلق دخيل عليه. تاريخيا، وفي أنماط تربوية رائدة –كرونولوجيا- كتلك التي عرفتها بلاد اليونان، شكلت علاقة المجتمع باللباس أو بالأحرى بالعري، نقطة جديرة بالملاحظة مرتبطة أساسا بامتلاك «القوة»، ففي إسبارطة العسكرية كان تدريب النساء على العري في الأنشطة الفنية والرياضية ترتيبا استراتيجيا لـ«تخليصها» من كل المعوقات «المكتسبة» التي تفصلها عن الرجال وعلى رأسها الخجل والحياء، وذلك لضمان مجتمع قوي بكل مكوناته وجاهز للحرب.
في المجتمعات الأخرى مثل التي ننتمي إليها ارتبط اللباس أو العري بالسلطة على المرأة كجسد ثم كفرد منافس في الفضاء العام، وفي الوقت الذي أصبح الوجود الفعلي والمنتج للمرأة داخل المجتمع حقيقة تفقأ العين، يفاجئنا هذا المد التراجعي ليساوينا مع المجتمعات البدائية التي تنظر إلى جسم المرأة ولباسها كعبوة ناسفة للأخلاق والدين، فيما ما ينسف الأخلاق فعلا هو عجزنا عن تدبير بيولوجيتنا بشكل متحضر، وما ينسف الدين هو النفاق الذي يغلف سلوكنا ويجعلنا نرفع شعار: «احترموا رمضان» أو «راعينَ صيامنا أيتها النسوة».. كأن قداسة هذا الشهر لا تنسحب على ما تبقى من أشهر السنة أو كأن المرأة بعريها وسترها هي المسؤول عن يقين الرجل وعن قدرته على الإمساك عن شهواته، وبالتالي وجب أن تخفي معالمها ولمَ لا أن تختفي تماما من الفضاء العام. ما ينسف الدين هو هذه الإحراجات الدعوية التي تستهدف النساء في الشارع العام وتدعوهن إلى الاستحياء والتعفف، وتفرض عليهن احترام صيام الرجال الهش، هذا الحياء الأحادي ليس عادلا ولا فاضلا، فإذا لزم أن نكون مستحييات وجب أن تكونوا مالكين لأيوركم. ثبت الله صيامكم!