التعايش في الرؤية الإسلامية
د. محمد ديـرا
يعد التعايش الحل الأمثل لتجنب الصراع والصدام وتضارب الرؤى والأفكار والمعتقدات، والتعايش لا يعني القبول بنمط واحد في التفكير أو التنازل عن الحق فيه، بل يعني أن يحتفظ كل طرف بأفكاره وآرائه، ويمارس نشاطه الديني أو المذهبي أو الفكري أو السياسي في إطار الحقوق والحريات العامة التي كفلها الإسلام، والتي لا تسمح لأي طرف بسلب حقوق الآخرين أو الإخلال بأمن المجتمع.
ولعل أبرز صورة للتعايش هي صورة دولة المدينة التي أسسها الرسول صلى الله عليه وسلم بعد هجرته إلى المدينة المنورة، حيث كان اليهودي والنصراني يعيشان معا في كنفها بأمن وأمان إلى جانب المسلم، وفي حضن الدولة الإسلامية الناشئة، وكان الحبشي والرومي والفارسي يتمتعون فيها بكل حقوق المواطنة كالعربي تماما، وهكذا تعايش المهاجرون إلى جانب الأنصار، وتعايش الأوس مع الخزرج، وهما اللذان كانت بينهما حروب طاحنة ونزاعات مستمرة، بل كان يعيش فيها أتباع الاتجاهات الفكرية والسياسية المُعارِضة، وفي مقدمتهم تيار المنافقين والمشركين دون أن يتعرض لهم أحد بسوء. وقد كان «عبد الله بن أبي بن سلول»، أحد أبرز المنافقين الذين عاشوا في دولة المدينة ولم يتعرض له أحد بأذى. وبذلك تكون الرؤية الإسلامية في مجال التعايش مع الآخرين قد استندت إلى أساسين رئيسيين: أَوَّلهُما: المصلحة الإسلامية العليا على ضوء الواقع القائم، وثَانِيهِما: الصِّلات والرحمة الإنسانية والعلاقات الأخلاقية. (يُنظر للتوسع في ذلك كتاب هام للعلاَّمة العراقي المتنور محمد علي التسخيري، «الحوار مع الذات والآخر»…).
لقد سبق الإسلام الجميع إلى الدعوة إلى السلام الشامل، يقول تعالى: «يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة» (البقرة: 207)، بل اعتبر الحرب والعدوان من أعمال الشيطان التي يجب تجنبها والابتعاد عنها، وذلك حين أَتْبَعَ الآية السالفة الذكر بقوله عز وجل: «ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين» (البقرة: 207). فالسلم بين الأمم والشعوب، مهما اختلفت عقائدها وأعراقها ولغاتها وألوانها، هو المفضي إلى التعارف والتواصل الذي خلقنا الله من أجله مختلفين كما جاء في الآية الكريمة: «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا» (الحجرات: 13)، فهذه الآية الكريمة تعد أساس التعاون الإنساني بين بني البشر، إذ تقر التعدد (شعوب/قبائل)، وتدعو إلى التعارف الذي يشمل التعاون بين الناس جميعا. كما نجد أن الإسلام أكد على وحدة الأصل، فالناس جميعا باختلافاتهم الدينية والفكرية والسياسية والعِرقية من أصل واحد هو آدم عليه السلام، يقول سبحانه: «يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة» (النساء: 1)، وبمقتضى وحدة الأصل هذه كانت الضرورة ملحة لأن تتعارف الفروع وتتعاون وتتآخى في ظل وحدة إنسانية جامعة بغض النظر عن الانتماءات العَقَدية أو المذهبية أو الفكرية أو السياسية..
ولعل أبرز ما يمكن أن نستدل به على عمق مبدأ التعايش في التصور الإسلامي هو تلك الآية البليغة من سورة (آل عمران)، التي يقول فيها الله سبحانه وتعالى: «قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله، فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون» (سورة آل عمران: 65)، فهذا النداء يعتبر أول نداء للتعايش بين الأديان والمجتمعات المختلفة، كما يمكن الاستناد عليه للتأصيل القرآني للتعايش بين الإنسانية جمعاء باختلافاتهم الكثيرة، وذلك لأسباب عدة نجملها في الآتي:
1- دلالة الآية القطعية والصريحة دون ظن ولا احتمال على الدعوة إلى التعايش بين بني البشر، وذلك ما نجده في قوله سبحانه وتعالى: «قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء»، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
2- توضيحها للقواسم المشتركة التي يمكن تأسيس التعايش عليها.
3- بيان الموقف الإيجابي ممن يرفض دعوة التعايش وفق الأرضية التأسيسية، وهو موقف بعيد عن أي اعتداء أو عدوان، يقول تعالى مبينا ذلك: «فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون».
إجمالا، ومن خلال ما سبق، يتضح أن الاختلاف لا يتنافى مع التعايش لأنه من طبيعة البشر، «ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك، ولذلك خلقهم» (هود: 118)، فسنة الله في أرضه تنبني على تباين البشر في الجنس واللون والدين واللغة، وفي القدرات والمهارات أيضا، وبذلك يعتبر الاختلاف تعددا وتنوعا لا يتعارض مع تحقيق مصالح الشعوب، بل يؤدي إذا أدركنا حقيقته ومغزاه إلى التعارف والتعايش المؤديين إلى التكامل والتعاون.