الجابري: «الصحافة الفرنسية كانت تضغط على الحكومة حتى لا تواصل استرجاع 350 ألف هكتار من المعمرين»
معركة التحرير الفلاحي: والتحرير الفلاحي هو أيضا موضوع معركة شديدة بين حكومة صاحب الجلالة من جهة والاستعمار والإقطاع من جهة أخرى. ونشاهد في هذه الأيام حملة من لدن الصحافة الفرنسية والصحافة الاستعمارية جاءت بعد حملتها السابقة، الغرض منها الضغط على الحكومة حتى لا تواصل عملها في استرجاع الأراضي الباقية في أيدي المعمرين، والتي تبلغ كما قلنا 350 ألف هكتار. وينوي الاستعمار أن يجعل هذه الأراضي التي ما زالت بيد المعمرين موضوع مساومات و«شنطاج» أثناء المفاوضات المالية التي ستبتدئ بين حكومة صاحب الجلالة والحكومة الفرنسية. ويجد الاستعمار في حلفائه الإقطاعيين والانتهازيين والاستغلاليين خير عون على قضاء مآربه، ومحاولة الحكومة ومشاريعها البناءة. يتجلى ذلك في ما يقوم به المغرضون من أبناء هذا الوطن أصحاب المصالح الشخصية من دعايات هدامة في أوساط الفلاحين. من ذلك أن هؤلاء يحرضون الفلاحين على عدم أداء الضرائب والديون الباقية عليهم كما يقومون بحملات عدائية قصد تحطيم التعاونيات، وأكثر من ذلك يقوم هؤلاء المغرضون أصحاب المصالح الشخصية ببث الشك والاضطراب في عقول الفلاحين حيث يكذبون عليهم ويقولون لهم إن الحكومة تريد أن تنزع منكم أراضيكم. والواقع أن الحكومة لا يمكن أن تنتزع من الفلاحين أراضيهم بل بالعكس من ذلك هي توزع عليهم أراضي الدولة، والأراضي التي تنوي الحكومة انتزاعها هي أراضي المعمرين لتوزيعها على الفلاحين الصغار. لذلك يجب أن لا يغتر الفلاحون بهؤلاء المشوشين الذين يريدون استغلالهم. وقد حث صاحب الجلالة في خطابه الأخير بمراكش معشر الفلاحين على تسديد ديونهم وأداء الضرائب، وندد جلالته بكل من يحاول التلاعب بمصالح الدولة. والواقع أن أولئك الذين يكذبون على الفلاحين إنما هم أناس يخافون على مصالحهم الاستغلالية، فتراهم يحاربون الحكومة لأنهم يعرفون أنها حكومة تسعى بكل الوسائل لتحرير البادية من الظلم والإقطاع والاستغلال، وكيفما كان الأمر فإن عملية تحرير الفلاحة في تقدم مستمر، والحكومة جادة في هذا الميدان. وعما قريب ستتوج الحكومة كل ذلك بعملية الإصلاح الزراعي، هذا الإصلاح الذي من شأنه أن يحرر الفلاحين من الاستغلال ويضمن للمواطنين جميعا مستوى لائقا من العيش يضمن لهم حياة حرة كريمة».
سابعا: لا حرية مع الفقر
كان الرئيس عبد الله إبراهيم في زيارة للولايات المتحدة للتباحث هناك حول تصفية القواعد العسكرية الأمريكية في المغرب. وأثناء مقامه هناك أدلى بتصريحات للصحافة، كان مما ورد فيها قوله: «إننا لا نؤمن بالحرية مع الفقر». وحول هذه القولة كتبت التعليق التالي في ركن «صباح النور» بـ «التحرير» يوم 1959/10/29، يقول التعليق:
«لا نومن بالحرية مع الفقر»، عبارة قصيرة قالها أمس الرئيس عبد الله إبراهيم، وهي على قصرها تحمل معاني كبيرة في طياتها. نحن لا نؤمن بالحرية مع الفقر! لماذا؟ لأن الحرية لا تصبح حرية بمعنى الكلمة إلا إذا استطاع الإنسان استغلالها، في حدود القانون طبعا، بدون أن يخاف من ممارستها أو يساوم فيها وبدون أن تكون هناك مؤثرات تنتقص منها أو تقيدها. وعلى هذا فلا يمكن أن تكون هناك حرية مع الفقر، لأن الفقير مقيد بفقره والقيد يتنافى مع الحرية. والرجل الفقير لا يملك حرية الاختيار لأن الحاجة والجوع يفرضان عليه اختيارا معينا أي يضطر إلى النزول عن حريته ليلبي حاجته الملحة. ويتجلى تناقض الحرية مع الفقر في الانتخابات. فالشعب الفقير لا يمكن أن يختار ممثليه بحرية ما دام فقيرا جائعا جاهلا. وقد وقعت كثير من الشعوب في هذه المأساة: مأساة الحرية مع الفقر: ففي مصر قبل الثورة كانت هناك برلمانات وكان هناك دستور، ولكن ذلك كله لم يكن في مصلحة الشعب بل كان في مصلحة طبقة من البرجوازيين الأغنياء. كانت الانتخابات تجري بصفة «ديمقراطية» ومع ذلك كان الفقير عبدا للغني أو على الأقل تابعا له. كان صاحب المال ينجح دائما في الانتخابات ببضع مئات من الجنيهات تمكنه من شراء أصوات الناخبين التي يرغب في الحصول عليها، وكان الشعب الفقير يضطر إلى إعطاء أصواته إلى أناس يؤمن أنهم لا يمثلونه ولا يمثلون مصالحه أبدا، ولكن مع ذلك كان يضطر تحت بريق الجنيه إلى انتخاب من لا يمكن أن يكونوا معبرين حقيقيين عن صوته. لماذا لأن الفقير لا يملك حرية الاختيار أبدا ولأن فقره وحاجته قد فرضا عليه سلفا نوعا من الاختيار. إذا إن أساس كل تقدم وأساس كل ديمقراطية حقة هي العدالة الاجتماعية التي تقضي على الفوارق الكبيرة بين أفراد الشعب الواحد حتى لا تصبح هناك طبقة غنية سائدة وطبقة فقيرة مسودة.
إذا إن أساس كل ديمقراطية هي العدالة الاجتماعية وإن أساس كل حرية هي انعدام الحاجة والفقر».
ثامنا: الوطنية والخيانة
من التعليقات التي كتبتها في «بالعربي الفصيح»، تعليق صدر بتاريخ 3 يناير 1960 في «الرأي العام»، ويخص المفاهيم ويعكس تطور وعينا في ذلك الوقت، وكان ردا على الجهة التي كانت تصنفها في اليسار وتصنف نفسها في اليمين، في حين أنها كانت تتكون أساسا من الذين خانوا القضية الوطنية أيام الكفاح ضد المستعمر.
يقول التعليق:
«في الشعوب المتخلفة، وفي البلاد الحديثة العهد بالاستقلال، حيث تكون بقايا الاستعمار ورواسبه لم تصف بعد كما هو الحال في بلادنا، في هذه الشعوب وفي هذه البلدان ليس هناك إلا مفهومان اثنان يجب أن يكون الشعب على بينة منهما، وأن يتخذهما مقياسا يقيس به الصالح من غير الصالح. في مثل هذه البلدان لا يوجد إلا الوطنية الصادقة أو الخيانة، مفضوحة كانت أو مستترة.
وتتجلى الوطنية الصادقة في العمل بجد وحزم لتصفية مخلفات الاستعمار تصفية كلية دون الأخذ بأية اعتبارات أخرى، ودون مساومة في بعضها أو كلها. وهذه التصفية التي ينبغي بل يجب أن تكون على صعيد ثوري، تستلزم انقلابا في الأوضاع والمفاهيم. والانقلاب هنا معناه رفض الأوضاع الاستعمارية رفضا كاملا ووضع أوضاع أخرى سليمة يتجسم فيها الاستقلال بكل معانيه ومفاهيمه ومقتضياته. أما الخيانة المفضوحة فهي معروفة وواضحة ولا تحتاج إلى تعريف. أما الخيانة المستترة فتتجلى في مظاهر متعددة لكونها تلجأ دائما إلى التحلي بأزياء زائفة كثيرا ما تتخذ الوطنية مظهرا لها في حين أنها في صميمها خيانة صريحة. وغني عن البيان القول إن هذا النوع من الخيانة اللابسة لباسا وطنيا أخطر من الأولى، فهي تدعو إلى التحرر ولكنها تحاربه، وتدعو إلى تصحيح الأوضاع ولكنها تعمل في الخفاء على بقاء ما كان على ما كان.
أما حكاية اليسار واليمين أو غيرهما من العبارات الجديدة التي اخترعها الغرب فإنها لا تعني الدول التي في مثل حالتنا إطلاقا، فلا مكان فيها لا ليسار ولا ليمين اللهم إلا إذا كان المقصود باليسار هو التعصب لتصفية مخلفات الاستعمار وحينئذ يصبح اليمين المناقض له بالطبع يعني الاحتفاظ بمخلفات الاستعمار. فالدول التي يكون فيها يسار ويمين هي الدول التي لا تعاني مشكلة الاستعمار ومخلفاته. أما في الدول التي ترزح تحت مخلفات استعمارية ثقيلة فليس هناك إلا الوطنية أو الخيانة. والشخص في هذه البلاد إما أن يكون وطنيا ثائرا على الاستعمار ورواسبه وإما أن يكون خائنا عميلا للاستعمار». (ابن البلد).