شوف تشوف

الرأيالرئيسيةسياسية

التعليم والخيال    

يسرا طارق

مقالات ذات صلة

تطورت منظومة التربية في المجتمعات الصناعية بعين على حاجيات السوق وما يحتاجه من مهن ومهارات وكفاءات، وبعين أخرى على تطور العلوم، وخصوصًا العلوم الإنسانية (علوم التربية، والسوسيولوجيا، وعلم النفس والفلسفة..) وصار التعليم هو المصب الذي تتجمع فيه زبدة كل النظريات والمنظومات الفكرية والمنهجية التي أفرزتها مراكز البحوث وحلقات الدرس. وهكذا صارت مؤشرات المنظومة التعليمية أحد المعايير الأساسية التي تقاس بها قوة وضعف الدول، مثلها مثل الحرب تمامًا، فالمجتمعات بصفة عامة لا تظهر أحسن وأسوأ ما فيها إلا في حجرات الدرس أو في ميادين القتال.

عاشت المنظومة التعليمية في بلادنا ومنذ الاستقلال سلسلة من مشاريع الإصلاح، ومشاريع إصلاح الإصلاح، ورغم ذلك مازال تعليمنا يراوح المكان نفسه. مازال هو الرجل المريض الذي جربت فيه كل الوصفات، لكن دون جدوى. ولا تفسير لهذه الإخفاقات المتتالية إلا كوننا نستعير برامج تعليمية من بلدان أخرى لا تلائم خصوصيتنا الثقافية والمجتمعية، أو أننا ننجز إصلاحات سطحية لا تمس الجوهر ولا أسباب الداء. لا يمكن لمن تتبع كل برامج الإصلاح إلا أن يلاحظ بأن منظومتنا التعليمية لم تحسم وبصفة نهائية توجهها نحو الانتماء للعالم الحديث، وظلت تراوح بين إرضاء التقليد والمحافظة والاستجابة لما تمليه إكراهات العصر. هذا السير المتعثر برجل إلى الوراء ورجل إلى الأمام، فوت على منظومتنا فرص النجاعة والفعالية، مما جعل الكثير من الآباء والأمهات يفرون للتعليم الخاص الذي يعتمد برامج أجنبية. عانت منظومتنا التعليمية من تناقض مزمن، فمع أنها تركز بالأساس على تعليم المهارات والكفاءات وليس القيم، فإنها بنيت على احتقار مزمن للمهن. زد على ذلك أن برامج ومواد منظومتنا مازالت حتى اليوم تبني أسوارًا عالية بين التوجه العلمي والتوجه الأدبي، فتحرم الأدبيين من الروح العلمية في التدقيق والتحري، وتحرم العلميين من روح التنسيب التي تجعل الحقيقة الإنسانية متعددة ومتقلبة.

لا تعطي منظومتنا حيزًا واسعًا بداخلها للتربية الفنية واللعب والترفيه وإعمال الخيال، فأفضل المنظومات التعليمية في العالم تربي الأطفال على التعاطي بإيجابية مع الحياة وتسلحهم بالشجاعة والفرح على مواجهة إكراهاتها، أكثر مما تؤهلهم للجلوس وراء مكتب أو شاشة كمبيوتر أو آلة والقيام بحركات ميكانيكية. لا تقتصر جودة التعليم على الدول المتقدمة صناعيا، فبكثير من الخيال الخلاق تمكنت دول تعد في صف الدول النامية من أن تجود تعليمها وتنافس به أرقى المنظومات، أذكر هنا على سبيل المثال التعليم الكوبي، وخصوصًا في مجال الطب، والتعليم في روندا الجديدة..

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى