شوف تشوف

الرأيالرئيسيةثقافة وفن

الحرب والمؤسسة الذكورية

 

 

 

بقلم: خالص جلبي

 

جاء في كتاب «في سبيل ارتقاء المرأة» للمفكر الفرنسي روجي غارودي، (الذي اعتنق الإسلام لاحقا مودعا الماركسية): «وهكذا تُفْهَمُ المؤسسة العسكرية أكثر المؤسسات تميزا في النظام الذكوري، التي تعتبر نموذجا لجميع المؤسسات الأخرى وتقوم على الطاعة غير المشروطة، وتنتزع من الإنسان بعده الإنساني الخاص، أي ذلك البعد المتسم بالاستقلال الواعي والمبادرة والمسؤولية، والذي بدونه لا يكون التجمع الإنساني الخاص، إن لجهة ابتكار أشكال جديدة للحياة، أو حتى لجهة الدفاع بالمعنى الحصري كالمقاومة أو حركات التحرير، التي لا يمكن تصورها بدون نظام مقبول، بحرية ومجازفة وتضحية يختارها الفرد، والجيش هو النموذج الأصلي المحتذى لجميع الأشكال الأخرى للتفويض واستلاب المسؤولية.

إن هذا الاختراع الذكوري المحض يقوض بمقتضى المبدأ نفسه الذي يقوم عليه كل إمكانية حقيقية للدفاع، أي الدفاع عن استقلال الشخص الإنساني ضد أي اقتحام خارجي، أو أي اضطهاد داخلي، والدولة ليست إلا تعميم الصلة العسكرية بين السيطرة وخنق استقلال الشخص الإنساني على جميع مظاهر التنظيم الاجتماعي الأخرى، ومركزية العنف العسكري هي نموذج لجميع أشكال المركزية الأخرى: الأبوية والبيروقراطية والإدارية والبوليسية، وحتى التربوية والثقافية، والتنظيم المدني الخانق للمجموعات الكبرى ليس إلا التغيير المدني للثكنة، شأنه في ذلك شأن الجامعة أو الكلية ذات الأصل (النابوليوني)، وهي كلها حسب فكرة مؤسسها تؤمن الموظفين والضباط، كما تؤمن – في غياب أية فكرة – لدى خلفائه التكنوقراطيين والبيروقراطيين، تلك هي النهاية المحتمة للثقافة التي لم تدرها إلا نصف الإنسانية فقط، أي النصف الذكوري». 

ويُقَيِّم المفكر الفرنسي المشهور «فولتير» ظاهرة الحرب على الشكل التالي: «ساعة أكلمكم ثمة مائة ألف مجنون يلبسون القبعات، يقتلون مائة ألف حيوان آخر في سبيل بضعة أكوام من الوحل العظيم …. ولا يتعلق الأمر إلا بأن نعرف أينتمون إلى رجل اسمه سلطان، أم إلى آخر ـ لا أدري لماذا ـ قيصر».

وتحت ظاهرة الطاعة والإذعان يحدث أمر عجيب، فتحت كلمة (أوامر= في العرف العسكري سلسلة الأوامر = CHAIN OF COMMAND) تهجم مجموعة مسلحة على أخرى لا تعرفها ولم تجتمع بها من قبل؛ فيفتكون ببعضهم بأشد من الذئاب، فقط لأن (الأوامر) جاءتهم. وبالمناسبة فلا تفعل الذئاب ذلك كما دلت على ذلك دراسات علم الأنثروبولوجيا عند الحيوانات؛ ومنها الدراسات التي قام بها العالم النمساوي الأنثروبولوجي «كونراد لورنتز» عن صراع الحيوانات عموما أنها لا تفتك ببعضها حين يصل الصراع إلى النهاية، وهكذا فالذئب المهزوم يستسلم في النهاية ويكشف عن عنقه للغالب (مذبحه!) فيعامله الذئب الغالب بكل شهامة، فبدل توجيه ضربة من فم مفتوح لعضه، يدفعه بفم مغلق علامة على نهاية الصراع. 

أما القتل على الأوامر وبدون أي رحمة، فقد علل به النازيون المجرمون في الحرب العالمية الثانية كل الجرائم التي قاموا بها

(كان علي تنفيذ الأوامر! كل ما فعلته تنفيذ الأوامر التي صدرت إلي، حاكموا من أصدر الأوامر). ومن ذلك أن المجرم النازي «هوس»، الذي كان يتولى عمليات الإبادة الجماعية في معسكر «أوشفيتز AUSSCWITZ»، والذي كشفت من قريب قرارات المحكمة الألمانية طرفا عن حجم المأساة فيه، أنه كان ينفذ الأوامر التي صدرت إليه من «هملر»، رئيس «الغيستابو GESTAPO»، ومن الغريب أن القاتل والمقتول في هذه المذبحة المروعة لو اجتمعا خارج هذا الميدان لتبادلا التحيات والكلام والضيافة، فكيف يحصل أن يقتل إنسان إنسانا آخر لم يعرفه من قبل، ليس بينهم أحقاد، ولا ثأر سابق، كيف يحصل هذا الشيء بهذه البساطة؟ حقا إن الإنسان كان أكثر شيء جدلا.

لا غرابة إذاً أن دعا الفيلسوف الألماني «إيمانويل كانط» إلى إلغاء الجيوش، وهو الشيء الذي تفكر فيه سويسرا. «يجب أن تزول الجيوش النظامية كليا مع الوقت… لأن ظهور هذه الجيوش الدائم على أهبة للاستعداد للقتال، يجعلها تهدد الدول الأخرى بالحرب تهديدا مستمرا؛ ومن شأن هذا الواقع أن يدفع بكل دولة من الدول إلى محاولة بز الأخرى من حيث حشد الأعداد غير المحدودة من الفرق العسكرية، فتترتب على هذه المنافسة نفقات مالية تجعل السلام أبهظ تكلفة من القيام بحرب قصيرة، وتسبب أعمالا عدائية تعتمد للتخلص من العبء المالي المعني. أضف إلى ما تقدم أن إكراه الناس ليَقتلوا أو يُقتلوا إنما هو  على ما يبدو، معاملة البشر كما لو كانوا مجرد آلات بأيدي الآخرين (الدولة)، الأمر الذي قلما يتوافق مع حق الإنسانية المتمثلة في شخص كل منا». ويعقب الفيلسوف على ما مر بهذه القصة: أجاب أحد الأمراء البلغاريين إمبراطورا يونانيا كان قد اقترح عليه الاقتراح الشهم بالمنازلة لإنهاء الخلاف بينهما، من دون سفك دماء رعاياهما، فقال: «الحَدَّادُ الذي لديه ملقط لا يستخرج من كوزه قطعة الحديد المحماة بيده!».  

 

نافذة:

تُفْهَمُ المؤسسة العسكرية أكثر المؤسسات تميزا في النظام الذكوري التي تعتبر نموذجا لجميع المؤسسات الأخرى وتقوم على الطاعة غير المشروطة وتنتزع من الإنسان بعده الإنساني الخاص

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى