سلسلة من النوابغ الذين ارتبطوا بتاريخ المغرب بصفة مباشرة أو غير مباشرة، تركوا أثرا مهما في شتى حقول المعرفة والفنون. رجال ونساء قديما وحديثا احتفظت بهم الذاكرة المغربية والإنسانية بأسمائهم وأعمالهم، للتذكير بهم أحيانا ونفض غبار النسيان عنهم أحيانا أخرى، ونفتح الباب عريضا من أجل الكشف عن أهم المحطات البارزة في مسار حياتهم.
يؤكد مسار حياة الحسن بن محمد الوزان أننا أمام رجل نابغة من عدة أوجه كثيرة، قادته الأقدار العجيبة إلى أن يعيش أطورا متقلبة ومتضاربة. زار من البلدان غربا وشرقا وجنوبا وشمالا ما لم يتأت لأحد في عصره. جالس الملوك والسلاطين وكرادلة الفاتيكان، واضطلع بمهام سياسية خطيرة وجسيمة بين الدول والبلدان… رجل يحمل اسمين وهويتين، فهو في بلده المغرب الحسن بن محمد الوزان الفاسي، وفي أوروبا، وإيطاليا تحديدا، يوحنا ليون الإفريقي. لكن أهم ما سيضعه في مصاف كبار الأعلام فسيبقى كتابه “وصف أفريقيا”، الذي جعل منه واحدا من أعظم الرحالة والمستكشفين ورائدا أول لكبار الجغرافيين، بل سيصبح بكثير من الجدارة مصدرا أساسيا عن إفريقيا طوال العصر الحديث.
بدايات ونبوغ مبكر
ولد الحسن بن محمد الوزان في مدينة غرناطة الأندلسية، قبيل سقوطها بسنوات قليلة، لجأ وهو طفل صحبة أسرته إلى مدينة فاس، حيث انطلق مساره العلمي والدبلوماسي. تعود أصول أسرته إلى قبيلة بني زيات الزناتية شمال المغرب. ظهرت ملامح النبوغ على الفتى الوزان بشكل مبكر، جعلت السلطان محمد الوطاسي الملقب بالبرتغالي، يضمه إلى رجال بلاطه ويكلفه بمهام سياسية ودبلوماسية في مناطق متعددة في المغرب، شمالا وجنوبا، وإلى الثغور المحتلة من قبل الإسبان والبرتغال. استفاد الوزان كثيرا في تكوين خبرته الجغرافية والدبلوماسية من مصاحبته لوالده، وهو ما زال صغيرا، في رحلاته بين مناطق المغرب بحكم أن والده كان مكلفا من قبل السلطان الوطاسي بجمع الضرائب في تلك الأنحاء، ما انعكس على حسه الجغرافي ومعرفته الدقيقة للأماكن والبلدان. ولن يكون مستبعدا أن يكون قد شرع منذ البداية في تسجيل ملاحظاته في مذكرات خاصة، واصل كتابتها في ما بعد خلال رحلاته الكبرى القادمة، وستكون هي الأساس الذي انبنى عليه كتابه المهم والضخم “وصف إفريقيا”.
