التسيب الرقمي
الجميع لاحظ كيف ارتفعت نسبة استعمال شبكات التواصل الاجتماعي بشكل قياسي في ظل الحجر الصحي عبر العالم، وتجاوزت النسبة 400 في المائة بحسب إحصاء قامت به شركة فرنسية متخصصة في هذا المجال، بحيث تم خلق ملايين الحسابات الجديدة، عبر مختلف التطبيقات سواء منها المجانية المتاحة للعموم أو تلك النخبوية التي تفرض رسوما مقابل خلق حساب والاستفادة من الخدمات المختلفة التي تقدمها.
الملاحظ في خضم هذا الانفجار الهائل الذي يعرفه لجوء الناس لهذه الشبكات هو ارتفاع مؤشرات العنف بجميع أنواعه، بما في ذلك استعمال رموز أو كلمات لها علاقة بالجنس، بحيث رصدت الشركة نفسها ارتفاعا بنسبة 384 في المائة.
فما كان الناس يعيشونه من حميمية بشكل سري في ما بينهم، انتقل من الواقع إلى شبكات التواصل الاجتماعي، بحيث تم رصد عشرات الآلاف من الفيديوهات التي تصور يوميا لها علاقة بالتحرش أو الاستعراض الجنسيين، فضلا عن ملايين الصور، سواء الشخصية أو المفبركة لها علاقة بالجنس دائما. وما ساعد في هذه الظاهرة هو أن العديد من الشركات المسؤولة المالكة لأشهر التطبيقات خففت من إجراءاتها المعتادة في مراقبة المحتويات، وذلك “تعاطفا” منها مع 3 ملايير إنسان عبر العالم يعيشون الحجر الصحي وتشجيعا لهم على المكوث في منازلهم.
فالضغط النفسي الكبير الذي يعيشه هذا العدد الضخم من الناس جعلهم يلجؤون إلى وسائل تعويض لتصريف كل أنواع الكبت التي سببها الحجر الصحي. وهذا ما يفسر أن الآلاف من الأشخاص أفصحوا عن ميولاتهم الجنسية المختلفة لأقاربهم، خصوصا بلجوئهم إلى تطبيقات خاصة بمجموعات ذات ميولات جنسية مغايرة. وهذا نفسه ما حدث في المغرب، وأدى إلى انتحار شابين، والسبب هو أنهما إلى جانب العشرات من الشباب والشابات نشروا صورهم الخاصة في مجموعات مغلقة، قبل أن تتفجر قنبلة حقيقية عندما تم اختراق هذه المجموعات وتم نشر هذه الصور عبر شبكات مفتوحة، لتحصل صدمات في بعض الأسر التي كانت تجهل الاختيارات الجنسية لأبنائها وبناتها. مع الإشارة هنا إلى أن ما حدث في المغرب على خلفية هذه الموضوع ليس استثناء بل تم رصده في العديد من التقارير الإعلامية، منها تقرير تقني صادم نشرته “لوغارديان” البريطانية يشير إلى ارتفاع نسب التحايل والقرصنة بنسبة تتراوح ما بين 35 و50 في المائة. كما ارتفع أيضا عدد المشتركين في قنوات الخلاعة بشكل قياسي، وتورد الجريدة نفسها تصريحات لأصحاب بعض هذه القنوات يعبرون فيها عن سعادتهم بارتفاع رقم معاملاتهم المالية.
يحدث هذا في ظل الحجر الصحي مع أن القوانين تجرم نشر المواد الإباحية. فنلاحظ أن الناس اختاروا عدم خرق القانون والبقاء في منازلهم، لكنهم يخرقونه في العالم الافتراضي. فالأهم هو أنهم يحاولون يوميا أن يقنعوا أنفسهم بأنهم في حجر صحي وليسوا في سجون. أما ما ستسفر عنه مرحلة ما بعد الحجر من تفككات عائلية، بسبب حجم العنف الذي تشهده المنازل في هذه المرحلة، فأكبر مما نتصور. فمثلما أتاح الحجر المنزلي للبعض الفرصة ليعيد اكتشاف أفراد أسرته ليتقاسم معهم ما لم يقدر على فعله في الأيام العادية، فإنه وضع آخرين أمام حقيقة أن زواجهم قرار خاطئ.
وبالعودة إلى المغرب، فقد ظهرت مئات القنوات الجديدة على اليوتيوب وهذا أمر يلاحظه كل متتبع للمحتويات التي يقدمها هذا الموقع، وتختلف هوية هذه القنوات عن بعضها البعض، منها قنوات يقول أصحابها إنهم يقدمون محتويات جادة، كتقديم قراءة في كتب أو قراءة دواوين شعرية أو تقديم حصص رياضية أو في الطبخ، وهذه القنوات لا تحظى بإقبال كبير إذ لا يتجاوز عدد المشاهدات عتبة المئات. لكن العشرات منها تخصص في نشر الفضائح والأخبار الكاذبة، واللعب على العناوين والصور لاستدرار النقرات والمشاهدات. وهنا لا حدود أخلاقية أو قانونية تقف أمام هؤلاء. حيث الشعبوية والتحريض على العنف وخلق الإشاعات والترويج لها، بل والتهديد بالقتل أيضا.
ومثلما يحدث في كل الدول التي تعيش الحجر الصحي، فقد انصبت 90 في المائة من التعليقات في الفايسبوك والمحتويات في اليوتيوب مثلا كلها على ما له علاقة بالكورونا. بحسب تصريح لمسؤول كبير في الشركة المالكة لهذين الموقعين. حيث تم رصد 120 مليون حساب جديد في ظرف شهر واحد فقط، وإنشاء مجموعات من ثلاثة أشخاص فما فوق تضاعف بـ1000 مرة، بحسب المسؤول الفايسبوكي نفسه.
فالحياة الخاصة التي كانت تُعاش اجتماعيا تحولت إلى شبكات التواصل الاجتماعي. والأمور التافهة التي كانت تقال لشخص أو شخصين من المقربين قبل الحجر الصحي أضحت متاحة لملايير البشر، ويمكن لأي كان الاطلاع عليها.
فالتهافت على ما كنا نصنفه سابقا في خانة التفاهة أضحى لافتا. وهنا لا يغرنا ما يكتبه الناس ويتقاسمونه في الفايسبوك أو تويتر أو انستغرام بخصوص محاصرة التفاهة والاكتفاء فقط بالمواضيع المفيدة، فعدد كبير من أصحاب المحتويات المصنفة بأنها تافهة يعترفون بأن عددا كبيرا من مشاهديهم هم أنفسهم الذين يظلون يستنكرون التفاهة. والعديد من “المشهورين” أصحاب مئات “k” أي مئات الآلاف استغلوا قرار اتخذته الشركة المسؤولة عن الفايسبوك واليوتيوب يوم 18 مارس الماضي بإعطائهم الأولوية في الاقتراحات المقدمة للزائرين. وعوض الاكتفاء بنشر التوعية والمواضيع التي تفيد الناس في الحجر، سواء صحيا أو نفسيا أو تقنيا، فإنهم انخرطوا في حروب “طيابات الحمامات”، والعناوين هي نفسها دوما: “فلان يصدم علان ويكشف حقائق كذا” أو “شاهدوا ماذا قاله فلان عن علانة”. “الفيديو الذي فضح فلان. شاهد قبل الحذف”، وغيرها من عناوين الإثارة التي يمكن بسهولة وضع أصحابها تحت طائلة المتابعات القضائية، بسبب حجم التحريض على العنف الذي تحتويه هذه الفيديوهات.