في غمرة السجال القائم حول امتحانات الباكالوريا، تعود بكم «الأخبار» إلى السنوات الأولى من القرن الماضي، وتكشف عن المنظومة التعليمية في ذاك الوقت، التي كان يتجاذبها تياران: الأول تقليدي يستقطب النخب المغربية نحو جامعة القرويين بفاس وكلية ابن يوسف بمراكش، وكذلك مدارس التعليم الحر. حيث كانت تدرس وفق المناهج الدينية وتتمسك بالعلوم الفقهية واللغوية والتاريخية. أنجبت هذه المؤسسات جيلا من العلماء والقضاة وشخصيات سياسية، أغلبهم متمسكون بالفكر السلفي.
في المقابل كانت الحماية الفرنسية تخشى المد الفكري القادم من الشرق، وتعمل على الحد من ولوج المغاربة إلى المدارس الفرنسية، حيث اقتصرت مدارس المستعمر على أبناء الجاليات المقيمة في المغرب، قبل أن تقوم سلطات الحماية بإجراء بعض التعديلات، خاصة في عهد المقيم «غابرييل بيو».
انفتحت النخبة العصرية على المنظومة التعليمية الفرنسية، وشرعت في إرسال أبنائها إلى المدارس الرسمية، كثانوية مولاي يوسف بالرباط ومولاي إدريس بفاس وبعدد من المدارس الأوربية تخضع لتأطير فرنسي، ومع مرور الوقت ناضل الطلبة المغاربة من الداخل لجر فرنسا إلى إحداث مجموعة من التعديلات الأساسية في السياسة التعليمية، وكذا فتح مدارس عربية وطنية حرة، كما قامت سلطات الحماية بقبول أبناء الوجهاء والأغنياء، في المدارس المخصصة لأبناء الأوربيين. مما جعل البورجوازية التقليدية، تتحول من التسابق نحو مدارس الأعيان إلى التهافت على المدارس الأوربية، أملا في الركوب على صهوة الحضارة الغربية.
لكن أغلب الأسر التي كانت تحارب المستعمر أصرت على الكيل بمكيالين، وسارعت إلى تسجيل أبنائها في المدارس الفرنسية، أو كما قال عابد الجابري: «النخب الاجتماعية التي قادت الحركة الوطنية، أو انتسبت إليها كانت بمقدار ما تحتج على قومية التعليم، بمقدار ما تدفع أبناءها نحو المدارس الأوربية».
فمن هم أبرز الطلبة الذين نالوا شهادة الباكالوريا ونافسوا الفرنسيين على اجتياز عقبتها؟
محمد الفاسي.. حصل على «الباك» فتزوج احتفاء بها
ولد محمد الفاسي في مدينة فاس سنة 1908، نشأ يتيما في حضن عمه المهدي الفاسي، والد مالكة الفاسية التي تزوج بها سنة 1935، التحق «سيدي محمد» كما كان يطلق عليه، بالكتاب القرآني مثل أقرانه، ثم انتقل إلى مدرسة أبناء الأعيان الابتدائية، ثم المدرسة الإدريسية الثانوية، وأكمل دراسته العليا بباريس، حيث حصل فيها أولا على الباكالوريا الفرنسية، وهو أول طالب مغربي نال شهادة الباكالوريا من فرنسا.
عرف الفتى بتفوقه الدراسي، وولعه بهواية الرسم، بل إن كثيرا من المدرسين عاتبوه لإصراره على ملء دفاتره وكتبه وطاولته برسوم لأشخاص جعلته أمام المساءلة. كما أن وجوده في باريس لاجتياز اختبار الباكالوريا الذي لم يكن متاحا حينها في المغرب، مكنه من التعرف على العديد من الوجوه التي حلت بالعاصمة الفرنسية للغاية نفسها، أبرزها الأمير شكيب أرسلان، حيث ربطتهما صداقة حميمة، وقد كان لهذه العلاقة الأثر البالغ في بلورة الحركة الوطنية إلى حركة سياسية وطنية.
