شوف تشوف

الرئيسية

التاريخ السري لفنادق نهبت محتوياتها بعد الاستقلال ولم تتبق منها إلا الأطلال

إعداد: يونس جنوحي

«ظلام دامس ليلا وثقوب تمرر قدرا يسيرا من الضوء بالنهار. خراب كبير اجتاح بنايات قديمة في قلب أكبر المدن المغربية وأقدمها من الناحية التاريخية. كيف تحولت فنادق كانت تجسد البذخ الأوربي فوق أرض المغرب إلى أماكن بئيسة.. قصة المسخ التاريخي الذي طال ذاكرة المغرب!».

كيف ساهمت الفنادق في صنع حياة جديدة بالمغرب ؟

لا غرابة أن الطابع الأوربي لجل البنايات في الدار البيضاء، يطغى على معمار المدينة. بنايات لا تزال قائمة إلى اليوم، يعود تاريخ أغلبها إلى سنوات الأربعينات والخمسينات.
بعضها لا يزال قائما، وأخرى خضعت للترميم. يعتقد الكثيرون أن الأمر كان يتعلق وقتها ببنايات لمنازل أو شقق سكنية أو إدارات فرنسية في أفضل الحالات.. لكن القليلين فقط يعلمون أن الأمر يتعلق بفنادق مصنفة لم يتبق منها اليوم إلا الأطلال.
أشهرها، على الإطلاق، فندق لينكولن بقلب الدار البيضاء. يطل على شارع محمد الخامس. ما تبقى من الفندق، لا يعدو أن يكون بقايا جدران ترسم حدودا وهمية لغرف لم تعد موجودة إلا في ذكريات الذين زاروا الفندق «أيام العز» أو من عاصروا سنواته الذهبية من المغاربة.
هذا الفندق يعكس واقعا بئيسا لما آلت إليه الفنادق في الدار البيضاء، ما دامت هذه المدينة قد شهدت ثورة معمارية على يد مهندسين فرنسيين، بعد سنة 1909 خصوصا.
يبدو مصير فندق لينكولن أكثر رحمة بتاريخ مماثل، إذا علمنا مثلا مصير عشرات الفنادق التي لم يتبقى منها أي شيء.
قد يبدو الأمر صادما للبعض، خصوصا الذين يعرفون كيف كانت فنادق الدار البيضاء سنوات العشرينات ونوعية الزبائن الذين قصدوها لقضاء ليال تختلف تماما عن ليالي الدار البيضاء الحالية.
قطط سمينة تتجول في ممرات مظلمة، وروائح تحبس الأنفاس. مزابل كانت فنادق من خمسة نجوم، نزل بها أشهر ممثلي السينما العالمية خلال سنوات العشرينات، لم يتبق منها إلا بقايا جدران متآكلة. فنادق أخرى، تحولت إلى غرف للكراء، يلجأ إليها مواطنون في وضعية صعبة، لا ذنب لهم إلا أنهم وجدوا فيها آخر ملجأ يمكن أن يقيهم برد الجو وقسوة الليل. الذين حولوها إلى ما هي عليه اليوم، لم يدركوا هول المصيبة التي أقدموا عليها، والتي تتلخص في إتلاف جزء كبير من تاريخ ذهبي لمدينة الدار البيضاء.
سنرى في هذا الملف شهادات حية، لأبناء الدار البيضاء الذين عاصروا مستخدمين عملوا في تلك الفنادق، التي سبقت زمانها بوقت طويل، وشهادات أخرى لنزلاء مروا منها.
سيكون على الذين فرطوا في معلمات تاريخية، أن يعضوا أصابعهم من الندم، لأنهم بدل أن يستفيدوا من إرث تاريخي يمكن أن يعود عليهم بالكثير، فضلوا أقصر الطرق، وحولوا بنايات تاريخية إلى أماكن بئيسة، في طريقها إلى الانقراض.
هذا على الأقل رأي الذين تحدثنا إليهم في الموضوع، ليقولوا بكثير من الحكمة الممزوجة بالحسرة، إن تاريخ الدار البيضاء، خصوصا الفنادق، قد عصفت به رياح عشوائية بدأت منذ حصول المغرب على الاستقلال، وبالتالي تفويت ملكية فنادق سياحية مصنفة إلى ملكية مغاربة، لم يكن يهمهم أن يسيروا فنادق وأماكن تشهد على مراحل تاريخية، بقدر ما كان يهمهم أن يجنوا الكثير من المال في وقت أقل.
هكذا نهبت محتويات تلك الفنادق، وضاعت مقتنيات نادرة وسجلات للزوار، كانت تحمل توقيع سياسيين فرنسيين وأوربيين وأمريكيين أيضا، سجلوا مرورهم من الدار البيضاء، بالموازاة مع أحداث تاريخية مهمة أولها الحرب العالمية الأولى، ولم تكن الحرب العالمية الثانية آخرها. وبين الحربين، مر ضيوف كثيرون من عالم السينما والرياضة.. أقاموا في غرف للنجوم بخدمات فندقية خيالية، تحولت اليوم إلى ممرات تتبول فيها الكلاب، أو بقايا منازل تقسم بالكرتون والألواح الخشبية، وتكترى لإيواء الوافدين الجدد.
هذه قصة أول الفنادق، وهكذا صُنع جزء كبير من تاريخ المغرب.

هكذا كان المغاربة العاملون في أول الفنادق وهذه خدماتهم السياحية!
في شهادة لبريطاني، تعود إلى نفس الفترة بطنجة، توجد ملامح بارزة لمظاهر الحياة بهذه المدينة وأجواء فنادقها. يقول:
«طنجة تضم حثالة المجتمع الأوربي. والأخبار الرائجة عن الأجانب هنا تكبر مثل كرة ثلج في منحدر. لذلك أيقنت أن كل ما يقال ليس صحيحا. الأوربيون هنا يتباهون بصفة «مراسلنا من عين المكان» التي تمنحها لهم الجرائد الأوربية ويعتبرونها صفة مشرفة رغم أنهم يروجون الأكاذيب وأنصاف الحقائق.
أنا الآن أجلس إلى طاولة بالفندق. في مقابلي يجلس رجل إنجليزي أزرق العينين، من الصعب عدم ملاحظته لأنه يثير فضول الموجودين. تعودت بعدها على رؤيته في نفس المكان لثلاثة أيام متلاحقة لم نكن نتبادل خلالها إلا تحية الصباح.
بعد أن عرفت أنه رئيس شرطة سابق بجنوب أفريقيا، ومجرب لويلات الحروب العرقية. تمنيت لو كان بإمكانه مرافقتي. ما إن عرضت عليه الفكرة حتى وافق على الفور. قال لي إن اسمه «أركيل هاردويك»، ومع الخوض في الحديث علمت أنه خبير في الرحلات الطويلة واستعمال السلاح والتصويب عن بعد. تركته وانصرفت للإعداد للرحلة. بعد جولة المساء في مختلف دروب طنجة، إعدادا للرحلة إلى الدار البيضاء، كما قلت للكثيرين، عدت إلى الفندق.
أتى «هاردويك» إلى غرفتي في الليل، ومعه شخص قال لي إن اسمه «محمد رابط». وجاء كي يعطينا فكرة عن الأوضاع. دخل إلى الغرفة صائحا بإنجليزية متقنة: «أهلا صديقي» وارتمى على الكرسي الوحيد الموجود بالغرفة. ما إن بدأ في الحديث حتى أدهشتني إنجليزيته، وأيقنت أن الأجانب الذين عمل برفقتهم قاموا بتعليمه جيدا، والأكيد أنهم كانوا يعاملونه بدون رسميات. لكنه أصيب بصدمة عندما نهره «هاردويك» وأمره بالوقوف والتأدب في حضوري. لكن أول ما همني الاستفسار عنه هو أجرته ومدى درجة وفائه وإخلاصه في التعامل معي».
سنرى في هذا الملف أن العاملين مع السياح والأجانب، والعاملين في الفنادق خصوصا، في الدار البيضاء يختلفون تماما عن هؤلاء الذين تحدثنا عنهم في طنجة.
بعض الفنادق في طنجة، تحولت إلى مستغلات أخرى، في وقت مبكر، لكن قصة فنادق الدار البيضاء، والتي يُشهد لها أنها تجاوزت فنادق طنجة بكثير، من حيث جودة الخدمات والأهمية، تحيل إلى واقع بئيس، أتى على تاريخ بأكلمه!

فنادق أنشئت للتجسس وأخرى لجمع شمل الجالية الأوربية!

تضم طنجة اليوم بنايات كثيرة تحولت إلى إرث تاريخي حقيقي، بكل ما تحمله جدرانها وأركانها من دلالات تاريخية. إقامات تحولت إلى معارض، كانت في الماضي شققا استقر بها كبار الدبلوماسيين الذين صنعوا تاريخ العالم وحروبه.
يقال إن أول الفنادق التي أنشئت في المغرب، كانت في طنجة، بحكم أنها كانت الوجهة الأولى التي ينزل فيها الأجانب الوافدون على المغرب، قبل أن يصبح ميناء الدار البيضاء بعد سنة 1909، الوجهة الأبرز التي يسلكها القادمون إلى المملكة.
تسجل كتابات كثيرة أن طنجة كانت موقعا سياحيا، في وقت كانت فيه المدن المغربية الأخرى خالية تماما من الفنادق. لا يمكن، حسب نفس الروايات، أن تؤسس فندقا في الدار البيضاء أو في مراكش أو فاس، خلال تلك السنوات ما قبل 1910، خصوصا أن البلاد لم تكن مهيأة لاستقبال الأجانب الذين بدأوا في التوافد إلى المغرب. لكن طنجة، شكلت مكانا لاحتضان جنسيات مختلفة، نقلوا معهم عادات أوربية كثيرة أولها المقاهي ولم يكن آخرها تأسيس الفنادق.
هكذا نعثر مثلا على كتابات مشابهة لسياح سجلوا حضورهم في طنجة، سنوات قليلة فقط، بعد إنشاء أول الفنادق التي تحولت في ما بعد إلى ذاكرة لطنجة الدولية.
«كانت أمامي دابة، تحمل أمتعتي وتتطاوح بها عبر أرضية الشارع التي تعلو وتهبط. تتصارع مع ثقل حقيبتي وأغراضي لكي توصلها إلى الفندق الذي سأنزل فيه حتى أستريح بسرعة من عياء السفر الذي هدّني كليا.
اخترت هذا الفندق الصغير حتى أتجنب الحديث إلى مروجي الإشاعات الأجانب والخائضين في النميمة الذين يستقرون في الفنادق الكبيرة والراقية، حيث يسجلون جميع حركاتك وسكناتك. الطعام في هذا الفندق الصغير لم يكن جيدا، لكن المنظر من النافذة جدير بالمشاهدة.
مع أولى ساعات الصباح، وبمجرد تسرب أول شعاع للشمس، استيقظت من نوم هادئ، واتجهت صوب النافذة لأحجب أشعة الشمس التي وصلت إلى وجهي لتحرمني من النوم. ورغم أنني حجبت الشمس، إلا أن أشعتها القوية ظلت متسربة لتضيء الغرفة كليا.
كان المنظر رائعا، شمس بدأت في احتلال الأفق الممتد مع البحر، ليبدو اتجاه اسبانيا غارقا في فضاء أزرق ترسو فوقه بواخر متباعدة. طنجة تدخل في البحر بلونها الأبيض الذي شكلته جدران المنازل وأرصفة الطرقات. صوامع المساجد تعلوها علامات خضراء. كان هناك تناسق كبير في الألوان لم تفلح الهضاب وتضاريس المدينة المرتفعة في تكسيره. بدأت الحياة تدب في الشوارع مع أولى ساعات الصباح. وقع الجمال المحملة بالسلع، ونهيق الحمير. باعة الحبوب وصلوا لتوهم ليبدأ يوم آخر من أيام طنجة».
الفنادق الكبيرة في طنجة كانت فعلا مكانا لترويج الإشاعات. ففي واحدة من الكتابات التي تؤرخ لأرشيف كامل من الدبلوماسية الإيطالية في المغرب، يقول أحد الباحثين إن القنصل الإيطالي في طنجة خلال سنتي 1905 و1908، كان ينقل أخبار قناصل الدول الأوربية الأخرى، معتمدا على مخبريه داخل الفنادق الكبيرة في طنجة.
كان المنظر في طنجة مختلفا عن المدن المغربية الأخرى. ولم تكن الدار البيضاء لتشبه طنجة، إلا في سنوات العشرينات، وهو ما يعني أن الأخيرة كانت تسبق المدن المغربية الأخرى بأشواط. في نفس الشهادة التاريخية نجد أن السائح الأجنبي يكتب متحدثا عن أجواء طنجة ومقاهيها، التي شكلت النواة الأولى لتاريخ المقاهي والفنادق بالمغرب بالقول: «خرجت من غرفة الفندق الباردة والهادئة، إلى دفء الشوارع وصخبها في طريقي إلى أعلى التل. قطعت الشارع الرئيسي، وعلى جنباته كانت هناك أبواب كبيرة محروسة في اتجاه السوق الكبير.
على رصيف أحد المقاهي كان يجلس أوربيون من جنسيات مختلفة بلباس أنيق يتحدثون، بينما يدخل بينهم أطفال إسبان يحملون جرائد يعود تاريخها إلى 3 أيام قبل اليوم الذي نحن فيه. في الساحة أمام المقهى كان هناك قطيع من الجمال التي تستريح على الأرض الواسعة، فيما يقف قربها قطيع آخر من الحمير الصغيرة التي تحمل بضائع أضعاف حجمها الصغير. تخترق الزحام في كل اتجاه. فيما تتلقى ضربات موجعة من أصحابها عندما يبدو عليها العياء والتلكؤ في صعود التل.
ما إن توغلت في الشارع المرتفع أكثر، حتى بدأ المتسولون في الإمساك بيدي بقوة مستجدين من أجل الحصول على المال، ولا يفارقهم أنين صادر من صدورهم المنهكة. كان هناك أوربي يركب حصانا قويا، يقطع به الزحام غير عابئ بصياح التجار وباعة الزرابي النفيسة. بينما كنت أنا أترنح بين المتسولين الذين كانوا يشدونني من تلابيب الثياب، بالإضافة إلى أن أرضية الشارع كانت موحلة ويصعب المشي فوقها دون السقوط. أشعة الشمس القوية لم تفلح في تجفيف الشارع من الوحل».
الأخطر، أن بعض الفنادق كانت مخصصة لترويج الأسلحة. ففي بعض الروايات التاريخية، الشبيهة بالروايات البوليسية، يقال إن فنادق بمدينة طنجة، شهدت صفقات أبرمت بعيدا عن أعين رقابة الحكومات الأوربية، في طنجة التي كانت بدورها لا تخلو من المخبرين!
الفنادق شكلت فضاء مثاليا لإبرام الصفقات، بعد أن كانت المقاهي، هي المؤسسات الأوربية الأولى التي تأسست في المغرب. حيث كان الإسبان على وجه الخصوص، يدمنون قراءة الجرائد والتشمس في شوراع طنجة، غير بعيد عن القارة العجوز.

ضيوف غير عاديين ووزراء أقاموا في فنادق «فاخرة» لم تعد موجودة!

الإقامة داخل فنادق في وقت مبكر في المغرب، لا بد أن تكون مكلفة. خصوصا وأن ضيوفها لم يكونوا عاديين. حاولنا خلال هذا البحث أن نصل إلى سجل للزوار، حتى نأخذ فكرة عن طبيعة الضيوف الذين مروا من الدار البيضاء خلال سنوات العشرينات، وقرروا النزول في أفخم الفنادق ذلك الوقت، لكن العثور على أرشيف ما يبدو مستحيلا أمام اندثار هذا الجزء من الذاكرة الجماعية لمدينة بحجم الدار البيضاء. لكن هناك معلومات تؤكد أن ضيوف أغلب الفنادق كانوا بالغي الأهمية. رجال أعمال وسياسيون وحتى وزراء، أغلبهم فرنسيون بطبيعة الحال، جاؤوا إلى الدار البيضاء خلال سنوات العشرينات والثلاثينات، لبدء مشاريع استثمار في المغرب، وكان لزاما عليهم أن يقيموا في فنادق مصنفة.
الخدمات التي كانت تقدمها تلك الفنادق كانت عالية الجودة، لكن دورة الزمان، عصفت بمظاهر البذخ وحل محلها الخراب. بعد خروج أغلب الفرنسيين من المغرب، تحولت تلك الفنادق إلى ملكيات خاصة، وهو الأمر الذي ساهم في تفويت تدبيرها إلى الخواص. هؤلاء كان لديهم رأي آخر بشأن استغلالها، ومنهم من حولها إلى منازل أو شقق للكراء.
سنعود إلى مصير تلك الفنادق لاحقا. وبالعودة إلى الضيوف الذين حلوا بها، يخبرنا سعيد بنعبد الله، وهو واحد من الشبان الذين التقيناهم، للإفادة في الموضوع، أولا بحكم انتمائه إلى المدينة القديمة بالدار البيضاء، وثانيا بحكم أنه واحد من الدكاترة، رغم اختلاف تخصصه العلمي، ممن شدهم تاريخ مدينتهم ورغبوا في التنقيب داخله للإجابة عن كثير من الأسئلة.
يقول: «في سنوات الطفولة خلال السبعينات. كنا نلاحظ أن بعض العمارات كانت مختلفة عن بقية المنازل في المدينة القديمة. كنا نسمع أنها كانت فنادق في السابق، لكننا لم نجرؤ يوما على الدخول إليها رغم أنها كانت مهجورة. بعضها بيع لأناس قاموا باستغلالها، لكن بعضها بقي مغلقا بالسلاسل. أتذكر مرة أن بعض أطفال الحي قرروا ثقب جدران واحد من تلك البنايات، من خلف الزقاق، وبعد أيام من الحفر نجحوا فعلا في الدخول إلى إحدى الممرات، لكنهم فوجئوا بأن الأبواب المفضية إلى الطوابق الأخرى أو الغرف الأرضية، مغلقة تماما. لا أتذكر كيف انتهت القصة، لكن بدا أن تلك البنايات تحمل سرا ما.
في سنوات الشباب، كنا نجلس مع بعض الرجال الذين عمروا طويلا في الأحياء التي كنا نقطن بها، وحكوا لنا أن تلك البنايات كانت في السابق فنادق مصنفة، لا يمكن للمغاربة الدخول إليها، باستثناء بعض الذين كانوا يعملون داخلها، وكان منظرهم غريبا، لأنهم كانوا مغاربة يرتدون سراويل مكوية بعناية ويمشطون شعورهم بطريقة غريبة. بعضهم يبقى واقفا قرب الباب طوال اليوم لاستقبال الزوار والتبسم في وجوههم، فيم آخرون كانوا يقومون بالأعمال المنزلية داخل تلك البنايات. كان هؤلاء الناس يعلمون أن تلك البنايات كانت فنادق، لكنهم لا يعرفون عنها أي شيء إلا الحكايات».
الطريف في الأمر كما يقول بنعبد الله أن أحد أجداد أصدقائه، حكى لهم كيف أن سنة 1956 عرفت حدثا هاما في أحد شوارع المدينة، حيث تم نهب فندق بالكامل بعد أن فر صاحبه اعتقادا منه أن المغاربة سوف يقتلونه فور الإعلان عن خبر استقلال المغرب. وفور علم العاملين في الفندق أن صاحبه قد غادر المغرب على الفور، تحولت البناية إلى فوضى حقيقية. وبعد أن شاهد المارة منظر العاملين المغاربة يخرجون مسرعين من الفندق حاملين معهم الفوط والمحارم والأواني والأطعمة، صعدوا بدورهم للفوز بحقهم من الغنيمة، وهكذا نهبت جميع محتويات الفندق في رمشة عين.

خربة المدينة القديمة التي كانت فندقا من 5 نجوم!

إليكم هنا وصف دقيق لفندق في الدار البيضاء. نقلناه لكم من بعض صفحات مذكرات خطتها سيدة فرنسية اسمها «ناتالي». نحن في سنة 1929. الهدف من زيارة ناتالي إلى المغرب، كان تهنئة أسرة فرنسية، حديثة عهد بالانتقال إلى الدار البيضاء، بميلاد ابنة جديدة في العائلة. وبدل أن تتجه إلى منزل الأسرة، الذي كان ضيقا كما وصفته، اختارت النزول مباشرة في فندق، بعد توجيهات من صديقة مقربة، قامت بزيارة قبلها إلى المغرب.
تقول إن الفندق يقع في قلب الدار البيضاء، ويطل على البحر، ولا يبعد كثيرا عن الأحياء السكنية. «تملكتني الصدمة من حجم اللوحات الفنية التي تزين الجدران. عامل الاستقبال لم يخف عليه اندهاشي لجمال اللوحات، وأخبرني أنهم جاؤوا بها من فرنسا خصيصا لتزيين جدران الفندق وغرفه الفسيحة. السفرة كانت رائعة، والأواني كلها تحمل توقيع ماركات فرنسية عريقة. كل شيء هنا فرنسي، إلا الخدم بطبيعة الحال. لقد تم تكوينهم للقيام بأعمال الخدمة داخل الفنادق وفق المعايير الفرنسية. يعرفون كيف يقدمون الصحون ويجمعون السفرة بكثير من اللباقة. الغرفة كانت جميلة ومريحة، وكنت أحتاجها فعلا لأتخلص من عياء أيام ممتدة من السفر بحرا وصولا إلى الدار البيضاء. كل شيء هنا فرنسي.. واندهشت في المساء لأن الفندق كان يقدم، في المكان المخصص لتناول الوجبات، سهرة فنية فرنسية بامتياز، واستقدم فرقة غنائية من فرنسا خصيصا لهذا الغرض.
جلست لكتابة رسالة إلى أسرتي، حتى أخبرهم أنني وصلت بخير، وأيضا حتى أتصل بأقاربي في الدار البيضاء لأقدم لهم التهاني، فإذا بموظف يأتي إلي ويسألني في أدب إن كنت أريد مطالعة الجرائد. وقبل أن أفكر في رد مناسب، أخرج من وراء ظهره حزمة من الجرائد الفرنسية، ووضعها أمامي حتى أطلع على أخبار فرنسا.. أحسست مرة أخرى أنني لم أغادر باريس أبدا، وأنها لحقت بي إلى أفريقيا، بعد أن قطعت البحر، وبعد أن كنت أظن أن المغرب سيكون منعزلا تماما عن الحياة..».
لنكن الآن أكثر دقة. الفندق الذي تتحدث عنه هذه السيدة، لا يمكن اليوم أن يكون خارج المدينة القديمة في قلب الدار البيضاء. جولة بسيطة في عقر الدار، كفيلة للخروج بخلاصة واحدة، يؤكدها العارفون بتاريخ الدار البيضاء.. هذه الحقيقة مفادها أنه لا مكان أبدا لتلك الفنادق القديمة.
كل شيء تحول إلى بقايا عمارات أو أطلال، أو هدم لتقام مقامه بنايات أخرى.
والفترة التي تتحدث عنها هذه الفقرات، تعود إلى العشرينات، وهو ما يعني أن بناء الفندق، وفنادق أخرى بالدار البيضاء، تم في الفترة التي كان فيها المهندس الفرنسي Henri Prost مكلفا بتصميم المدن ما بين سنوات 1914 و1922.
المعمار الفرنسي الذي يغلب على جل، إن لم نقل كل العمارات السكنية والمنشآت في ذلك الوقت، مرده إلى الخطة المعمارية التي انتهجها هذا المهندس الفرنسي، الذي حرص على نقل فرنسا وبناياتها إلى المغرب.
دهشة «السائحة» ناتالي، التي تعود إلى بداية العشرينات، تبدو مفهومة بعد وضعها في سياقها الصحيح. عمد أحد أحفادها إلى إعادة رقن مذكراتها بعد وفاتها خلال ثمانينات القرن الماضي، بعد معاناة طويلة مع المرض، واحتفظ بالنصوص إلى أن قرر أن يشاركها مع العائلة في مدونة إلكترونية خاصة. وبقليل من البحث في مدونات أنشأها مسنون، لتبادل ذكرياتهم ومذكراتهم التي تعود إلى نفس الفترة، تقفز قصة ناتالي مع واحد من أقدم فنادق الدار البيضاء، رغم أنها لم تشر له بالاسم، لكنها أبدعت في وصفه.
نقلنا قصة ناتالي إلى أحد الباحثين ممن كانوا يهدفون إلى إنشاء دليل مفصل عن تاريخ الفنادق في الدار البيضاء، قبل أن تقعده عراقيل مادية عن إتمام الفكرة، وبعض الكسل كما يعترف ضاحكا. يقول بعد أن أطلعناه على ترجمة النص الذي تتحدث فيه ناتالي عن وصف الفندق الذي نزلت فيه في الدار البيضاء خلال سنة 1922: «أعتقد أن ما كتبته هذه السيدة خال تماما من المبالغات. لقد كان مستوى الفنادق في الدار البيضاء فاخرا منذ بداية إنشائها بعد قدوم الفرنسيين بكثرة إلى المغرب. لاحظ أنها لم تتحدث عن حجم البناية ولا عدد طوابقها.. أعتقد أن الأمر مرده إلى أن بعض الفنادق في ذلك الوقت، رغم أنها فاخرة والخدمات بها عالية الجودة، إلا أنها صممت في ذلك الوقت داخل عمارات سكنية وتم استغلالها كفنادق. لدي بعض المعارف، أكدوا لي بكثير من الحسرة أن تلك البنايات أصبحت اليوم خرابا حقيقيا، ولم يعد هناك أي أثر يدل على ما كانت عليه في السابق».

كيف تحولت أفخم الفنادق إلى بنايات مهجورة وغرف بئيسة للكراء!

لا شيء يدل على أن هذه الأمكنة كانت في وقت سابق منظمة، كل شيء هنا عشوائي. بناية يعلوها بعض البياض، وكثير من الاصفرار الذي يحيل على الإهمال الكبير الذي طالها. ابن المدينة القديمة، بنعبد الله، يرافقنا في جولة بسيطة للوقوف على آثار بعض الأحياء التي يقال إنها كانت تعرف نشاطا سياحيا خلال سنوات الثلاثينات والأربعينات.
يشير إلى الأمام. هذا الصف من البنايات كان خلال وقت سابق عبارة عن فنادق ومقرات لشركات فرنسية وإقامات فاخرة يحجزها الفرنسيون. في ما بعد تحولت ملكيتها إلى المغاربة، وساءت حالتها بفعل الإهمال الذي طالها. البناية التي تحول بابها إلى بقايا خشبية، تضم شققا كثيرة في طوابقها الأربعة، لكن يد الزمان عاثت فيها فسادا، وحولها أصحاب البناء العشوائي إلى ما يشبه شققا صغيرة وسط الشقق الكبيرة، ويصبح عدد سكانها أضعاف عدد نزلائها في ليالي الذروة عندما كانت فنادق!
الأخطر من هذا، حسب تأكيدات بعض الذين يسكنون في نفس «الزنقة» التي كانت شارعا ذات فترة، أن بعض غرف الفندق السابق، يتم اكتراؤها للعابرين على أنها منازل صغيرة، حيث بنيت داخلها جدران لتخصيص مساحة من الغرفة إلى مطبخ وجزء منها إلى مرحاض، بشكل عشوائي، أفقد البناية جماليتها. يقول مرافقنا إن بعض الغرف التي كانت قبل عقود ذاكرة حقيقية للدار البيضاء بعد أن أقام داخلها وزراء فرنسيون وممثلون مشاهير زاروا المغرب خلال الثلاثينات والأربعينات، تحولت اليوم إلى سكن عشوائي يهدد سلامة الذين يقطنون به أولا.
يقال إن رجلا واحدا كان يعرف كيف كانت تلك البناية أيام كانت فندقا، وبوفاته قبل عشر سنوات، لم يعد أحد يملك أي معلومات عن ماضي تلك البناية، بعد أن كان هو شخصيا آخر العاملين فيها خلال سنوات الأربعينات والخمسينات. لكن الذين لا زالوا يتذكرونه، يقولون إنه كان يتحسر كثيرا على مآل البناية كلما مر بجانبها، ويقول لأبنائه إن تلك العمارة كانت فندقا فخما، بمعايير عالمية، وكان لدى أصحابه سكاكين وفوط وأفرشة تحمل توقيع الفندق بحروف فرنسية بارزة، ولوحات فنية كبيرة، لكن كل شيء تعرض للنهب بعد أن تحولت ملكيتها إلى مستثمر مغربي، عمل على تحويل طوابق الفندق الأربعة إلى شقق سكنية، كان مصيرها أن تصير عشوائية بعد انتقال الملكية إلى آخرين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى