التعريف بجودت سعيد ومدرسة اللاعنف (8 – 12)
بقلم: خالص جلبي
مما استفدت منه في ذلك اللقاء الطويل، بلورة مشكلة السرية والعنف عنده، وقمنا بمناقشات مطولة عملت على تسجيل بعضها وتهريبها إلى خارج السجن. وكان معنا في السجن في تلك الظروف مجموعة من الشباب الحلبيين، الذين تجرؤوا فكتبوا على الجدران ألوانا من اعتراضهم السياسي، فتم إلقاء القبض عليهم وكانوا شبابا جميلين أولاد نعمة، فأصبح السجن والعذاب مأواهم. وفي تلك المناقشات قمت أنا بكتابة الجزء الثاني من كتابي «الطب محراب الإيمان»، وكتبت مقدمة تقول: «لقد خلقنا الإنسان في كبد»، إشارة مني إلى أيام البؤس تلك. أما الشيخ حفظه الله فقد كتب كتابه «العمل قدرة وإرادة» في تحليل وحدة العمل الصحيح، وأن ما ينقص العالم الإسلامي ليس الحماس بل الوعي. وفي نهاية كلامي هذا، سوف يجد القارئ خلاصة لأهم آراء الشيخ، وقد طلبت منه أن يفيد بها القارئ، أثناء لقائي به في مدينة مونتريال الكندية، خريف عام 2003م. والمناقشات التي كانت تحدث كنا نقوم بكتابتها سريا ونهربها بطرق خاصة عبر الملابس، وكتبتها زوجتي في نسخة خاصة خارج السجن. وطول فترة السجن لم نتلق زيارة واحدة، ولكن سمح لنا في الفترة الأخيرة بإدخال بعض الكتب وشيء من الطعام. وكانت الأمور وردية في تلك الأيام. وهي التي تقول إن حالة العرب أنهم في ظل استعمار بغيض وسرطان داخلي، وهو أدهى وأمر من أي احتلال خارجي. وهو يروي علة العرب الداخلية، وكان الشيخ يؤكد على المعنى القرآني قل هو من عند أنفسكم وبما كسبتم أيديكم.
استطعنا في فترة السجن بلورة فكرة العمل السلمي والمقاومة المدنية، ولو أن العمل الإسلامي آمن بهذا الأسلوب لوفر الكثير بما فيها الصدام مع أمريكا وكارثة شتنبر 2001م، التي نقلت الصراع من الداخل إلى الخارج إلى الإطار الدولي. ولكن الكلام النظري شيء وقانون التاريخ شيء مختلف. والأمم تتعلم بالعذاب أكثر من الوعظ، وباللكمات أكثر من الكلمات.
وفي يوم اجتمعت بزميلي الدكتور حسن نصري والرجل مستقر في ألمانيا، وعنده عيادة في مدينة آخن. وكنت في منزله بمدينة كيفلر بالشمال الغربي من ألمانيا، قبل انتقاله إلى آخن، فقال لي ولم تكن أحداث شتنبر قد وقعت: «كيف استطاع جودت برؤيا اختراقية أن يبلور نظريته حول اللاعنف والمقاومة السلمية، قبل الأحداث بثلاثين سنة؟». وأظن أن العجب معه قد أصبح أضعافا، بعد أحداث شتنبر 2001م.
وأذكر أننا كنا في السجن وحرب أكتوبر قد وقعت، فكتبنا لعدنان الدباغ (مدير المخابرات العامة) أن يخرجنا من السجن ويستفيد من إمكانياتي كطبيب، فإذا انقضت الحرب أعادني إلى السجن، ولكنه كان مشغولا بتمجيد «ربه» في القصر الجمهوري. ويومها كتبت «لا للتنظيم .. لا للسرية .. لا للعنف». وخرجنا برؤية واضحة في مشكلة العنف في العمل الإسلامي، التي تكللت لاحقا عام 1982 م بكتابي حول النقد الذاتي للحركات الإسلامية، الذي أثار ضجة حين صدوره.
في الستينات كان الشيخ يتحدى البعثيين ويحاضر في المساجد، وكان ذلك مسموحا به على نحو غامض. وكان يقول: كفرت بآلهتكم الوحدة والحرية والاشتراكية، الثالوث المقدس عندكم (هي كلمات رنانة مفرغة من المعنى). وكان يلقى عليه القبض، ثم يطلق. وكان وما زال يؤمن بالمقاومة السلمية، لأنها إحياء للضمير وتخل عن السلاح والعضلات. وهذه الفكرة نمت عنده، حتى أصبحت شجرة يستظل تحتها أناس كثيرون. وهي جيدة من الناحية البراغماتية، وتحافظ على حياة من يدخل الصراع البشري. ولكن القليل فهم عليه، والأندر من اتبعه على مذهبه ومن تابعه فترة، ثم تعرض للمضايقات والعذابات تخلى عنه في مرحلة لاحقة. ومضى الرجل لوحده تقريبا حتى اليوم، وليس عنده حزب أو تيار أو تجمع، بل يشبه أبا ذر الغفاري يمشي وحده ويموت وحده ويبعث وحده. وكلماته حتى الآن ليس لها صدى، وإن كان البعض بدأ بمغازلتنا بعد مجيء الجبار الأمريكي، ليس إيمانا بالسلام، بل خوفا من العصا الأمريكية المسلطة فوق الرؤوس.
ومن خلال النقاش الطويل في مشكلة العنف واللاعنف، وصلت أخيرا إلى القناعة التي بدأت أجمع أطرافها وأحبك خيوطها أن عالم السلام والكفاح السلمي قارة مميزة. وهذا واضح في كتابات الأستاذ جودت ومقالاته، لأنه يرى أن العمل السلمي والعنفي يشبه عمل العضلات والدماغ، فلا يستويان مثلا. وأن قوة العقل هي الأعظم عند الإنسان. وأن استخدام السلاح توديع للعقل وارتهان لآلة السلاح. وأن الديموقراطية شرطها الأساسي إلغاء العنف، فلا يمكن أن تجتمع الديموقراطية والعنف، إلا إذا اتحد الماء مع النار.
هكذا تبلورت المسألة عندي أن السلام أو الكفاح السلمي قارة مختلفة عن كل ما اعتاد العرب والمسلمون عليه، بل والعالم على فهمه، فهو أسلوب الأنبياء في تحري الإنسان من علاقات القوة.
جودت سعيد يعيش أفكاره وينسجم مع ما يقول، ولا يأبه بما يتنازع عليه الناس من مسكن جميل وفراش وثير وطعام لذيذ ودخل كبير وسيارة فارهة، بل يعيش على أبسط شيء ولن يترك خلفه ثروات وعقارات وأسهما وسيارات، بل أفكارا وكتبا ومحاضرات «وروحا تسري من أمرنا»، لمن كان عنده قدرة التقاط الموجة.