بمجرد حصوله على شهادة الباكالوريا قرر «محتضنه» المهدي، مدير جامعة القرويين، إدخاله إلى قفص الزوجية، والذي لم يخرج عن التقاليد الفاسية في الزواج، حيث ارتبط وهو في سن مبكرة من شبابه، بابنة عمه مليكة، التي تعد من الموقعين على وثيقة الاستقلال. أقيم حفل الحصول على شهادة الباكالوريا في غمرة حفل الخطوبة، ودخل الطالب قفص الزوجية مبكرا مع زوجة لها تعاطف مع الحركة الوطنية وهي في مهدها.
لم يمنع الزواج محمد الفاسي من مواصلة هواية الرسم ودراسة الآداب، حيث حصل على شهادة الإجازة في الآداب سنة 1932، وعلى دبلوم مدرسة اللغات الشرقية، وفي سنة 1934 حصل على دبلوم الدراسات العليا، ثم الدكتوراه من جامعة السوربون، وأثناء وجوده بفرنسا أيام الدراسة من سنة 1927 إلى سنة 1934، ساهم في تحرير مجلة «المغرب» الفرنسية التي كان يشرف عليها أحمد بلافريج والمحامي الفرنسي «بيرجانلوكي»، والتي كانت اللسان المعبر عن صوت الحركة الوطنية. لقد كان الفتى نموذج المثقف العارف بأسرار الإبداع والملم بالتراث، إضافة إلى انفتاحه على الثقافة الأجنبية، خصوصا الفرنسية. ولأنه حاصل على شهادات عليا فقد اشتغل كمدرس بالسلك الثانوي، ثم بالتعليم العالي، وأسندت إليه إضافة إلى ذلك مسؤولية قسم المخطوطات العربية بالخزانة العامة للمملكة الشريفة، وعاش في المقابل حياة المحن كمعتقل سياسي في سجن فاس والعادر، ثم الرشيدية، كما فرضت عليه الإقامة الجبرية في العاصمة الرباط.
اختاره الملك محمد الخامس بعد الاستقلال، ضمن أساتذة المعهد المولوي الذين رافقوه على متن القطار في رحلته التاريخية إلى مدينة طنجة، يوم 9 أبريل 1947، بل إن قربه من الملك أماط اللثام عن شخصية الفاسي الفنان العاشق للأدب الأندلسي، لذا اختير على رأس وزارة العلوم والمعارف والفنون الجميلة. وتكمن أهمية هذا الاختيار في كونه جمع بين نظام التعليم وعالم الفن والإبداع وهواجس الحفاظ على التراث.
أنجب محمد ومليكة أربعة أبناء، أولهم سعيد الفاسي، الذي سيصبح في ما بعد وزيرا للسكنى، ومعه ستنال مليكة الفاسي لقب «زوجة الوزير وأم الوزير»، والابن الثاني هو عبد الواحد على اسم جده، وسيصبح عضوا في الديوان الملكي، وهكذا سيكتمل نفوذ الأم مليكة الفاسي وسط العائلة، لأن ابنها صار عضوا داخل الديوان الملكي. ستنجب مليكة الفاسي ابنتين أيضا، إحداهما أمينة الفاسي، التي ستصبح أستاذة جامعية.
ظل الرجل حريصا على ممارسة التشكيل ونظم قصائد الملحون، إلى أن انتقل إلى جوار ربه في دجنبر 1991.
محمد بن جلون التويمي: التاجر المجتهد الذي أسس الوداد
ولد محمد بن جلون التويمي، مؤسس الوداد البيضاوي، سنة 1912 بالمدينة القديمة للدار البيضاء، غير بعيد عن حي بوسمارة، وهو من أصول فاسية انتقل والده إلى الدار البيضاء للاشتغال في التجارة.
تلقى الفتى تعليمه الأولي بالمدينة القديمة وانتقل إلى الرباط ومنها إلى فرنسا لاستكمال دراسته العليا، كان «شكولا» كما يلقبه رفاقه مولعا بالرياضة والدراسة، وتمكن على غرار أشقائه وأبناء عمومته من الجمع بين الموهبة الرياضية والتألق المعرفي، بل إن رفاقه الذين اتفقوا على تأسيس الوداد الرياضي كان القاسم المشترك بينهم هو الكرة والعلم، فشقيقه عز الدين بن جلون من أوائل الحاصلين على شهادة الباكالوريا والمحامي أحمد رزوق ومحمد بلحسن التونسي كانا يملكان القدرة على الجمع بين «نقيضين».
تلقى محمد بن جلون تعليمه الأولي في إحدى المدارس الابتدائية بالمدينة القديمة، وانتقل إلى الرباط وتحديدا ثانوية مولاي يوسف لاستكمال تعليمه الثانوي، ولأنه كان مولعا بالرياضة فقد استغل الفرصة للانضمام إلى فريق سطاد الرباطي، درس في الفصل نفسه مع محمد امجيد ومع أحمد شهود الذي سيستقطبه للعب للوداد في ما بعد.
التحق بباريس حيث حصل على شهادة الباكالوريا سنة 1933، عاد إلى المغرب في إجازته السنوية، ليقرر العودة إلى باريس من أجل الدراسات العليا في تخصص التجارة، وبعد عامين حصل على شهادة في تخصص تدبير الأعمال. إلا أن شغله الشاغل هو تأسيس نادي الوداد، وهو ما تحقق له سنة 1937 بدءا بفرع السباحة قبل أن تتفرع عنه فروع أخرى.
وأطلق اسمه على ملعب الوداد. توفي الحاج محمد بن جلون التويمي، يوم 20 شتنبر 1997.
محمد الزغاري.. حصل على الباكالوريا رغم تعدد مهامه الجمعوية
لا يختلف مسار محمد الزغاري عن سابقه محمد الفاسي، رغم أن فارق السن الكبير بينهما، حيث ولد الزغاري في سنة 1902 بالرباط، وسط أسرة ميسورة. وبعد حصوله على الشهادة الابتدائية، التحق بثانوية مولاي إدريس، هناك ظهرت عليه أعراض الزعامة، إذ انتخب رئيسا لأول جمعية أنشئت بالمغرب لقدماء تلاميذ ثانوية مولاي إدريس، وهي الإطار الجمعوي الذي تحول مع مرور الوقت إلى وعاء للحركة الوطنية، حيث كان الزغاري عاشقا للمسرح، خاصة المسرحيات التاريخية، غالبا ما يخصص ريعها لفائدة الجمعية والمعوزين من تلاميذ المدارس.
انتقل محمد إلى باريس لاجتياز امتحان الباكالوريا إلى جانب بعثة طلابية مكونة من فرنسيين ومغاربة وجزائريين، هناك نافس بقوة من أجل الحصول على الشهادة، على الرغم من صعوبة تأقلمه مع أجواء الغربة. لم يكن الفتى يعلم أنه سيعود إلى العاصمة الفرنسية، بعد ربع قرن، ليمارس مهمة سفير للمملكة المغربية في فرنسا.
عاد الزغاري إلى المغرب وهو يتأبط شهادة الباكالوريا، واقترحت عليه الإدارة الاستعمارية منصبا هاما في الإقامة العامة، لكنه ظل يرفض المناصب الحكومية، مصرا على العودة إلى فرنسا لاستكمال دراسته الجامعية، هناك تشبع بروح العمل النضالي إلى جانب قيادة الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، وفي أواخر سنة 1943، أشرف محمد الزغاري بمعية صفوة من رجالات الحركة الوطنية على وضع الصيغة النهائية لوثيقة المطالبة بالاستقلال، بمنزله الذي كان مقرا للاجتماعات المتتالية والمنتظمة إبان فترة الإعداد لها.
وفي سنة 1944، كلف محمد الزغاري مع الفقيه غازي والحاج عمر بن عبد الجليل ومجموعة من الوطنيين بمهمة تبليغ نسخة من الوثيقة المطلبية للإقامة العامة الفرنسية، وقد سلموها فعلا إلى الوزير المفوض في غياب المقيم العام الفرنسي، فكان نصيبه الاعتقال بسجني فاس والجديدة.
ولأنه كان من أوائل المغاربة الحاصلين على شهادات جامعية، فقد تقلد الزغاري عدة مناصب حكومية هامة بعد الاستقلال، حيث عين نائبا لرئيس الحكومة سنة 1955، ثم وزيرا للدفاع ووزيرا مكلفا بالتنمية. وفي سنة 1957 عين سفيرا للمغرب في باريس، ومديرا للمكتب الشريف للفوسفاط، ثم محافظا لبنك المغرب، وهو المنصب الذي ظل فيه إلى أن التحق بالرفيق الأعلى في سنة 1969، بعدما كرس حياته لخدمة بلاده.
قبل وفاة محمد الزغاري ببضع ساعات، قام الملك الراحل الحسن الثاني بعيادته، وقيل إن الأخير زاره حين كان يعاني سكرات الموت، «ما كاد يشعر بأن ملك البلاد واقف على رأسه حتى أفاق من غيبوبته، وسرت البقية الباقية من الحياة في شرايينه، وأشرق وجهه، ثم اندفع قائلا في صوت جهوري: أخوف ما كنت أخاف يا مولاي أن أموت دون أن أراك.. الحمد لله.. الحمد لله.. لقد شفيت الآن.. لقد برأت من كل مرض.. حفظك الله ورعاك. وهو المشهد الذي استغرب له الأطباء والأقارب».
أحمد بلافريج فرحة الظفر بالباكالوريا وغضب من الحسن الثاني
ولد أحمد بلافريج في مدينة الرباط، وسط أسرة لها أصول موريسكية، تابع دراسته الابتدائية بمدرسة الأعيان بباب لعلو بالعاصمة، وأكمل دروسه بالثانوية الإسلامية التي سميت في ما بعد بثانوية مولاي يوسف، بدعم من والده الذي توفي قبل أن ينال ابنه شهادة الباكالوريا، التي رحل من أجلها إلى فرنسا، لأن النظام التعليمي الفرنسي السابق لم يتح فرصة الحصول على «الباك» في المغرب. لذا نال الشهادة في ثانوية هنري الرابع في باريس، وهي الثانوية التي درس فيها الزغاري أيضا وعدد من وجوه الحركة الوطنية الأوائل، خاصة الذين كانوا يعيشون في كنف أسر ميسورة.
مباشرة بعد حصوله على شهادة الباكالوريا قرر أحمد الانتقال إلى الجامعة المصرية، حيث سجل في جامعة الملك فؤاد الأول بالقاهرة، ابتداء من سنة 1927، إلا أن حنينه إلى عاصمة الأنوار حتم عليه العودة إلى فرنسا، وإعادة التسجيل في جامعة السوربون شعبة العلوم السياسية، وأصبح من الرعيل الأول للحاصلين على الشهادات العليا، وكانت أطروحته حول «أسرى المسلمين في أوربا». أنهى حياته الجامعية في الفترة ما بين 1920 و1934، وانضم إلى أوائل المتشبعين بالوعي النضالي ضد المستعمر الفرنسي.
دعي الطالب أحمد لحضور اجتماع في بيت خاله محمد جسوس في الرباط، كان اللقاء فرصة لعرض أفكار مستوردة من الشرق والغرب، حيث عبر بلافريج عن حس وطني كبير، قال بلافريج إن «الوعي لن يتأتى إلا بنشر التعليم العصري المرتكز على قيمنا الدينية وتقاليدنا المغربية»، وخلافا لكثير من السلفيين فقد دعا إلى التعرف على حضارة المحتل وتعلم لغته ومعرفة مواطن قوته وضعفه، فأسس مدرسته لإعداد أطر الاستقلال وانطلق مع رفاق دربه.
أصيب بلافريج بداء السل، صيف 1937، وانتقل إلى سويسرا للعلاج، هناك وجد كل الدعم من الطلبة المغاربة والسوريين في أوربا، ومن شكيب أرسلان على الخصوص، لاسيما وأن مقامه في جنيف دام طويلا. وحين عاد إلى كورسيكا منفيا اغتنم الإقامة الجبرية ليكمل علاجه، سيما وأنه أصبح خصما للسلطات الاستعمارية الفرنسية التي أزعجها وقوفه وراء توقيع وتوزيع وثيقة المطالبة بالاستقلال.
عين الملك محمد الخامس أحمد بلافريج وزيرا للخارجية، مباشرة بعد حصول المغرب على الاستقلال، كما تقلد رئاسة الحكومة، وأصبح الممثل الشخصي للملك الحسن الثاني، لكن أيامه الأخيرة عرفت صراعا خفيا مع القصر، بعد أن انتقل ابنه إلى صف المعارضة، حيث عاش رهن الاعتقال مدة طويلة دون أن يتدخل والده أحمد لدى الملك، بل اكتفى بالاستقالة من منصبه الحكومي ضد على التعسف الذي طال ابنه.
أحمد بن الحسن الوزاني..أول باكالوريا وأول إجازة
لم تكن سلطات الحماية الفرنسية تظن أن الترخيص لمحمد بن الحسن الوزاني بالسفر إلى فرنسا لاستكمال دراسته، سيكون وبالا عليها، فالفتى المولود سنة 1910 بفاس، سيحول العاصمة الفرنسية إلى تجمع للمغاربة والأجانب المتعاطفين مع شعب يناشد التحرر.
كان عمره يصل بالكاد إلى 20 سنة حين حط الرجال بباريس، وهو القادم من جامعة القرويين، خلافا لزملائه المغاربة الذين تشبعوا بالتعليم الفرنسي، لكنه لم يجد صعوبة في التأقلم مع التعليم العصري وتمكن من الحصول على شهادة الباكالوريا، وينضم إلى المدرسة الحرة للعلوم السياسية، ليصبح أول مغربي يحصل على الإجازة في هذه العلوم، كما درس الصحافة والتاريخ، فكرس وقته لتحصيل العلم والنهل من معارف بلد الأنوار، وبرهن على نبوغ مبكر في عالم الفكر والسياسة توجه برسالة دكتوراه أعدها في سويسرا، هناك حيث بدأ احتكاكه بالصحافة الفرنكوفونية، فتفاعل مع روادها ونشر بها أولى مقالاته، حين التقى شكيب أرسلان، ومكث معه فترة طويلة ليصبح عضوا في هيئة تحرير مجلة «الأمة العربية»، قبل أن يؤسس جريدته في غشت 1933 والتي حملت اسم «عمل الشعب»، وتعد من أول المنشورات المغربية.
أثار الوزاني قلق الفرنسيين وهو في باريس، كما أغضبهم حين عاد إلى المغرب، إثر حصوله على شهادة الدكتوراه، لأنه اختار العمل الصحفي وقرر التصدي للمستعمر بسلاحه، وكلما سافر إلى فرنسا وجد صعوبات في الدخول إلى المغرب، لذا كان يجد في سويسرا باحة استراحته، هناك كان يلتقي بزعماء الفكر العرب، خاصة الأمير شكيب أرسلان الذي نسج علاقات صداقة راسخة مع البعثة الطلابية الأولى في فرنسا. بل إنه منع من زيارة بلده بقرار من الحماية الفرنسية فاستقر في العاصمة الإسبانية مدريد، وواصل عمله الصحفي عن بعد، وحين حل بالمغرب اعتقل ونفي إلى جنوب المغرب، حيث قضى في منفاه تسع سنوات. استقطب الوزاني وهو يؤسس نواة حزب الشورى والاستقلال طلبة تلقوا تعليمهم في فرنسا، عكس نواة حزب الاستقلال، غريمه التقليدي، الذي اختار لبناته الأولى من خريجي جامعة القرويين المتبحرين في العلوم الفقهية والدينية. لذا كان صراع محمد بن الحسن مع علال الفاسي وأتباعه أشد عنفا من الصراع مع المستعمر الفرنسي، وامتد النزاع بين الرجلين إلى ما بعد الحصول على الاستقلال، وظهر وجهه البشع في مذبحة سوق أربعاء الغرب، التي سقط فيها كثير من الشوريين الأبرياء نتيجة التعصب الحزبي الضيق.
تقلد الوزاني مجموعة من المهام في حكومات ما بعد الاستقلال، أبرزها وزير دولة في الحكومة التي ترأسها الملك الراحل الحسن الثاني، لكنه فقد ذراعه اليمنى في يوليوز 1971 خلال انقلاب الصخيرات، فبذل جهدا كبيرا لتعلم الكتابة باليد اليسرى، ومنذ ذلك الحين، تدهورت حالته الصحية، مما جعله أسير مستشفيات المغرب والخارج، إلى أن لقي ربه في التاسع من شتنبر سنة 1978.
الأب جيكو أول مغربي يحصل على الباكالوريا وعلى دبلوم تدريب
ولد محمد بن الحسن التونسي العفاني، المعروف بلقب «الأب جيكو» الذي أطلق عليه من طرف الصحافة الفرنسية، تشبيها بأحد اللاعبين الفرنسيين اسمه «جيكو»، سنة 1900 في بلدة إيسافن المتاخمة لتارودانت جنوب المغرب. جمع الرجل بين الرياضة والصحافة والعمل البنكي، قبل أن يقرر الارتماء في حضن صاحبة الجلالة.
يعتبر من أول المدربين المغاربة الحاصلين على دبلوم تكوين المدربين، وذلك بإنجلترا خارج الإطار الفرنكوفوني المؤثر آنذاك في المغرب، إضافة إلى ثقافته الواسعة في الميدان الصحفي والاقتصادي، حيث حصل على شهادة الباكالوريا في باريس سنة 1923. وبدأ مساره الدراسي حين انتقل رفقة والده من إيسافن إلى الدار البيضاء، واستقر بحي الدالية بالمدينة القديمة، هناك زوجه والده مبكرا بفتاة في عنفوانها تدعى زهراء.
كان محمد طالبا ولاعبا لكرة القدم، لكنه كان الابن الوحيد للتونسي. اختزل الفتى اهتماماته في الكرة والدراسة، فظهرت مواهبه في الملعب وعلى طاولة الدرس، فيما كان والده يحاول توريثه التجارة وإدارة الأعمال، سيما بعد أن أصيب بمرض رئوي حتم عليه مغادرة الدار البيضاء والابتعاد عن المحيط الرطب، فاختار العودة إلى قرية إيسافن في ضاحية تارودانت بتوصية من طبيب فرنسي، بينما ظل الابن في درب الدالية يواصل تعليمه وركضه خلف الكرة ويقدم دروسا في محو الأمية تطوعا بمدرسة الضرباني بالمدينة العتيقة.
حصل الفتى على شهادة الباكالوريا وحين عاد إلى المغرب عين مسؤولا بنكيا وصحفيا ومسيرا ومدربا، خاصة وأنه كان من مؤسسي الوداد الرياضي ومن أوائل مدربي الرجاء البيضاوي، بعد أن حقق هذا الأخير الصعود إلى القسم الأول.
ظلت زهراء تعتبر «الكرة» أكثر من «ضرة»، بل هي الزوجة الأولى لمحمد بلحسن، بعد أن أسرت لبه وسيطرت على كل اهتمامه، وكان يصرف من أجلها راتبه الذي يتقاضاه من عمله في البنك، بينما كان يشتغل كمدرب بشكل تطوعي حبا في الكرة، لم تنفع تحذيرات الزوجة كلما دخل زوجها البيت، قبل أن يقرر الابتعاد عن المدينة القديمة ويستقر في درب السلطان.
لم يتحمل الرجل عتاب زوجته فقرر دخول تجربة الزواج مرة ثانية في خلوته بإيسافن، من فتاة ذات أصول أمازيغية، تدعى فاطمة بنت إبراهيم، وتتحدر من قبيلة إدا وزكري غير بعيد عن إيسافن، وأنجب منها أربعة أبناء لترتفع تشكيلة «خلفته» إلى ثمانية، كما تزوج من فتاة ثالثة بتوصية من أحد رفاقه وتدعى فاطنة الحنك، إلا أنها سافرت إلى الديار المقدسة لأداء فريضة الحج دون أن يظهر لها أثر بعد ذلك.
في سنة 1970 انتابت الرجل نوبة مرض، فانقطع عن الكرة وعاش عزلة قاسية، لاحظت زوجته زهرة أن عينيه تدمعان وهو يتابع مباريات كأس العالم بالمكسيك بمشاركة المنتخب المغربي، فقال لها: «الآن حققت أمنيتي أن أرى لاعبي الوداد والرجاء في كأس العالم، مرحبا بالموت الآن».
بعد أقل من شهرين وتحديدا في 31 غشت تجمعت زوجات محمد بلحسن حول سريره، أوصاهن خيرا بالأبناء، واعترف لهن بالتقصير في حقهن وصرف كل ما ملك من أجل الرياضة والرياضيين، كان الوداع على شمعة بعد أن قطعت «لاراد» التيار الكهربائي لعدم تسديد فاتورة متأخرة، أسلم الروح إلى بارئها وعلى خذيه دمعة أسى بسبب جحود الكرة.
الأميرة لالة عائشة ..أول مغربية تنال الباكالوريا
ظلت المعرفة حكرا على ثلة من النساء الفرنسيات، قبل أن تكسر الأميرة لالة عائشة طوق الحصار المضروب على المرأة المغربية، وتمكنت من بلوغ الريادة في كثير من المجالات، إذ أصبحت أول سفيرة في العالم العربي وكانت من أوائل الحاصلات على شهادة الباكالوريا في زمن احتكارها من طرف الرجل.
ولدت الأميرة لالة عائشة بالرباط، في 17 يونيو 1930، تابعت دراستها الابتدائية في العاصمة، قبل أن تلتحق بالديار الفرنسية لاستكمال تعليمها. كانت تتمتع بذكاء ملحوظ، شهد لها بذلك أساتذتها، وكذا التلميذات اللائي تابعن معها الدراسة؛ حيث تابعت دراستها إلى أن حصلت على الباكالوريا، وأسند إليها الملك محمد الخامس، في شبابها، مهمة تمثيل المرأة المغربية.
يعرف كثير من المتتبعين لتاريخ المغرب مضامين الخطاب الملكي الذي ألقاه الملك محمد الخامس بمدينة طنجة سنة 1947، لكن الكثير لا علم لهم بالخطاب الذي أعقبه، حيث ألقت الأميرة لالة عائشة، في تلك المناسبة، خطابا مهما، بعد خطاب والدها التاريخي.
من الصدف الغريبة في حياة الأميرة، أنها حصلت على شهادة الباكالوريا قبيل النفي الرهيب إلى كورسيكا ومنها إلى مدغشقر، فبعد الترحيل انقطعت الأميرة عن الدراسة ولم تتابع تعليمها الجامعي، وبعد عودة الأسرة الملكية من المنفى شاركت في الحياة السياسية، وذلك في السنوات الأولى من الاستقلال، ودعت من خلال مجموعة من المناصب التي تقلدتها إلى تشجيع تمدرس المرأة المغربية، وقادت حملات في هذا الاتجاه وهي حينها رئيسة لمؤسسة «التعاون الوطني»، وأول سفيرة في العالم العربي. وقال عنها الباحث عبد الهادي التازي: «عرفت بقوة شخصيتها ورأيها الحاد والمسموع، حيث كان يستشهد به، وهي تذكر بالنساء الزعيمات في العالم، اللائي صنعن تاريخ بلادهن. هي امرأة عالمة وفاضلة، ناضلت إلى جانب والدها في أكبر محنة عاشها المغرب، وهي تعليم البنات، فهي كانت بمثابة القدوة، والرسالة التي يوجهها الملك إلى شعبه من أجل حثه على تعليم الفتاة، بعد أن كان تدريس البنات يواجه معارضة من الفئة المحافظة في المجتمع، ومن المستعمر كذلك. وأشرفت الأميرة الراحلة على تدشين أولى مدارس تعليم البنات في مدن مراكش وفاس وسلا».
التحقت الأميرة لالة عائشة بالرفيق الأعلى في الخامس من شتنبر سنة 2011، وبعد أربع سنوات توفي زوجها حسن اليعقوبي.
الحسين آيت قدور أول جزائري يحصل على الباكالوريا
شاءت الأقدار أن يموت الحسين آيت قدور، الرئيس الأسبق لحزب جبهة القوى الاشتراكية وأحد قادة الثورة التحريرية المقربين للمغرب، بمستشفى في لوزان السويسرية، عن عمر يناهز 89 سنة إثر مرض عضال، وهو المستشفى الذي عولج فيه وهو شاب. بعد وفاته دار سجال كبير حول مكان دفنه بين المغرب والجزائر، مما يؤكد المفهوم الحقيقي للبلد الثاني، لاسيما في ظل استقرار ابني الراحل في المغرب.
نادرا ما كان الحسين يزور الجزائر، فعلى امتداد الـخمس عشرة سنة الأخيرة لم يزرها سوى ثلاث مرات، سنة 2004 وبعدها سنة 2007 وأخرى قيل إنها كانت زيارة سرية سنة 2012، واختار أن يعيش في الغربة ويموت في الغربة.
لم يكن آيت أحمد مجاهدا في المجال المسلح فقط، فقد شهد له رفاقه بأنه كان أول مشاهير الجزائر من الذين حصلوا على شهادة الباكالوريا ضمن الطلبة الفرنسيين في العاصمة الجزائرية في عام 1946، وهي الشهادة التي لم ينعم بها أي من رجالات الثورة الجزائرية، وضحى بدراسته عندما باشر العمل السياسي وصار مطلوبا من الشرطة الفرنسية. و«عندما انقلب الراحل هواري بومدين على الراحل بن بلة، عرف آيت أحمد الذي بلغ حينها قرابة الأربعين سنة بأن حلمه الكبير، قد تبخر، على الأقل مؤقتا، فتم الإبقاء عليه في السجن، الذي زجّ فيه أحمد بن بلة، على خلفية معركة وتشابك بالأيدي كان قد وقع بين بومدين وآيت أحمد في القاهرة في زمن الثورة، وكانت فرصته الوحيدة لأجل النجاة من مصير الآخرين هو الهروب، فاختار أن يعيش في منفاه في سويسرا، حيث واصل دراسته وحصل على الدكتوراه من جامعة نانسي الفرنسية، إلى أن وافته المنية ولم ينعم الراحل أبدا ولو بشهر كامل بين أهله في الجزائر، إلى درجة أن لهجته القبائلية ولكنته العربية تغيرتا فصار يتكلم إما فرنسية على طريقة السويسريين، أو عربية لا تختلف عن عربية الأتراك»، حسب ما جاء في كلمات تأبينه.