الحمداوية.. تراث عالمي
حسن البصري
تقضي الفنانة الشعبية الحاجة الحمداوية أوقاتا عصيبة في غرفة العناية المركزة بمستشفى الشيخ زايد بالرباط، نخشى أن ترحل السيدة التي قضت أيامها وهي «مقابلة لبحر لا يرحل»، دون أن تكتب مذكراتها التي يتقاطع فيها الفني بالسياسي والرياضي.
لو تكلمت هذه السيدة مزابية الأصول وروت قصة حياتها لتغير مجرى التاريخ، فهي المرأة التي تحفظ في ذاكرتها الكثير من الأسرار «كونجلي»، لأنها عاصرت الحرب العالمية الثانية وعايشت استقلال المغرب وجالست منفذي الانقلابات وضحايا الزلازل، وتمايل على إيقاعاتها كبار اليساريين واليمينيين وتحول اللامنتمون إلى رخويات، وخلفها ركض صحافيون يعشقون الإثارة بحثا عن نصف «سكوب» منهم من قتلها وكتب بيان حقيقة في اليوم الموالي.
هي أكبر سنا من هيئة الأمم المتحدة ومن الاتحاد الإفريقي ومن جامعة الدول العربية ومن منظمة الصحة العالمية، وحين كانت في قمة لياقتها البدنية والفنية، غنت في حضرة أوفقير والدليمي وكبار القيادات العسكرية فتخلصوا من صرامتهم وأصبحوا كائنات طيعة للدف والوتر.
حين لمس الحسن الثاني وصول عداد الزمن لديها إلى أعلى الأرقام قرر إرسالها إلى الديار المقدسة لأداء مناسك الحج، ضمن البعثة الرسمية للمملكة، نالت صفة «الحاجة» وأصبحت مغنية بلاط من خلال مجموعة من الأغاني التي تشيد بالملك الحسن الثاني، مما جعلها أول مطربة تضع العيطة في خدمة النظام، وأول من جعل «الله ينصر سيدنا مولاي الحسن» خاتمة نمطية لكل الأغاني الشعبية، ولازمة لا يختتم السهر إلا بترديدها.
اعتقد الكثيرون أن صوتها سيتوقف عن الغناء وستصبح محترفة ابتهالات وسترمي الدف جانبا أو تبيعه في مزاد علني، لكن بعد فترة توقف حولتها إلى مواظبة على الصلوات الخمس وارتياد المساجد، شعرت رائدة العيطة أنها في أمس الحاجة لـ «هزة الكتف»، فقررت العودة إلى الميادين لشدة خوفها عن البحر من الرحيل. وبررت طلاقها من الزهد والتعبد بالوضعية الاجتماعية المتردية والتي تفرض عليها إعالة أسرة تتكون من سبعة أفراد جلهم كانوا بدون مورد رزق. لذا لم تترد في القول: «باغا نتوب لكن الله غالب»، فمن الصعب استبدال البندير بالتسبيح.
ولأن الحمداوية عاشت في درب كرلوطي بنفس الزقاق الذي ولد فيه اللاعب الدولي السابق المرحوم مصطفى شكري، الملقب بـ «بيتشو»، فإنها لم تتردد في القول بأنها كانت مرضعة لعدد من أبناء درب كرلوطي، خاصة اللاعب «بيتشو»، الذي تؤكد بأنه ابنها بالرضاعة، ومن ثديها شرب حليب الإبداع لكن على رقعة الملعب.
من المفارقات العجيبة في حياة الحاجة الحمداوية أن عشقها للرجاء البيضاوي، باعتبار الانتماء لدرب السلطان وعلاقة الرضاعة، لم يجر عليها غضب الوداديين، بل إن الصدف الماكرة شاءت أن يكون المدرب الودادي السابق عبد الرحمن بلمحجوب، من مستمعي إذاعة طنجة، وفي إحدى الحلقات استضاف خالد مشبال الحاجة الحمداوية، التي تحدثت عن وضعيتها الاجتماعية المزرية وتهديدها من مالك الشقة بطردها من البيت حين كانت تقطن مدينة طنجة، وكيف خنقها بمهلة يومين فقط لتسديد واجب الكراء المتراكم عليها. أنصت اللاعب الدولي السابق لمأساة ظلت مصادرة في دواخلها، فقرر الانتقال إلى مدينة طنجة على وجه السرعة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، حدد موعدا مع مشبال وتوجها معا إلى مسكنها في شارع المقاومة بطنحة وتمت تصفية الديون بفضل نداء على أثير الإذاعة. منذ ذلك الحين قررت الحمداوية مغادرة طنجة التي أقامت فيها سنوات، وعادت إلى الدار البيضاء وهي تؤمن بأن الفرج آت، فغنت له «دابا يجي يا لكبيدة دابا يجي».
ولأن الحمداوية كانت محشوة برصيد من التفاؤل، فإنه كلما سقطت حاولت الوقوف مرة أخرى، فالقادم لديها دائما هو الأفضل، و«إذا خيابت دابا تزيان»، بل إنه وعلى امتداد مسارها ظلت تمارس هوايتها المفضلة، القفز نحو ضفة الترف والجاه لفترة غير محددة ثم تعود إلى منطلقها وتتوقف طويلا في ضفة الخصاص.
في حكاية هذه الفنانة تجسيد لمقطع لطالما توقفت عنده وهي تعيده مرات ومرات «شي عطاتو وشي زواتو».