عبد الإله بلقزيز
إذا كانت فاعليات التوحيد أقوى وأجلى في ميادين السياسة والقانون والأمن والاقتصاد، داخل أي مجتمع، من فاعليات التعددية التي لا يمكن الإغضاء عن تأثيراتها الكبيرة حتى في هذه الميادين، فإن لفاعليات التعددية مساحة أوسع في الميدان الثقافي أكثر- بكثير- مما لها في أي ميدان آخر.
الأمر مفهوم، تماما، ولا يبعث على أي استغراب بالنظر إلى أن الثقافي هو المجال الأرحب للاختلاف وللتعدد من أي مجال آخر في المجتمع؛ حيث من المستحيل أن نتخيل نمطا واحدا وحيدا من التعبير داخل جماعة وطنية، حتى وإن كانت قد قطعت أشواطا بعيدة في عملية الاندماج الاجتماعي.
يؤسس اتصال الثقافي بالأبنية الأنثروبـولوجية للمجتمع لهذه الخاصية التي يتمتع بها، مقارنة بالسياسي أو الاقتصادي، والمتمثلة في انحكام مجاله بمفاعيل آليات التعددية فيه. وبيان ذلك أن المجتمع – أي مجتمع- متألف من تكوينات اجتماعية مختلفة، هي كناية عن جماعات يتحقق داخل كل واحدة منها قـدر من «التجانس» في القيم والعوائد والتمثلات الذاتية، كما في اللسان – لغات أو لهجات داخل اللغة الواحدة – والموروث الجمالي والذائقة…إلخ، تتميز به – وتتمايز- عن غيرها داخل وحدة الانتماء المجتمعي والوطني. ولما كانت الثقافة تدور مع البيئات الأنثروبولوجية، كان في حكم البديهي أن تتعدد تعبيراتها وأشكالها بتعدد معطيات تلك البيئات، فتعرض نفسها على نحو من الغنى في القوالب والأنماط التي سرعان ما تخرج من حيزها المحلي الضيق والمغلق لتصبح عابرة للوحدات الاجتماعية جميعها، وصولا إلى الصيرورة تعبيرات ثقافـية عامة.
ما من شك في أن كل مجتمع وطني، في العالم المعاصر، تقوم فيه ثقافة وطنية رسمية عامة واحدة؛ وهذه – بطبيعتها- ثقافة مكتوبة مرتبطة بكيان الدولة، وتنهض أجهزة بعينها من الدولة بوظيفة إشاعتها وتعميمها وترسيخها (الجهاز التعليمي، الجهاز الثقافي، الجهاز الإعلامي…) بحسبانها عنوانا للكيان الوطني ولوحدته. ولقد تكون مصادر هذه الثـقافة الوطنية محلية، في المعظم منها، وموروثة ومتجددة؛ وقد يكون الغالب عليها ما وفد من خارجٍ من قيم ثقافية؛ كما قد تكون مزيجا من هذه المصادر ومن تلك. في كل حال، بيئة هذه الثـقافة الوطنية هي النخب المثقفة التي تنتج المعارف أو القيم الثـقافية، لأنها وحدها في المجتمع تحتاز الرأسمال المعرفي والثقافي وتملك الكتابة بلغة الثقافة العالِمة، فيما لا يستطيع ذلك سائر فئات الشعب. وليس يغير من وحدة هذه الثـقافة الوطنية أن صراعا شديدا يندلع – في المجتمعات كافة- بين تيارات ثقافية متعددة؛ ذلك أن الصراع هذا مصروف إلى وجهة بعينها لا تمس في شيء وحدة الثـقافة هي: إكساب الثقافة الوطنية تلك محتوى يتناسب ورؤية هذا التيار أو ذاك من تيارات الثقافة. وعليه، ليس النـزاع عليها، في هذه الحال، سبيلا إلى نقض وحدتها، بل لإعادة إنتاج نسخة جديدة من هذه مطبوعة بخاتم من يكسب المعركة.
في مقابل هذه الثقافة الوطنية النخبوية، توجد ثقافة برية sauvage تنمو في المجتمع على غير نظام أو قواعد هي الثـقافة الشعبية؛ الثقافة التي تنتجها قرائح الناس العاديين تعبيرا منهم عن ذواتهم وحيواتهم ونظراتهم إلى المحيط والعالم. تسمى بالثقافة الشفوية، أيضا، تمييزا لها عن الثقافة المكتوبة. ومع أن هذه الثقافة لا تتوسل الكتابة في إنتاج آثارها، وإنما تتوسل أساليب في التعبير أخرى: حكائية، صوتية، حركية، بصرية…، إلا أن ذلك لا ينتقص من طبيعتها الثـقافية مثلما يعتقد كثيرون يُماهون، مماهاة تامة، بين الثقافة والكتابة أو الكتابي. وغني عن البيان أن الثقافة، في معناها الأنثربولوجي الشامل، هي كل تعبير عن الذات ونظرتها إلى نفسها وإلى العالم، وإفصاحها عن مكنونات مشاعرها (فرح، حزن، غضب، حب، رفض…) بشتى وسائل التعبير المتاحة للسواد الأعظم من الناس. وهكذا يدخل الغناء، والرقص، والرسم، والنـقش، والوشم، والحكاية، والخرافة… في جملة الآثار الثقافية جنبا إلى جنب مع المكتوب والمدون.
وإذا كانت الوحدة سمة الثقافة الوطنية التي تمثل الدولة والأمـة والكيان الوطني، فإن أظهر سمات الثقافة الشعبية هي تعدديـة أشكالها وقوالبها. وهي تعددية تَـرُدُّ – مثلما أومأنا سابقا- إلى الغنى الأنثروبولوجي لحياة جماعات مختلفة يتكون منها المجتمع؛ غنى يتغذى من مواريث سابقة تحملها معها تلك الجماعات في ظَعْـنها وانتجاعها، أو يتغذى مما تفرضه أحكام المكان (الجغرافي) على حياة الناس (الجبل، السهل، الساحل، الصحراء، الأرض الخصيبة…). وعلى مثال ذلك الأرخبيل الاجتماعي الذي يتألـف منه المجتمع، سينشأ أرخبيل ثقافي يتكون منه كيان الثـقافة الشعبية في تعددية أشكال التعبير فيها. هكذا، إذن، نُـلفي أن جدلية الوحدة والتعددية جدلية حاكمة لمجمل العمران الاجتماعي، ودينامية دافعة للتطور فيه.
نافذة:
إذا كانت الوحدة سمة الثقافة الوطنية التي تمثل الدولة والأمـة والكيان الوطني فإن أظهر سمات الثقافة الشعبية هي تعدديـة أشكالها وقوالبها