انتشرت، أخيرا، مقاطع فيديو يظهر فيها أفق شاطئ فلوريدا الأمريكية بشكل مثير للدهشة، حيث تظهر للناظر بنايات وأسوار ومدن بل وقلاع مشيدة، في نقطة التقاء السماء بالبحر. تدعى هذه الظاهرة بالسراب البصري، أو تحديدا بـ fata morgana وهو مصطلح إيطالي الأصل يستخدم لوصف مشاهد السراب الشديد.
يبدو أن التهيؤات البصرية سافرت من ضفاف المحيط الهندي إلى أعالي جبال الأطلس، حيث أكد العديد من المواطنين أنهم شاهدوا أسد أجلموس، الشهير بأسد الأطلس، وهو يتجول بينهم، خاصة بعد انتشار شائعات تروج لهجوم ملك الغاب على إحدى راعيات الماعز بإقليم خنيفرة، الأمر الذي تبين لاحقا أنه مجرد سراب فيسبوكي خادع.
فهل انتاب الشوق وتملك الحنين قلوب المغاربة إلى رمزهم الوطني والفلكلوري العتيد، حتى يتراءى لهم خياله بين الجبال؟ وهل بانقراض أسد الأطلس تكون انقرضت معه العديد من القيم المغربية الأصيلة، من قبيل الشجاعة والتفرد والولاء التام للأرض الأمازيغية؟
لقد ظل السبع المغربي وفيا لجباله، مدافعا عنها، تماما مثل شجرة الأركان، التي لا تنبت جذورها سوى في أعماق أرض سوس. إن رمزية انقراض الأسد الأطلسي تحيلنا على أزمة التدهور الأخلاقي المقلق التي سيطرت على ضمير المغاربة. معظمنا فقد البوصلة الأخلاقية التي كانت، إلى وقت قريب، فاصلا بين الحق والباطل.
نلاحظ، مثالا على ذلك، انقراض روح التمغرابيت لدى العديد من المغاربة، وعلى رأسهم المسؤولون الحكوميون، الذين اختاروا خدمة المصالح الشخصية الضيقة، عوض الوفاء للقسم المؤدى لخدمة الوطن. أو ذاك المعلم الذي يصر بتعنت على المساومة بمستقبل التلميذ مقابل تحصيل مكاسب مادية خالصة، أو المواطن الذي يلح على دفع الرشوة مقابل الحصول على حقوقه القانونية التي يكفلها الدستور، أو المشرع الذي يتماطل في الدفع نحو تغيير قوانين قروسطية مجحفة في حق النساء. وغيرها من سلوكيات ملتوية تعكس الأزمة الأخلاقية الخطيرة التي انزلق نحوها الضمير المغربي. فهل يعيش المغاربة، اليوم، في سراب يجعلهم يشيحون النظر عن الحقيقة مقابل الانغماس في الوهم؟ هل نحن واعون بالأزمات الاقتصادية والغليان السياسي والاحتقان الاجتماعي الذي نعيشه اليوم؟ لماذا يتم التركيز والترويج للتفاهة عوض العمل على توعية العقل الجمعي المغربي بالمخاطر المحدقة به، والاشتغال على تطوير ميكانيزمات المواجهة الشعبية الواعية والهادئة، للتهديدات الخارجية والداخلية التي أصبحت تحاصرنا من كل اتجاه؟ لماذا يهتم المغاربة، مثلا، بدخول مطربة إلى السجن من عدمه؟ قد يقول قائل إن الهالة الإعلامية، التي صاحبت فضيحة الابتزاز المونبيبية، أثارت قلقا لدى المواطن العادي الذي يطالب بتطبيق القانون على المرفحين أولا. وهو قلق مشروع، غير أن الهيستيريا الجماهيرية التي تحيط بمثل هذه الملفات، التي تظل من اختصاص القضاء وحده، محض عبث وتفاهة.
هل يبذل المغاربة نفس الجهد والطاقة في الحديث عن أزمة الماء التي أضحت تشد خناقها على رقابنا عاما بعد عام؟ هل نحن مدركون لخطورة الانخفاض المقلق لمنسوب مياه السدود في السنوات الأخيرة؟ هل نحن واعون بشبح قلة الموارد الغذائية الذي يجتاح العالم اليوم؟ ألا يستحق أمننا الغذائي والمائي وقفة تأملية جماعية للمستقبل المجهول الذي ينتظرنا في زاوية التاريخ؟
هل يدرك المغاربة حقيقة الجريمة البشعة التي راح ضحيتها مئات الآلاف من التلاميذ، حين تم حرمانهم لثلاثة أشهر متتالية من حقهم الطبيعي والدستوري في التعلم؟ وما سيترتب على هذا الحرمان من نتائج سلبية ستساهم في تدهور أداء المدرسة المغربية؟ لماذا لا يطرح المغاربة أسئلة جادة حول الارتفاع المهول لمعدلات الطلاق للشقاق؟ وما حقيقة التحولات الاجتماعية والفكرية والدينية التي طرأت فجأة على عقول النساء المغربيات، وأصبحت تدفع بهن نحو الفرار من دار العرس؟ هل نحن أمام أجيال مستقبلية من الأمهات العازبات المستقلات ماديا؟ وهل يشكل ميل ميزان القوى لصالح النساء خطرا على مفهوم الأسرة النووية المغربية؟ لماذا تراجع دور السلطة الأبوية الإيجابية مقابل السيطرة التامة لسلطة الزوجة/الأم؟ وهل نحن قادرون على التعايش مع موديل أسري وتربوي هجين، يكرس لانقراض الأب كرمز ديني وأخلاقي، تماما كما انقرض أسد الأطلس؟ لقد أصبحت الأسئلة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الراهنة عبارة عن كوابيس تطارد المغاربة.
فهل نحن فعلا مغيبون عن الفهم بفعل فاعل، أم نتظاهر بـ«الدوخة» تفاديا لصداع الراس؟ إن الانشغال بالقضايا الحيوية للشعوب يجرنا إلى التفاعل عبر مواقع التواصل الاجتماعي، هذا التفاعل الذي يتطلب قدرا من الوعي، الذي يتطلب بدوره أدوات للتفكير والتحليل النقدي، الأمر الذي يؤدي بنا إلى الفهم. هذا الأخير الذي يظل من المحرمات والطابوهات التي تجرجر صاحبها في ردهات المحاكم وتنكل به في زنازين السجون.
لذا يذكرنا المثل المغربي الحكيم، دائما، بأن «ما فالهم غير لي كيفهم». إذ يبدو أن المواطن المغربي فهم الدرس جيدا، ونأى بنفسه عن الخوض في ما لا يعنيه، واكتفى بالتساؤل عن نوع «البونج» المستعمل لشد حنجرة مطربات الدوري الخليجي.
وختاما يجب التنويه إلى أن كل الأسئلة الملحة المطروحة أعلاه كانت محض سراب. المغاربة مانقصهم خير وإذا خيابت دابا تزيان.