الجابري: «هكذا أقيل أحرضان من منصبه عاملا على الرباط بعد تأسيسه حزب الحركة الشعبية»
11: ظهور الحركة الشعبية والأحرار المستقلين
كان المحجوبي أحرضان قد أعلن عن تأسيس الحركة الشعبية في أكتوبر 1957، وكان عاملا على إقليم الرباط. وقد أقيل بسبب ذلك من منصبه، وأخذ عليه أنه أسس حركة سياسية بطريقة غير مشروعة، وقد اعتبرت هذه الحركة امتدادا لحركة اليوسي فبقيت شبه مجمدة إلى ربيع 1958.
وفي نفس الوقت تقريبا ظهر «الأحرار المستقلون» في صورة ناد سياسي على رأسه أحمد رضا اكديرة والرشيد ملين وكان هذا الأخير من موظفي المخزن الشبان أثناء الحماية ولم يساند عملية عزل محمد الخامس. غير أن هذا النادي السياسي الذي كان على صلة بالقصر اتخذ مواقف لا وطنية فقد أبدى موافقته واستحسانه لبقاء القواعد العسكرية الأمريكية في المغرب، بمناسبة زيارة الملك محمد الخامس إلى أمريكا، وهي الزيارة التي كان من بين المسائل المطروح فيها مستقبل تلك القواعد.
ومع ظهور «الأحرار المستقلين» بزعامة كديرة اتخذ الصراع ضد حزب الاستقلال صيغة أخرى تحت شعار الدفاع عن «الحريات العامة». لقد اتهم بممارسة الديكتاتورية عن طريق أجهزة الداخلية (التي كان على رأسها المحمدي) وجهاز البوليس (الذي كان على رأسه الغزاوي)، هذا في وقت كان حزب «الاستقلال» يشتكي فيه مما يتعرض له من ممارسات تعسفية قمعية من هذين الجهازين بالذات. وفي هذا الصدد أدلى عبد الله إبراهيم في اجتماع مفتشي الحزب بتصريح (ذكرته جريدة الاستقلال لسان الحزب بالفرنسية يوم 11 يناير 1958) قال فيه: «لا أحد يستطيع أن يتصور بأنه يمكن أن يقوم نظام بوليسي أفضل من القائم لتفتيت الأحزاب»!
ولم تمر سوى ثلاثة أشهر عن هذا التاريخ حتى ظهرت على المسرح «الجبهة الديمقراطية» (كتلة الدفاع عن الحريات الديمقراطية) وتتألف من الأحرار المستقلين (اكديرة وملين وكانا وزيرين) والحركة الشعبية (أحرضان والخطيب) والمكي الناصري. ففي 15 أبريل 1958 قدم وفد من هذه الجبهة إلى رئيس الحكومة البكاي عريضة تنتقد حزب الاستقلال. وقد أصدر البكاي من رئاسة الوزراء بلاغا قال فيه إنه يوافق على هذه العريضة.
وكرد فعل على ذلك قدم وزراء الاستقلال التسعة استقالتهم من الحكومة، واجتمعت اللجنة السياسية للحزب يومي 17 و19 أبريل وأصدرت بيانا ذكرت فيه بأسباب الاستقالة (تضامن البكاي رئيس الحكومة مع أصحاب العريضة) وأبدت استعداد الحزب لتولي المسؤولية لتنفيذ برنامج وطني يهدف إلى تأسيس ملكية دستورية، ويبدأ بانتخابات بلدية، يليها «تأسيس مجلس وطني نيابي يتمتع بسلطات دستورية يحددها جلال الملك المعظم المؤتمن على السيادة الوطنية. وتؤمل اللجنة أن يجتمع المجلس بعد إجراء الانتخابات البلدية والقروية».
ثاني عشر: حكومة بلا فريج.. واشتداد الأزمة داخل الحزب
بعد استقالة وزراء حزب الاستقلال من حكومة البكاي الثانية في 15 أبريل 1958، دخل المغرب في أزمة وزارية انتهت بتعيين الحاج أحمد بلافريج، الأمين العام لحزب الاستقلال رئيسا للحكومة ووزيرا للخارجية، وذلك في 12 مايو من نفس السنة، فشكل وزارته على الصورة التالية: عبد الرحيم بوعبيد في الاقتصاد، عبد الكريم بنجلون في العدل، مسعود الشيكر في الداخلية (وكان مديرا للديوان الملكي)، أحمد اليزيدي في الدفاع، الدويري في السكنى والتعمير، عمر بن عبد الجليل في التعليم والشبيبة والرياضة، عبد المالك فرج في الصحة، البشير بن العباس في العمل والشؤون الاجتماعية، محمد عواد في البريد (وكان رئيسا للديوان الملكي).
لم تكن هذه الحكومة هي «الحكومة المنسجمة» التي طالب بها الحزب. وقد أعلن الشهيد المهدي في مقالة في جريدة «الاستقلال» نقلتها «العلم» قال فيها: إن الحكومة الجديدة غير منسجمة وإن ثلاثة وزراء هم وزير الداخلية ووزير الصحة ووزير البريد لم يوافق عليهم الحزب. إضافة إلى أنها لم تكن تضم أي وزير يمكن أن يعتبر ممثلا لجناح النقابات والمقاومة. هكذا ظهرت حكومة بلافريج منذ تشكليها على أنها حكومة «القصر» والجناح المحافظ في حزب الاستقلال. أما وجود عبد الرحيم بوعبيد فيها فيرجع إلى كونه ممسكا بملف الاقتصاد والمفاوضات في شأنه مع فرنسا.
وعندما أعلن بلافريج عن برنامجه عارضه بوعبيد والمهدي وعبد الله إبراهيم، وقد بلغ الغضب بممثلي المقاومة والنقابات أن قاطعوا اللجنة السياسية فأصبحت هذه اللجنة مشلولة. ولحل المشكل الداخلي في الحزب شكلت في سبتمبر 1958 لجنة للتحضير للمؤتمر العام للحزب وعين لانعقاده تاريخ 11 يناير 1959. وكانت اللجنة تتكون من محمد عبد الرزاق عن الاتحاد المغربي للشغل، ومحمد منصور عن المقاومة، ومحمد بناني وقاسم الزهيري عن اللجنة التنفيذية. فشلت اللجنة التحضيرية في مهمتها بسبب تشبث اللجنة التنفيذية بحقها في تعيين 100 مؤتمر من شخصيات الحزب الذين «لا يليق أن يتقدموا لانتخابات في فروع الحزب». وكرد فعل على ذلك نشر عبد الله إبراهيم في جريدة الاستقلال مقالة ينتقد فيها «البورجوازيين المنتفعين»، فأوقفت الجريدة بسبب هذه المقالة وقام بوستة والدويري بمحاولة الاستيلاء عليها، فلم ينجحا، ثم عادت بإشراف محمد اليزيدي بدلا من المهدي الذي كان مديرها السياسي منذ صيف 1957 (إلى صيف 1958). وأثناء ذلك شن الاتحاد المغربي للشغل إضرابات ضد حكومة بلافريج. استقال المهدي من اللجنة التنفيذية، كما قدم عبد الرحيم بوعبيد استقالته من حكومة بلا فريج (نوفمبر 1959) مما عجل بسقوطها. وفي أوائل ديسمبر ظهر مشروع حكومة برئاسة علال، وقد نسف هذا المشروع من داخل حزب الاستقلال نفسه ومن الخارج كذلك وذلك قبل تنصيبها.
وأثناء هذه الأزمة التي كان حزب الاستقلال يعيشها من داخله, كانت هناك أزمة أخرى وطنية هذه المرة، وكانت هي الأخرى في إطار الحملة على حزب الاستقلال.
فقد دبرت مؤامرة فرنسية في المغرب الشرقي ضد نشاط جيش التحرير، وكان على رأسها إدريس بن البشير الريفي وقد حوكم أمام محكمة العدل الخاصة بجرائم أمن الدولة في مارس 1958. وحكمت عليه المحكمة هو وضابطين فرنسيين والمترجم بينه وبينهما بالإعدام، وكانوا وقت صدور الحكم في فرنسا وتسبب ذلك في إحراج كبير للحكومتين المغربية والفرنسية، وقد ألغي الحكم في ما بعد.
وقامت حوادث عندما قرر زعماء الحركة الشعبية نقل جثمان عباس المساعدي إلى قبر تذكاري في جبال جزناية، فألقي القبض على أحرضان والخطيب فقامت تمردات وظهرت جماعات مسلحة قاد ابن الميلودي إحداها قرب والماس, وقاد موحا أوحمو جماعة أخرى في منطقة تاهلا. فأرسل الجيش الملكي لتطويق ابن الميلودي فأعاد النظام بسرعة، أما في منطقة تاهلا فقد استمر التمرد إلى سنة 1959، وكانت هناك دلائل تشير إلى أن تدخلا إسبانيا كان يتحرك خاصة في أقاليم الحسيمة والناظور وتازة، وقد ثبت ذلك في ما بعد. أثناء ذلك هوجمت مكاتب حزب الاستقلال بتلك المناطق وألقيت قنبلة في الخمسينات في حفلة لعيد العرش فقتلت وجرحت 48 شخصا ووقعت أعمال عنف أخرى بالمناسبة في الحسيمة والناظور (قبيلة بني وراين).
كونت لجنة ملكية برئاسة عبد الرحمان أنجاي للتحقيق. كانت الشكوى من الإداريين رجال السلطة، قواد، شيوخ.. إلخ. وللخروج من هذه الدوامة التي تشابكت مع دوامة الصراع داخل حزب الاستقلال مما أصاب حكومة بلافريج بالشلل، قامت اتصالات ـ بواسطة وبغير واسطة ـ بين جلالة الملك محمد الخامس وجناح المقاومة والمهدي والاتحاد المغربي للشغل بهدف إنقاذ البلاد، وقد أسفر ذلك عن إسناد رئاسة الحكومة إلى عبد الله إبراهيم في 24 ديسمبر 1958 وقد تولى أيضا وزارة الخارجية، كما عين المرحوم عبد الرحيم بوعبيد وزيرا للاقتصاد الوطني ونائبا لرئيس الحكومة. والمعطي بوعبيد وزيرا للشغل والشؤون الاجتماعية والتهامي عمار وزيرا للفلاحة. أما الوزراء الآخرون فلم يكونوا ينتمون إلى هذا الجناح من حزب الاستقلال.
ثالث عشر: الدور الفرنسي في الأحداث
عندما تشكلت حكومة عبد الله إبراهيم كانت التمردات التي كانت تستهدف ضرب حزب الاستقلال قد انكشف أمرها. لقد اتضح أنها لم تكن بمعزل عن التدخل الأجنبي الفرنسي منه بالخصوص. ولكي نفهم هذا يجب أن نستحضر في أذهاننا أن القوات الفرنسية كانت لا تزال في المغرب في عدة ثكنات وفي عدة أقاليم, وأن الثورة الجزائرية التي اندلعت في فاتح نوفمبر 1954 كانت تجد لها في المغرب المستقل، خاصة في المغرب الشرقي عمقا استراتيجيا للتدريب والاستراحة والتموين والحصول على السلاح. كما كانت تجد الشيء نفسه في تونس. ولم يكن يخفى على فرنسا أن الوطنيين المغاربة، وبالتحديد المقاومة وجيش التحرير وكثيرا من أعضاء اللجنة التنفيذية فضلا عن الرأي الوطني، كانوا جميعا يدفعون الحكم إلى الوقوف بجانب القضية الجزائرية التي كانت تعتبر قضية وطنية باعتبار أن استقلال المغرب دون استقلال الجزائر سيظل مهددا في كل لحظة.