الحوار ضمن قانون الاختلاف
يمكن اختصار مشكلة الاختلاف في هذه القصة القصيرة لطالب في الصف الثاني نشأ في وسط (سني) فعندما رجع من المدرسة خشي أن يسأل المعلم عن نصين للتشهد لماذا اختلفا؟ سأل الطفل أمه التي يرتاح للتعامل معها: ما معنى أن يكون هناك نصان للتشهد؟ قالت له: يا ولدي هذا النص وأشارت إلى أحدهما هو على طريقة الإمام الأعظم أبو حنيفة وهو مذهبنا والنص الآخر للشافعي. سأل الطفل نفسه لاحقاً: ما الذي يفرق الحنفي عن الشافعي؟ وأيهما على الصواب؟ ثم ما الذي يفرق الصواب عن الخطأ؟ ومع نمو الطفل نما السؤال أكبر فبدأ يتخاطر على الشكل التالي: ما الذي يفرق صاحب المذاهب عن السلفي بغير مذهب؟ وما الذي يفرق السني عن الشيعي في الدين الواحد؟ ثم قفز السؤال عتبة جديدة: ما الذي يفرق المسلم عن المسيحي واليهودي والبوذي من الديانات الأخرى؟ بل ما الذي يفرق المؤمن عن الملحد؟ فهذه خمس طبقات من السؤال الذي بدأ بريئاً بسيطاً. وأتذكر أنا من طفولتي وجود أربعة مساجد على أربعة مذاهب في مدينة (عامودة) المجاورة لنا بحيث يذهب صاحب كل مذهب فيصلي في مسجده لا يتعداه. كما رأيت يوماً منظراً عجيباً في مسجد ضخم في حارة (الميدان) في دمشق عندما صلى الناس على وجبات حسب المذاهب ولم يصلوا معاً. والغريب أن هذا الغريب كان الناس يمارسونه أنه عين التقوى وقمة الورع. وروت لي سيدة كانت تعالج في مشفى كنسي في دمشق وهي طفلة وصادف ذلك أيام أعياد الميلاد فقرأت في وجه الراهبات الخشوع ورأت من لطف الراهبات في العناية بها ما جعلها تطرح السؤال التالي: لقد علمونا أن ديننا هو الأفضل ولعلهم يظنون بأنفسهم كما نظن بأنفسنا. وهو نفس السؤال الذي طرحته أم (مالك بن نبي) الذي استمر طبيب فرنسي يعالجها لفترة طويلة في بيتها. كانت العائلة تردد نفس السؤال عن مصير هذا الكافر؟ إنها تساؤلات ضخمة في اكتشاف جغرافية الآخر. ويكتب (تزفتيان تودوروف) من السوربون كتاباً كاملاً بعنوان (مسألة الآخر) كيف أن اجتياح العالم القديم سمي (اكتشاف أمريكا) وكانت زاخرة بشعوب متقدمة تعد بعشرات الملايين، شاهداً على مركزية أوربية وإقصاء كامل للآخر. وهذه التصدعات في العقائد والملل والنحل انتبه لها علماء المسلمين منذ القديم فرصدوا لها كتباً كاملة وكانوا أول من وضع علم (الأديان المقارن) مثل (الفَرق بين الفِرَق) للقرافي و(الملل والنحل) للشهرستاني. ويذهب الفيلسوف البريطاني (برتراند راسل) في كتابه (السلطان) أنه لو كان الأمر إليه لربَّى الطلبة على الفكر المقارن، وأحضر بنفسه كافة الناس من الفرق المتقابلة كي يتناظروا، ويطلع الأطفال على وجهات النظر المتباينة، ويتربى عقلهم على هذه المنهجية منذ نعومة أظفارهم فينشئوا النشأة الآخرة. ومنذ القديم أشار الإمام (أبو حامد الغزالي) في كتابه (المنقذ من الضلال والموصل إلى ذي العزة والجلال) كيف رأى أن أبناء المسيحيين لا نشوء لهم إلا على التنصر، وأطفال اليهود ليس أمامهم سوى التهود، ولا ينشأ غلمان المسلمين إلا على الإسلام. يقول «فحنَّ قلبي إلى دين الفطرة الذي قال عنه (ص) كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو يمجِّسانه أو ينصرانه». هذه الخلافات بين البشر تمتاز بجدلية خاصة، فهي رحمة إذا تعامل الناس على أساس أنها حقيقة كونية فلم ينعزلوا عن بعض ولجؤوا إلى الحوار لاكتشاف كل فريق ما عند الآخر، ويتحول المجتمع إلى جحيم إذا تحولت المجموعات المختلفة إلى شرانق مغلقة منعزلة عن بعضها البعض تتغذى على الريبة والحقد وتنفجر على التطهير العرقي. وفي تركيا تمت إبادة مئات الآلاف من الأرمن تحت هذا الغطاء، كما تم قتل مئات الآلاف من المسلمين في البوسنة بالنار الصربية. وهناك من يقتل الشيعة في المساجد في باكستان وهم ركع سجد. الاختلاف جيد والتباين أصل في الوجود إذا جاء ضمن شروطه الذهبية. فالجبال جعلت جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود. ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك. إنما يخشى الله من عباده العلماء. والويل لذلك المجتمع المشظى بالطوائف والمحتقن بالأحقاد التاريخية. وينقل لنا التاريخ فظاعات مرعبة في اختلاف المذاهب واقتتال الطوائف، ففي فرنسا عاشت حمى المذابح الطائفية بين الكاثوليك والهوجنوت المنشقين بين عامي 1562 ـ 1594م، وغرقت ألمانيا في الدم في حروب الثلاثين سنة بين عامي 1618 ـ 1648، وفي بريطانيا استعرت الحروب الأهلية الدينية بين عامي 1642 ـ 1648م. إن في ذلك لآيات للمتوسمين. أما (حكم الدم) في عهد (كاترين ميدتشي) فقد جرى الاحتفال به في الساعة الثالثة من صباح 24 غشت في باريس من عام 1572م بمناسبة عيد القديس (بارتولوميو) حيث أعطى الملك (شارل) أوامره على الشكل التالي: «يجب أن تقتلوا جميع الهوجنوت في فرنسا حتى لا يبقى منهم أحد يلومني… اقتلوهم جميعاً! اقتلوهم جميعاً!».