الرحلات الكبرى
لعل أهم رحلات الوزان على الإطلاق كانت لبلاد السودان أو إفريقيا جنوب الصحراء سنة 1511م، رفقة عمه الذي كلفه السلطان محمد الوطاسي الملقب بالبرتغالي بسفارة إلى الملك سنغاي محمد أسكيا الكبير، جاب فيها عدة ممالك إفريقية، مملكة مالي والنيجر وغينيا، وتتبع مجرى نهر النيجر واصفا بدقة متناهية الطبيعة الجغرافية لهذه المناطق الإفريقية، وصحح عدة مغالطات ومزاعم الجغرافيين السابقين كما يقول عن حقيقة نهر النيجر وعلاقته بنهر النيل: “يشق أرض السودان نهر النيجر الذي يخرج من فلاة تدعى (ساوو)، نابعا من بحيرة عظيمة. وهو حسب الجغرافيين فرع من فروع النيل، يغيب تحت الأرض ثم يخرج منها ليكون هذه البحيرة. ويرى البعض أنه ينبع في جبال تقع إلى جهة الغرب، ثم يسيل نحو الشرق ليتحول إلى بحيرة، وهذا غير صحيح: فإننا سرنا في النهر شرقا من تمبكتو، واتبعنا مجرى المياه إلى مملكة غني (غينيا) ومملكة مالي، وكلتاهما واقعتان غربي تمبكتو. وأجمل أرض السودان ما امتد منها على طول مجرى النيجر. ويزعم الجغرافيون أن قسما من أرض السودان، الذي يشق النيل جزأه الغربي، يمتد شرقا إلى بحر الهند، ويصل شمالا في بعض النقاط إلى البحر الأحمر، في القسم الذي يقع من هذا البحر وراء المضيق (باب المندب) الفاصل بين هذه الأرض وبلاد اليمن. ولم يعتبر هذا القسم من إفريقيا لأسباب عديدة تكفلت الكتب المطولة بشرحها، ويسميه اللاتنيون إثيوبيا…” أو ما يؤكده في خاتمة كتابه: “… والحاصل أن ذلك ما شاهدته -أنا يوحنا ليون- مما هو جميل وجدير بالذكر في كل إفريقيا التي جبتها من جهة إلى أخرى. وقد أثبت بعناية يوما فيوما كل ما رأيته يستحق الذكر كما شاهدته. وما لم أشاهده أخبرني به من يوثق به إخبارا صحيحا كاملا. ثم رتبت هذه المذكرات بقدر استطاعتي، وألفت منها كتابا عندما كنت في روما في العام الميلادي 1526 في العاشر من مارس.
وهنا ينتهي كتاب يوحنا ليون الأندلسي المولد، المغربي النشأة”.
الوزان الأسير ولغز العودة
قام الوزان بعدة رحلات أخرى ومهام دبلوماسية سفيرا من قبل السلطان الوطاسي إلى السلطان العثماني، سليم الأول، وحضر حرب العثمانيين والمماليك التي انتهت باستيلاء العثمانيين على مصر وبلاد الشام. وأثناء عودته إلى بلاده، وقع أسيرا بين يدي قراصنة إيطاليين، بالقرب من جزيرة جربة التونسية. أدرك القراصنة أنهم أمام صيد ثمين لما تظهر على الوزان ملامح الوجاهة، فاهتدوا إلى فكرة إهداء الأسير المهم إلى البابا وحبر الكنيسة الأعظم ليون العاشر، الذي كان من بابوات عصر النهضة شديد الاهتمام بالعلوم والفنون. قرب البابا ليون العاشر الوزان منه، وأعجب بسعة علمه وإتقانه العديد من اللغات من قشتالية وعبرية، فضلا عن لغته الأم، فأمره بتعليم اللغة العربية لوجهاء مدينة روما وأساقفة الفاتيكان. وألف له الوزان كتاب “وصف إفريقيا” بالإيطالية، ما لاقى تقديرا كبيرا واهتماما منقطع النظير. لكن إلحاح البابا على الوزان بالتنصر، أثمر في النهاية بالإذعان والقبول وتعميده تحت اسم يوحنا ليون الإفريقي. اعتبر الكثير من الدارسين قصة تنصر الحسن الوزان موقفا دبلوماسيا منه خوفا على حياته، لكن بعد وفاة البابا ليون العاشر واستمرار الحظوة نفسها لدى الطبقة الأرستقراطية، لا نجد تفسيرا للغز اختفاء الوزان، هل عاد إلى تونس كما يذكر بعض الدارسين؟ أليس من الأولى أن يعود إلى فاس، موطن أهله ولهم فيها من المكانة والوجاهة؟ ولماذا لم تذكر المصادر الإيطالية شيئا عن هذه المرحلة وهو شخصية معروفة في أوساط روما العلمية والثقافية؟