شوف تشوف

الرأي

التضييق على الحرب

عبد الإله بلقزيز
كانت الحرب، دائما، جزءا من السياسة وشكلا من التعبير عنها، كان عليها أن تصطبغ، باستمرار، بلون السياسة التي تقترن بها. لا يتعلق الأمر في هذا، فقط، بتبعية أهداف الحرب لأهداف السياسة؛ لأن هذه من بديهيات كل حرب، بل يتعلق -أيضا- باتصال الحرب بالسياسة بوصفها نظاما من المؤسسات ومراكز القرار. وشهدت السياسة ونظامها على أنماط من التطور والتمأسس متعددة، في العصر الحديث، بحيث لم تعد مُشَخْصَنة، أي متجسدة في شخص الحاكم، أو في هيئة سيادية محدودة. ويكفي المرء أن يقارن بين علاقة الحرب بالسياسة في الأنظمة التقليدية وعلاقتها بها في الأنظمة الحديثة والمعاصرة، كي يتبين كيف كانت العلاقة تلك تتعدل بتغير نظام السياسة واتساع نطاق مؤسساته ومراكز القرار فيه، ثم كيف كانت الحرب تصطبغ بلون المضمون السياسي في النظام القائم أو حين يطرأ عليه تحول.
حين كان النظام السياسي أوتوقراطيا، بحيث تتركز السلطة في يد إمبراطور أو ملك أو أمير، في غياب مؤسسات أخرى تتوزع فيها السلطات؛ وحين لم تكن السياسة شأنا عاما بل شأن فئة محدودة من الخاصة أو الصفوة، كان يمكن لقرار الحرب أن يكون قرار فرد واحد، بمعية جمع صغير من المستشارين والقادة العسكريين. وقد لا تكون الأهداف المتوخاة من الحرب مما يدخل في جملة مصالح المجموع الاجتماعي؛ كما قد لا يكون المجتمع والجيش – لذلك السبب- مهيأ لدفع أثمانها من حياته ومقدراته وقُوّتِه. مع ذلك كله، تقع الحرب وتستجر نتائجها: نكبات أو انتصارات، من دون مساءلات أو محاسبات عن حساب الربح والخسارة. وكم من حرب خيضت على النحو هذا فأتى نموذج الحرب يجسد فيها نموذج السياسة القائم، ويعبر عنه: قرارا وأهدافا. وأكثر الحروب التي كانت من هذا الضرب الحروب الدينية والمذهبية وحروب التوسع مما عرفته أوربا والعالم قبل الأزمنة الحديثة؛ أعني قبل قيام النظام السياسي الحديث.
اختلفت صورة العلاقة بين الحرب والسياسة في الدولة الوطنية؛ الحديثة والمعاصرة، عما كانته في الماضي. لم يعد قرار الحرب فرديا ولا مزاجيا؛ دخل شركاء كثر في صناعته، وأصبح شيئا فشيئا، ومع مرور الأيام، قرارا وطنيا وقوميا تساهم فيه المؤسسات كافة، ويحظى بالمقبولية من الرأي العام. كان يمكن، في الماضي، الاكتفاء برأي الجهاز الحربي وقادته العسكريين لاتخاذ قرار الحرب أو للإحجام عن ذلك؛ وكان في الوسع أن يتمتع هؤلاء بسلطة مطلقة في إدارة الحرب، من دون العودة إلى رجال الدولة. أما اليوم فاختلف الأمر كثيرا. نعم، ما من شك في أن قرار خوض حرب وقف على رأي المؤسسة الدفاعية المعنية بالحرب والدفاع عن السيادة (=الجيش)؛ مدى جاهزيتها واستعدادها؛ مدى قدراتها المادية والبشرية والتقنية؛ معلوماتها الدقيقة عن قدرات العدو؛ مدى قدرة الاقتصاد الوطني على رفد المجهود الحربي… إلخ، غير أن قرارا مثل قرار الحرب ليس عسكريا، بل هو – في المقام الأول- قرار سياسي، وما الجيش إلا أداة تنفيذ له إن حصل واتخذته القيادة السياسية في الدولة. وحتى حينما يحصل أن تكون السلطة السياسية في دولة ما سلطة عسكرية، أو نخبة وصلت إلى السلطة من طريق انقلاب عسكري، فإن قرار الحرب الذي تتخذه يكون قرارا سياسيا لا قرارا عسكريا.
من النافل القول إن تحكم السياسي في العسكري وإخضاعه لسلطانه يكون أشد فائدة، وأدعى إلى العقلانية، كلما كان القرار السياسي مركبا لا بسيطا؛ كلما تولد من عملية مؤسسية شاملة وتحصل من المقبولية العامة القدرَ الكبير. ومبْنَى ذلك على عقيدة في السياسة الحديثة تقول إن الحرب قرار مصيري في أي مجتمع، لأن نتائج كثيرة تتولد منه: قتلى، جرحى، أسرى، إنفاق مالي، خسارات في الاقتصاد، سمعةٌ في العالم، علاقات في المحيط، ثارات بين المجتمعات المتحاربة… ولا يمكن رجلَ دولةٍ أن يتحمل، وحده، أكلاف ذلك وإن ضَمِنَ الانتصار في الحرب. هذا ما يفسر لماذا يرتفع معدل التدخل البرلماني، والإعلامي والصحفي والمدني – في دول الغرب- في أي قرار سياسي يتصل بالحرب؛ ولماذا يزيد حجم فعل المساءلة النيابية للقادة السياسيين والعسكريين عن كل تفصيل يتعلق بالحرب إن بدأت معاركها؛ إذ الجميع مؤتَمنٌ على أرواح المواطنين ومقدّراتهم وعلى المال العام، كما هو معرض للمحاسبة الشعبية غدا. وليس من شك في أن هذا التقييد السياسي- المؤسساتي لقرار اللجوء إلى الحرب، والمراقبة الدقيقة لمجرياتها، إن حدثت، ومساءلة المسؤولين عنها في المؤسسات التمثيلية لا يوفر ضمانات لإنهاء حالة الحرب، لكنه يساهم في التضييق على خيارها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى