شوف تشوف

الرأيالرئيسية

الحاجة إلى تطوير علوم جديدة لفهم القرآن

عندما سئل البروفيسور «فليمينغ» عن مدى تطابق المعلومات الجديدة عن طوفان مخيف ضرب منطقة البحر الأسود وتركيا الحالية، حذاء مدينة سينوب، مع طوفان نوح الوارد في الكتب المقدسة، أجاب بحذر أنه لا يمكن المراهنة على ذلك، ولكنه قابل للتطبيق وممكن. ويبقى السؤال هل ما حدث عند عتبة البوسفور، قبل 7500 سنة، في دراما كونية هو الذي تحدثت عنه الكتب المقدسة، وذكره القرآن بتوصيف مرعب (ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر، وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر)؟

يبدو أن الطوفان فاجأ الزراعيين الأوائل في وقت صعب في شتاء اشتد مطره، فاجتمع عليهم البرد والمطر الغزير المنهمر مع الطوفان الزاحف، فتشبعت الأرض بالماء وانبجس الماء من تنور كان بالأصل للخبز (وفار التنور)، وقد ينسحب المعنى على بركان انفجر في المنطقة. ليس هذا فقط، بل إن بقية القصة الواردة في الآيات من سورة «القمر» تفتح لنا البوابة التاريخية لدراسة الحدث، حينما وصفت الآية (وحملناه على ذات ألواح ودسر).

وكلمة «دسر» أوحت لي كما قرأت في بعض كتب التفسير أنها «المسامير»، فنوح بنى سفينة من ألواح خشبية مثبتة بمسامير ومطلية بالقار، ولكن هذا يعني وكما تقول بعض الروايات عن نوح إنه كان نجارا.. وإذا كان الأمر كذلك، فهل يعني ذلك وصول الجنس البشري إلى تقنية تعدين الحديد؟  ونحن نعلم أن اكتشاف الحديد وتعدينه تم في القرن الثامن قبل الميلاد، وهذا يعني بكلمة ثانية حدوث الطوفان بعد هذه الفترة، حتى يتم الربط بين زمن تقنية الحديد والحدث.. وهو تاريخ قريب يجب أن يكون معروفا ومسجلا في كتب التاريخ، فالكتابة أصبح لها خمسة آلاف عام.

غير أن كلمة «دسر» كما جاءت في كتاب «صحاح اللغة» لـ«ابن منظور الإفريقي» وتذكر أن كلمة «الدسر» لا تزيد على الشيء الذي يربط الأشياء ببعض من ليف أو سواه.. ولا يشترط المسمار وإن كان يتضمنه، وكان بإمكان القرآن أن ينوه

إلى ذلك، فيقول عن نوح إنه ثبت السفينة بـ«الغودرون» (الزفت = القار) والمسامير الغليظة، كما هو الحال في بناء السفن الشراعية، سواء الفينيقية أو الرومانية أو الإسبانية والعثمانية لاحقا. 

إن حادثة نوح على ما يبدو أكثر إيغالا في التاريخ من القرن الثامن قبل الميلاد، وأن الحدث على ما يبدو لم يتم في هذا الوقت، بل في الألف الثامنة قبل الميلاد. إن القرآن كعادته في الدخول على الحدث ـ كما في قصة أصحاب الكهف ـ فهو يدخل الحدث فيحذف منه الزمان والمكان والأشخاص، ويدفع بالحدث إلى (معمل المطلق)، من أجل بناء العقل النقدي السنني. فهو لا يعنى بذكر الزمن أو المكان والشخص أكثر من عنايته بالمعنى الإنساني خلف القصة؛ فهذا أسلوبه في نزع هذه الإحداثيات عنه لإدخاله معمل المطلق كما أشرنا. وهو يروي هنا نهاية قوم أوجدوا نظاما اجتماعيا في غاية السوء. فكما ذكر القرآن حجم الكارثة، فقد عمد إلى شرح الظروف البئيسة التي رافقت الحدث، من وجود الظلم الاجتماعي المهين.

إن من يسمع لنوح ومن اتبعه كما تبجح المترفون من قومه، على الرغم من جهد خرافي في إنارتهم بالدعوة في كل شكل وزمان ومكان، رأوا فيمن اتبعه أنهم من طبقة السوقة السفلة المغفلين (الأراذل): (وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي= المغفلون السطحيون)، وتفكيك هذه الآية يظهر أفضل باستعراض الوضع الإنساني (أنثروبولوجيا) عن طبيعة الشعوب التي فاجأها الطوفان في ذلك الوقت (ما قبل التاريخي = Prehistoric).

هنا نرى القرآن وهو يذكر ثلاثة أنواع من الأنبياء:

1ـ آدم الغارق في الزمن والمرتبط بدخول عصر الزراعة، من خلال قصة الشجرة المحرمة. لأن الحرام والحلال هما ترميز لولادة القانون، أن هذا يجوز وآخر محرم.

2ـ والصنف الثاني هو نوح الذي عاش قبل ولادة الحضارة، معاصرا لبدايات الثورة الزراعية، أي في العصر ما قبل التاريخي، إذا عرفنا أن الكتابة لم تخترع إلا قبل خمسة آلاف سنة مع ألواح سومر، الذين وصلوا إلى الحساب وتنظيم الري والكتابة المسمارية.

3 ـ أما النوع الثالث مثل نموذج إبراهيم وموسى، فقد كانا رسولين عاصرا الحضارات ومزودين بشيء مكتوب. تأمل الآية مثلا من سورة «الأعلى» (إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى).

إن هذه القصة تبرز لنا ضرورة تطوير علوم قرآنية جديدة، فكما أنشأ علماؤنا سابقا علم القراءات والتجويد وأسباب التنزيل والتفسير؛ فيجب تطوير علوم تعتمد الاختراقات المعرفية الجديدة، من نموذج «الدراسات القرآنية التاريخية المقارنة»، أو ما أطلق عليها جودت سعيد «أجنة قرآنية وآيات مفتاحية»، وكذلك الإسراع بوضع تفسير للقرآن بأدوات معرفية جديدة، وتسخير العلوم المعاصرة على نحو جديد، كما هي في قصة الطوفان التي بين أيدينا. وهذا المشروع في ذهني منذ عقود، ومع كتابة المدخل إلى القرآن قد يلهمني ربي ويعطيني من القوة ما أكمل هذا المشروع.

ولقد لفت نظري منذ فترة طويلة كيف قام العالم الهندي «أبو الكلام آزاد» بدراسة لفهم قصة ذي القرنين الموجودة في سورة «الكهف»، وذكر أنها قد تشير إلى الحاكم العادل والمتميز «قورش». وبهذه الأدوات ندخل المعاصرة؛ فلا يعقل فهم القرآن بتفسير من القرن الثالث الهجري، كما لا يمكن فتح جمجمة مريض تعرض لنزف، أو يحمل ورما خبيثا بأدوات فرعونية.

وهذا الكلام له حساسيته، ولكن لا بد من لمسه، لضرورة تطوير أوضاع المسلمين الذين لم يدخلوا التاريخ والمعاصرة بعد، ولو بعث «ابن كثير» بذاته لأعطى كتابه قيمة تاريخية لا أكثر، ولشرع من فوره بوضع تفسير يناسب روح العصر، باعتماد العلوم الإنسانية المساعدة. كما نرى الفرق بين تفسير رشيد رضا والقاسمي وقطب والنسفي والبيضاوي وابن عاشور التونسي.  

خالص جلبي 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى