الثابت والمتغير في «الموروث الفقهي»
محمود خليل
تتمثل النصوص البشرية في الموروث الفقهي والتاريخي. الموروث الفقهي يحمل اجتهادات أئمة الإسلام الكبار في مجال التأصيل والتنظير والتفسير لأحكام الدين، كعبادات ومعاملات ومواريث وأحوال شخصية وغيرها، أما الموروث التاريخي، فيشمل كتب السيرة وكتب التاريخ التي تحكي الأحداث التي تفاعلت في حياة الأجيال الأولى من المسلمين، وكذا في الأجيال التي أعقبتها، مثل كتب «البداية والنهاية» و«أسد الغابة» و«الكامل في التاريخ» وغيرها كثير.
لو أنك راجعت الواقع المعيش على مسطرة الموروث الفقهي، فسوف تجد أن كل ما يتعلق بفقه العبادات معمول به، في الصلاة والصيام والزكاة والحج، فأحكامه باقية وعابرة للعصور، ولا يملك أحد أن يغيرها، وهناك فقه المعاملات كالرهن والربا والبيع والمضاربة وغيرها. والأحكام الموروثة في هذا الاتجاه معمول ببعضها ومتروك بعضها الآخر، بحكم التحولات الزمنية، لكن الترك لا يعني الإلغاء، فهي قابلة للتطبيق في السياقات التي تتيح لها ذلك، وبإمكان المسلم أن يُلزم نفسه بها أو لا يُلزم تبعاً لما يراه، فهناك من يتحفظ على المضاربة و«يستحرمها»، ولن يوجد من يجبره على إتيانها.
تعال بعد ذلك إلى فقه الأحوال الشخصية والمواريث، وستجد أنها مقنَّنة ومطبَّقة، بل والعجيب أن تجد أن الدولة المصرية عبر تاريخها شديدة الالتزام بتطبيقها، في حين يفارقها بعض الأفراد، مثلما يحدث في مسألة توريث المرأة في البيئات الريفية كما حكيت لك، ومحاولات التطوير في بعض جوانب هذا الباب من أبواب الفقه، مثل توثيق الطلاق الشفوي حتى يتم الاعتراف به، أحياناً ما يرفضها البعض بصورة تتناقض مع الذات التي قبلت من قبل بمسألة توثيق الزواج، وعدم الاعتراف بالزواج الشفاهي التي ارتبطت بعصور قديمة لم تكن تعرف التوثيق.
لا توجد غضاضة في طرح رؤى تطويرية لبعض الجوانب المتعلقة بفقه الأحوال الشخصية، ما دامت تتلمس وتتمثل روح التشريع (التشريع أصل الفقه). على سبيل المثال، لو أنك تأملت بند تعدد الزوجات في فقه الأحوال الشخصية، فستجد أن الإسلام وهو يرخص للرجل في الزواج بأكثر من واحدة حتى أربع نساء كان يحاصر ظاهرة عانى منها المجتمع العربي بل والإنساني عموماً قبل الإسلام، تتعلق بالزواج بلا حساب واقتناء الإماء والجواري بلا عدد. لقد أراد الإسلام أن يحاصر الظاهرة من خلال التحديد والتقيد بعدد كخطوة أولى لتطوير الفكر الإنساني للرجل.
روح التشريع هنا كانت في «التحديد» وليس دعم فكرة «التعديد»، والدليل على ذلك أن الواقع طوَّر نفسه، وباتت ظاهرة زواج الرجل بأكثر من واحدة نادرة كل الندرة، وأصبحت القاعدة السائدة هي الزواج بواحدة.
ويمنحك هذا المثال مؤشراً على أمرين: الأول أن الواقع قادر علي تجديد الخطاب أو الفكر الديني أكثر من أفكار المنظِّرين، والثاني أن المجتمع يتعامل مع الفقه طبقاً لاحتياجاته، ولا يعني ذلك بحال أي نوع من التقليل من أهميته، أو إلغائه، بل يعني نظرة واقعية إلى الحكم الفقهي، فقد يستجد ما يستوجب العودة إليه.