شوف تشوف

الرأيالرئيسيةسياسية

الجدية كشرط للإقلاع

 

 

د. خالد فتحي

لم يكن خطاب العرش خطابا لتخليد هذه الذكرى المجيدة لدى المغاربة فقط، وإنما تجاوز ذلك بالتأكيد لجرد التحديات القائمة، والتصدي خصوصا لطرح نقد جريء وصريح للحياة السياسية والإدارية.

كانت الرؤية التي تحدث بها الملك في خطابه واضحة جدا، وتدل على أن الملكية بالمغرب، في ما تقوم به من مبادرات، هي ملكية مواطنة ومستنيرة، وفوق ذلك هي ملكية مسلحة باستراتيجية، وبتراكم، وبشرعية ضاربة، يجعلونها تبدو دائما صمام أمان للمغرب، ومالكة لمشروع قوي وطموح ومتكامل من شأن التزام الفرقاء السياسيين به أن يمنع التخبط والضعف والفوضى في وضع السياسات العمومية وإعمالها.

تحدث الملك إذن باقتضاب، ولكن بلغة بسيطة وواقعية…. لغة معبرة عن شجون الأمة وأحلامها، مما جعلها تتجلى كثيفة المعاني، وذات قدرة هائلة على التحفيز والإلهام، الأمر الذي يستحيل معه هذا الخطاب عند تأويله واستنطاقه إلى خطة للعمل وإلى خريطة طريق.

ولقد أعطى الملك الإشارات اللازمة التي يتعين علينا التقاطها والاشتغال عليها كمواطنين وكمؤسسات. ولعله نفض بالخصوص التراب عن قيمة أساسية قد نساها أو تناساها أغلبنا، قيمة لا ينتبه السياسيون إلى أهميتها، فلا يستدعونها ولا يحثون ولا يربون عليها، رغم أن دور الأحزاب السياسية هو تأطير المواطنين ومد الدولة بالنخب الكفأة، الصادقة، الأمينة، والنزيهة، وهي قيمة أو فضيلة الجدية.. بمعنى أن الملك لم يقف عند أعراض التعثر التي نعاني منها، بل قرر أن يتوجه مباشرة نحو جذر الداء، سعيا منه إلى وصفة ناجعة ومستديمة، فخطب فينا عن القيمة التي تمدنا بالقابلية القصوى للتقدم المستدام، وبذلك يكون هذا الخطاب منحازا كما عودنا الملك دائما إلى آمال الشعب، والتي يعبر عنها جلالته كل مرة أصدق تعبير في مواجهة ممارسات نكوصية ما زالت للأسف تصدر عن بعض مؤسسات الدولة، التي تعزف لحنا نشازا عما يريده هو لشعبه. فنحن ما زلنا لم نخلق بعد مناخ الإبداع في الكثير من المجالات، ذاك المناخ الذي يفتح آفاقا جديدة وواعدة، ويفتق العبقريات التي بيننا، ولقد اختصر جلالته سر الإبداع والتفوق في هذه الكلمة المفتاحية، التي تعني بكل بساطة الثقة والعزم على النجاح ونهج السبل القمينة بذلك، مقدما كمثال على ذلك أداء المنتخب المغربي بقطر.

إنه يريد أن تتحول كل إدارات الدولة وكل مؤسسات القطاع الخاص إلى خلايا نحل، وإلى نظائر لهذا المنتخب في مجال عملها، لأن جلالته يعدنا أو يعدنا كما يتضح ذلك بوضوح من ثنايا خطابه لمرحلة جديدة من التقدم والرقي، ذلك أن الملكية المغربية تملك من المعطيات أكثر مما تملكه أية مؤسسة أخرى، وتستطيع بسليقتها أن تستشعر دقة المرحلة وإمكانياتها، بل وتاريخيتها أيضا. يعرف جلالته إذن أن الإمكانيات الحالية هائلة جدا، ولذلك هو يحشد المغاربة لاستثمارها تحت راية الجدية التي هي أيضا مبدأ إسلامي أصيل، أفلم يقل رسولنا الكريم (صلعم): إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه.. إننا، كما يفهم من خطاب جلالته، بصدد إقلاع جديد، ولذلك هو ينبه الدولة الأمة إلى مؤهلاتها العظيمة التي ذكر منها الصدق والتفاؤل والتسامح والانفتاح والاعتزاز بالتقاليد العريقة وبالهوية الوطنية الجامعة. وهي قيم يراها ذخرنا وعدتنا وفرصتنا لإنجاح الأوراش الكبيرة والاستراتيجية التي ستنقل المغرب من صف إلى صف سيكون أرقى وأعظم، فالأمة ليست بثرواتها المادية والطبيعية أساسا، وإنما هي بعقولها وإراداتها وبالقيم التي يعتنقها أبناؤها وبالآمال التي تحركهم.

الملك ركز أيضا على آفة اهتزاز القيم، وهو الوصف البليغ الذي يعكس الحالة الراهنة للعالم الذي يعيش زمن إفلاس المرجعيات الوضعية، بعد أن بلغت منتهاها، وصارت في حاجة لكي تتعزز بمرجعيات أخرى أكثر يقينية، تستطيع أن تمد الإنسان بالمعنى.

ولذلك، ومن منطلق الأمانة المطوقة بها عنقها، تثبت الملكية المغربية كعادتها من خلال هذا الخطاب يقظتها وفطنتها وبصيرتها وقراءتها الصحيحة للوضع في العالم، في هذه المرحلة العصيبة، التي يموت فيها نظام دولي وينبثق نظام آخر جديد. إذ لم يفت الملكية المغربية أن ترصد حالة التفكيك والسيولة المخيفة التي تردت لها مجتمعات بعينها، ولذلك تدعو إلى ضرورة الحفاظ على الروابط العائلية والاجتماعية وتجنب تأثير بعض التيارات الخادعة، وهذه إشارة أخرى يكررها الملك إلى المنحى الذي يجب أن يأخذه النقاش حول تعديل المدونة والقانون الجنائي.

ولذلك أعتقد أن الخطاب ينبه في ما ينبه إليه إلى خطورة الشطحات السياسية والمزايدات الإيديولوجية والتفاهة والسطحية في النقاش حول مواضيع ذات بعد مصيري ووجودي، أي أنه يلزمنا بالمسؤولية والجدية في النقاش.

حين تتأمل خطاب جلالة الملك تحس أننا مثل بقية دول العالم نسير في حقل ألغام، ينبغي أن نعمل على تفاديها جميعها من خلال رصدها أولا، ثم إبطال مفعولها ثانيا. ووسيلتنا الأولى في ذلك أن نتوفر على رؤية، وعلى فلسفة وعلى مرجعية، خصوصا مع تنامي المخاطر وسطوة المجهول وتغوله.

وفي مثل هذه الأوقات القلقة تبرز قيمة الملكية وإمارة المؤمنين بالخصوص، وما تقوم عليه من مرجعية تربط الماضي بالحاضر بالمستقبل، معطية أجوبة شافية عن الهوية في مواجهة أسئلة العصر. نحن نواجه عمليا معضلة الماء والغلاء وتوالي سنين الجفاف، والبطالة، وأزمة الطاقة، واستحقاق التحول الرقمي وتعميم الحماية الاجتماعية، وموجة تحول وانحراف القيم، وكل هذه تحديات لا يمكن مواجهتها، إلا بالتزام الجميع بالجدية.

من أروع ما نبه إليه جلالة الملك كون هذه القيمة عملية، وليست قيمة مجردة فقط، ولذلك هو ينتظر أن تنعكس بشكل ملموس على أداء الأفراد والمؤسسات بالمغرب. وبهذا تصبح أهم رسالة في الخطاب، هي أن شروط الانطلاق نحو مغرب جديد قد تهيأت ونضجت، وأن علينا أن نركب جميعا هذا القطار الذي هو قطار الجدية، حتى نبلغ وجهتنا المرومة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى