التعريف بجودت سعيد ومدرسة اللاعنف (7- 12)
بقلم: خالص جلبي
أعود إلى جودت سعيد، فالرجل كان في مطلع حياته السياسية صداميا، وكان يهاجم البعث علنا بشعاراتهم ورسالتهم الخالدة الغامضة، وهو الآن أكثر تسامحا وأقل صداما. وكلفه هذا عندما عاد من مصر إلى سوريا أن يطرد من مدرسة إلى مدرسة، حتى وقع يوسف زعين وكان رئيس الوزراء في ما أذكر على قرار فصله من التعليم، وقد مات المذكور سجينا أسيفا مريضا، فقد فتك الرفاق بعضهم ببعض كالغيلان. عليهم من الله ما يستحقون جميعا.
إنها فترة سيئة تلك التي ولدنا فيها، فهل يحق للفأر أن يتشاءم إذا رأى قطة سوداء؟
والشيخ الآن يفيض من قلبه حب الناس جميعا بكل اتجاهاتهم، ويحاضر في نواد مختلفة من المتدينين وغيرهم في المساجد والكنائس والنوادي الأدبية والمراكز الثقافية، في بلد كممت فيه الأفواه وانتشر الرعب وخرست الأصوات، فلا تسمع إلا همسا، وماتت الأمة في قبر اشتراكي حتى حين. ويتعجب المرء من بقاء الشيخ في السجن الاشتراكي، إلى حين حتى كانت رحلته الأخيرة الى تركيا فمستقر ومستودع.
ولعل تفسير ذلك أن الرجل كسب شيئا من الحصانة الأخلاقية، أعطته قدرا من المناعة في بلد يعج بالوباء والغلاء والغباء والإجرام والديكتاتورية. ومنهج الرجل حبب فيه الناس وقلل الأعداء، وهو يكرر مقولة: «أنا أقول ما يستفيد منه الكل، ولا يخسر أحد شيئا من ملك أو زعامة أو جاه أو مكانة أو نفوذ». وفي طرف منها سذاجة، وإلا لماذا «جعل الله لكل نبي عدوا من المجرمين؟». وجودت يزعم أنه سيجعل الحاكم يثق به أكثر مما يثق بحرسه الخاص، لأنه لن يغدر وسيطبق هذا من طرف واحد. وبالطبع هذه سذاجة، فالحاكم لا يريد هذا الصنف من الناس ولن يثق به يوما، لأن هذا الصنف يعني نهايته وقطع رقبته. وفي يوم اعتقل عسكر بورما داعية السلام، أوانج سن سو كاي، وقتلوا أتباعها، فهل يثقون بهم ليقتلوهم؟
كذلك لم أكن أرتاح إلى ظهوره مع أناس باعوا أنفسهم للشيطان وجندوا أقلامهم للطاغية، وبكوا على قبره وزعموا أن أولاده في حواصل طير خضر في الجنة (البوطي)، ولكنه مجتهد في هذا ولا أوافقه في ما ذهب إليه. وهو لا يحمل في قلبه غلا لأحد. كذلك فإن التلفزيون المحلي هو في خدمة الحزب والرفاق، ولم يرحب به كثيرا في المرات المعدودة التي ظهر فيها. فالفكر مصادر والرأي مختوم عليه، وليس على الناس إلا التصفيق مثل القرود في المظاهرات «إلى الأبد إلى الأبد، ونفديك بالروح بالدم يا أبو الجماجم»، ومن يبقى في بلد الأموات هذا فلا يلومن إلا
نفسه. إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان، الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا.
لقد وصل الوضع إلى الحافة الحرجة والظلم إلى عنان السماء وقتلت الأمة قتلا، وبيع الضمير في سوق العهر، وتحول الوطن إلى سجن كبير بأسوار عالية، ومات الضمير حتى حين.
ومما حدث معه في لقائه مع جريدة يعطي فكرة عما يحدث في الجرائد المؤممة بسوريا، فقد جاءه من أراد أن يجري معه لقاء صحفيا، فلما نشر المقابلة لم يكن فيها سوى اسم الشيخ، وكل ما جاء في المقالة والمقابلة كان من نسج خيال (الرفيق) الحزبي، فاصفر وجه الشيخ عندما سمع الخبر ولم يقم بأي مقابلة بعدها، فهذه هي جرائد الحزب الثوري.
وأعود إلى واقعة السجن مع الشيخ، لأنها كانت رحلة مفعمة بالعذاب واقترب فيها الشيخ من الموت. وهو مصاب بقرحة معدة، فلم يكن يقدم له إلا أسوأ الطعام. واستطعت بعد وساطة أن أحضره إلى غرفتنا، وبدأت بتغذيته بالشيء المناسب لمعدته، فبدأ في التحسن بعد أن استحال إلى شبح أصفر. كان الشيخ عفيفا زاهدا جريئا صبورا، وقد قام في ظل هذه الظروف الجهنمية بتفسير القرآن لأهل الغرفة، التي كانت تضمنا، ونحن نسمع أصوات المعذبين والمجلودين الذين كان ينكل بهم في الساحة العامة، والبيت كان لرئيس سوريا الشيخ الحسني يوما، وأتصوره يجلس بجانب نافورة البركة في وسط الدار فيرتشف فنجان قهوته، حيث الجلادون يرشون المضروبين بالماء من النافورة الجميلة، ثم يبدؤون بسلخ جلودهم. والمحققون ثلاثة، علوي وديري ودرزي، وكلهم من أولاد الريف والأقليات. وكان أشهر الجلادين شامي اسمه أبو طلال، روى لي بعدها عبد الكريم خوجة من شباب حزب التحرير، وكان قد اعتقل في الفرع نفسه خمس سنوات، أن المذكور ضرب بالنار في حانة ليلية وتيبست ساقه بعدها عليه من الله ما يستحق. وكان في ما يروي لنا جودت، أنه يتمنى أن لو قام شخص بدراسة تاريخ هؤلاء المجرمين، وكيف انتهت حياة كل واحد. كما حصل مع مجرم ليمان طرة بمصر، حمزة البسيوني، حيث ضربته سيارة شاحنة فتمزع جسده قطعا.
وكنا في غرفة صغيرة محشورين عشرة أشخاص، ولم أستطع أن أمد قدمي فيها إلا أياما معدودات. وعندما خرجت من الحبس تعبت بعد مشي دقائق قليلة.