شوف تشوف

الرئيسية

التاريخ السري لجنائز الوزراء والجنرالات والمستشارين !

«البدايات لا تشبه النهايات. وفترة القوة في السياسة والسلطة لا بد أن تتبعها كبوة تؤدي حتما إلى القبر. هؤلاء أناس يعرفهم المغاربة جميعا، بل ويعتبرون أن قسطا وافرا من تاريخهم صُنع على أيدي هؤلاء أو بحضورهم.. لكن لا أحد تساءل عن جنائزهم ولا عن المراسيم التي رافقتهم إلى مثواهم الأخير..»

تفاصيل لعنة النهاية التي لاحقت أشهر السياسيين والوزراء لعقود من الحكم !

طيلة حلقات الحوار الذي تجريه «الأخبار» مع ابن رئيس الكتابة الخاصة للملك الراحل الحسن الثاني، ترد اتصالات من بعض الذين كانت حياة عبد الفتاح فرج، تعني لهم أشياء كثيرة، على المستوى المهني. لكن التفاصيل التي هزتهم، وصدمت بعضهم ليتصل حتى يتأكد من صحتها فعلا، كانت تلك التي رواها ابنه لأول مرة على صفحات «الأخبار» ليقول إن أباه عبد الفتاح فرج توفي في ألمانيا وحيدا تحت وطأة المعاناة مع المرض الخبيث والإنهاك من جلسات العلاج الكيميائي، وأنه دفن في مقبرة عادية في مدينة «أولم» الصغيرة بألمانيا، ليس فيها مكان للمسلمين، وأنه دفن بدون طقوس رسمية، رغم أن السفير المغربي كان حاضرا في الجنازة..
ماذا يعني أن يُدفن رجل حمل حقيبة الملك الراحل منذ سنة 1964، وتكلف بالحسابات وشؤون أهم مكتب في البلاد، يتعلق الأمر بمكتب الملك الحسن الثاني، وربط علاقات متينة مع كبار رجال الدولة وسكن إلى جوارهم.. ماذا يعني أن يدفن وحيدا بدون مراسيم، في مقبرة للنصارى.
سيكون بهذه التفاصيل الجديدة التي تضمنها الحوار، على رواية «الجنائز البئيسة» أن تتيح المجال لفصل آخر بعنوان عبد الفتاح فرج، حتى ينضم إلى لائحة ضيوفها المرغمين.
لجنائز رجال السلطة قصص غريبة، تشكل نهايات لم تكن متوقعة حتى لأقرب الناس إليهم وأكثرهم دراية بالأوضاع المريحة التي كانوا يعيشونها في نعيم السلطة. أسماء كثيرة، ظن الذين تابعوا مساراتها، أن نهايتها ستكون في ضريح أو مزار حتى، وسيأتي إليها المدينون بأفضال نعيم السلطة، لقراءة الفاتحة على الراحلين، لكن شيئا من ذلك لم يكن..
البداية ستكون مع الذين صدر في حقهم حكم رسمي بالخيانة فور حصول المغرب على الاستقلال. بعضهم صودرت أملاكهم، وآخرون صودرت حياتهم على يد الغاضبين في الشوارع. وبدل أن يحظوا بالجنازات، تحولت جثامينهم إلى جثث مُثّل بها في الأحياء، إلى أن تدخل الملك محمد الخامس ليحتوي الوضع، وتباشر الترتيبات القضائية التي ستعتق أولئك من الانتقامات الشعبية، ويصبحوا مدانين قانونيا بتهمة الخيانة وتتم معاقبتهم بالتجريد من الممتلكات والمواطنة أيضا.
هؤلاء، دائما، كانت لهم جنازات غابت عنها السلطة التي تقلبوا في نعيمها طيلة حياتهم، كالحاج المقري. كان عليه أن يعيش إلى أن يسمع بأذنه الحكم الصادر في حقه، والذي يقضي بسحب أملاكه منه وإسقاط الجنسية عنه. توفي بعد الحكم بستة أيام فقط، وأقيمت له جنازة محتشمة اقتصرت على عائلته القريبة فقط، فيما لم يقو بعض أصدقائه على الحضور إبعادا للشبهات التي قد تحوم حولهم إن هم كانوا في وداعه.
مرورا إلى من عاصروا المقري، نجد الباشا الكلاوي، والذي رغم أنه استفاد من عفو ملكي من محمد الخامس، عندما استقبله في القصر بعد عودته من المنفى، ليجثي الكلاوي تحت قدمي محمد الخامس طالبا الصفح، وتجد الصورة انتشارا واسعا فور التقاطها. لكن المثير في قصته أن الضوء ألقي على حياة البذخ التي عاشها والسلطة التي التف بها، والعطف الملكي عليه بعد عودة الملك من المنفى.. لكن لا أحد اهتم بالمقابل، بالتطرق إلى آخر محطة من حياته، والجنازة التي نظمت له بقصره.
الفاطمي بنسليمان أيضا كان واحدا ممن احتكوا بالمقري والباشا الكلاوي، وكان مرشحا بقوة ليخلف بن عرفة بطريقة غير مباشرة. إذ كانت الخطة أن يترأس حكومة مجلس العرش الذي كان سيؤسس لخلافة بن عرفة. الفاطمي بنسليمان سيموت في ظروف شبيهة بالنهاية التي كانت من نصيب الحاج المقري، وسيعاني من تبعات الفترة التي تأزمت فيها أوضاع العرش بالمغرب، ليكون بمواقفه قد اصطف في صف الخونة والمعسكر المعادي لعودة الملك محمد الخامس، وهكذا بقي حبيس داره بعيدا عن الأنظار إلى أن مات، وأقيمت له جنازة متواضعة جدا، لم يحضرها أحد من رجال السلطة أو رموز العهد الجديد وقتها..
بالعودة إلى جنازة الباشا الكلاوي، فإنها عرفت حضور أجانب كثيرين ورجال قبائل أكثر. أصدقاؤه الأجانب، والذين بايعوه في حياته، أو كانوا مدينين له بأموالهم وربما مراكز السيادة الممنوحة لهم على رأس القبائل التي يمثلونها في نواحي مراكش وسوس عموما، هم من حضروا لوداعه، ولم يكن خافيا في تلك الجنازة أن صاحبها لم يعد له من حظوة السلطة بالمغرب أي شيء.
مر على موت الباشا الكلاوي فترة، عاش المغرب خلالها جنائر أخرى في الكواليس، ولم يخرج خبرها إلى الوجود، ولم يهتم أحد بحضورها سواء خلال سنوات الخمسينات أو الستينات.
مرت السنوات، وكان ربما من الضروري أن تعيد الحياة تذكير أصحاب السلطة الجدد، بأن نهايتهم لن تكون متوازية بالضرورة، مع مجد السلطة الذي عاشوه.
إدريس البصري، رغم أننا لن نتحدث هنا عن جنازته، لأننا أفردنا لها ملفا سابقا تناولنا فيها تفاصيل آخر يوم في حياته داخل المغرب وفي فرنسا أيضا، يعد واحدا من آخر الذين طبقت عليهم قسوة التناقض بين ماضي السلطة وحاضر التجرد منها، وقبله كان هناك الجنرال أوفقير والجنرال الدليمي، وبينهم كانت جنازة أخرى لم يسلط عليها الضوء، ويتعلق الأمر بجنازة المستشار الملكي أحمد رضا اكديرة.

أحمد رضا اكديرة.. جنازة بسيطة لم يصدق أحد أنها جنازة مستشار ملكي !
لأحمد رضا اكديرة قصة تستحق أن تُروى. فبعد أن انطلق من الصفر، تقريبا، في ظروف صعبة كظروف باقي أبناء الفقراء، كُتب لمساره أن يتغير منذ أول لقاء له بولي العهد الذي سيصبح الملك الحسن الثاني في ما بعد، وتنشئ بينهما صداقة، خولت له، بعد أن أصبح محاميا، أن يعيش في ظل القصر، ويصبح على رأس جبهة سياسية ووزيرا، ومستشارا للملك فيما بعد، بعد أن بدأ أولى خطواته من الديوان الملكي.
قوة اكديرة كانت في قربه من القصر، حتى أن المعارضين وقتها لم يتورعوا في توجيه هذه التهمة إليه، ليقولوا له إن قوته السياسية كانت مستمدة من القصر وليس من الممارسة.
لسنا هنا، على كل حال، للحديث عن مساره الطويل والعريض وكثير التقاطعات، لكن ما يهمنا الآن هو الجنازة التي رُتبت له، بعيدا تماما عن بريق السلطة وأضوائها التي لاحقته منذ السنوات الأولى لشبابه، قبل حتى أن يختار بين السياسة والمحاماة، فقد كان على أحمد رضا اكديرة أن يرحل إلى الخارج للعلاج، وحتى عندما عاد منه إلى مثواه الأخير، لم تخصص له أي جنازة رسمية تليق بمقامه قيد حياته.
أرجع البعض الأمر إلى الفتور الذي شاب علاقة أحمد رضا اكديرة بالقصر الملكي، على الرغم من أنه كان مقربا جدا من الملك الراحل في فترات صعبة من حكم الملك الراحل، إلى التغيرات التي طرأت على حياة اكديرة، وربما ما وصل إلى أسماع الملك الراحل عن ثروة مستشاره، والتي لا شك أنه كوّنها بفضل قربه من القصر..
لنبدأ الآن من النهاية، لأنها أقل ما اهتم به الذين تتبعوا مسار أحمد رضا اكديرة كوزير وسياسي ومستشار ملكي، واختلفوا حول القبعات التي كان يخرج بها الأخير إلى العلن في مناسبات ومحطات كثيرة من تاريخ المغرب الحديث. لا بأس إذن، أن نذكر هنا، بنهاية أحمد رضا اكديرة وجنازته الغريبة، ما دام حتى الذين تربصوا به لم يتوقعوا له جنازة مماثلة. قال آخرون إن حكمة كبيرة تلخصت في قصة أحمد رضا اكديرة، بينما اعتبر آخرون أن حرص الملك الحسن الثاني على زيارته في المغرب عندما ساءت حالته الصحية، أكبر دليل على أن اكديرة ظل يحظى بدعم الحسن الثاني وتقديره، إلى آخر أيام حياته، رغم لغز جنازته المتواضعة التي غابت عنها الدولة وهيبة رجالها ووجوه السلطة التي تودع أبناءها إلى مثواهم الأخير.
النهاية إذن بدأت قبل نهاية التسعينات بقليل، فقد كان اكديرة قد قرر التوقف نهائيا عن العمل، واعتزل كل شيء سنة 1994. وعندما كان في صراعه مع المرض، بلغ الأمر إلى الملك الحسن الثاني. أراد الملك أن يرى ما تبقى من اكديرة، وغضب كثيرا، عندما اكتشف أن مستشاره لم يعد يقطن بإقامته بالرباط، فبينما كانت سيارة الملك متوجهة إلى حيث يقطن اكديرة، اكتشف الملك أن السيارة تتجه في طريق نحو مغادرة الرباط، ليسأل مرافقيه ويشرحوا له أن اكديرة لم يعد يقطن بالرباط. ويكتشف أنه يقطن ذلك الوقت في إقامة متواضعة، خالية من الأثاث، كما أسر لنا أحد الذين زاروه في أيامه الأخيرة بالمغرب، حيث لم تكن غرفته تتوفر إلا على سرير بسيط وكرسيين للزوار.
قيل للملك بواسطة مرافقيه إن اكديرة يقطن في ذلك المكان تمهيدا لرحيله النهائي عن المغرب، ليتابع علاجه في فرنسا ويستقر بها. وأنه يمهد وقتها لنقل أملاكه وأمواله إلى فرنسا. نفس المصدر أسر لنا أن اكديرة تعرض لعملية نصب كبيرة، على يد واحد من الذين أوكلت إليهم عملية نقل ثروة اكديرة إلى فرنسا، حيث شابت العملية بعض التلاعبات في بيع العقارات التي كان يتوفر عليها اكديرة، ولم ينقل منها إلا النزر القليل إلى فرنسا.
لما علم الملك الراحل الحسن الثاني بما كان ينوي اكديرة القيام به وهو على فراش مرضه بالمغرب، لم يستسغ أن ينقل مستشاره القديم أملاكه إلى خارج البلاد، خصوصا وأن الملك الحسن الثاني كان أيضا يعيش أيامه الأخيرة، وأن المشهد السياسي قد شهد تحولات أخرى سمحت لـ «عبد الرحمن اليوسفي» أن يكون على رأس حكومة التناوب.
الفعل الذي أقدم عليه اكديرة في أيامه الأخيرة أثر سلبا على علاقته بالملك، وهو ما جعل موته بفرنسا لا يحظى بمتابعة مغربية تليق بمقام رجل اشتغل إلى جانب الملك عقودا طويلة، وينتهي منقولا في نعش خشبي مغلق، إلى المغرب، كأي مواطن عادي مات خارج أرض الوطن.
النعش الذي جاء فيه اكديرة إلى المغرب، يحمل إلى اليوم أسرارا كثيرة دفنت مع الرجل الذي كان يتحكم في أكثر دواليب الدولة حساسية، وحتى لو عصفت به ضغوط السياسة وتوازناتها التي شهدت اختلالات كثيرة عبر الزمن، إلا أنه كان يحسن رحلة العودة إلى المناصب القوية. الليبرالي الجريء وجد نفسه، في آخر عودة له إلى المغرب ميتا، أمام ذكرى رجل آخر لم تكن في المستوى الذي كان يتخيله لنفسه قيد حياته.
حتى الذين كانوا قريبين منه، لم يشغلهم موته كثيرا، وهكذا أسدل الستار على حياة واحد من أكثر الرجال قربا من الملك الحسن الثاني، كان أغلب السياسيين يلقبونه بصديق الملك..
سيرة أحمد رضا اكديرة طُويت في قبره، ودُفنت معها زاوية مشرعة لرؤية واضحة وجديدة ربما لبعض وقائع تاريخ المغرب المعاصر، لأنه، أي اكديرة، كان حاضرا في جوانب كثيرة من الأحداث التي صنعت الحاضر الذي نعيشه اليوم بالمغرب. كان إلى جانب الملك فترة، ثم أصبح بعيدا عن الضوء مرات أخرى، كلفته منصبه، لكنه عاد بقوة سنة 1977 بمنصب مستشار للملك الحسن الثاني. لعبة صناعة الأحزاب بالمغرب كانت تخصصا لاكديرة، لكنه لم يلعبها بمهارة في الثمانينات والتسعينات، وفهم الجميع أن الرجل إما أنه قد فقد خفته التي عُرف بها، خلال سنوات الستينات، أو أن الساحة لم تعد تستوعبه، خصوصا بظهور عهد رجل آخر هو ادريس البصري.
آخر لقاء له بالملك كان خارج التوقعات واعتبارات الزمان والمكان أيضا. إذ أن النظرة الأخيرة التي ألقاها الملك الراحل على اكديرة، في آخر أيام حياته، كانت في شقة صغيرة ومتواضعة بالرباط كما ذكرنا، لينتهي كل شيء في علاقة اكديرة بالحكم، وتنظم له جنازة عادية جدا لدى عودة جثمانه إلى المغرب..غاب عنها كل الذين التفوا حوله أيام عزّه.
لا شيء كان مهما في تلك الجنازة التي غابت عنها كل الرسميات ولم يُرتب لها لا في المطار ولا في أي مكان آخر.. اقتصر الأمر على تعزية بسيطة، ليدفن اكديرة في الظل، وكأنه لم يكن.

تحل ذكراها الـ39 هذا الأسبوع: بن عرفة.. جنازة أكثر بؤسا لرجل عاش نهاية بئيسة !
غاب بنعرفة عن الأضواء فور حصول المغرب على الاستقلال، ولم يكن أحد يذكره إلا ليتهكم عليه بعد انقلاب موازين القوى ما بعد 1956.
رحل بن عرفة عن المغرب، وكان يعلم أنه يقوم بالصواب.. يستحيل لشخص مثله أن ينعم بالحياة داخل المغرب بعد رحيل فرنسا، لأن الوقائع أبانت أن كل الذين كانت لهم علاقات مع فرنسا، انتهوا إما خارج المغرب، أو أمام فوهة غضب شعبي كلف الكثيرين منهم حياتهم.
بن عرفة غادر المغرب في البداية إلى باريس، لكنه كان يحتاج إلى مكان أقل برودة، وهو البسيط الذي جاء من أوساط محافظة بالمغرب، فكان أن اختار دخول لبنان لفترة، حاملا معه ما تبقى له من حياته. هناك التقى بكثيرين من أفراد العائلات الحاكمة، أو التي كانت تحكم، ووسط ضوضاء بيروت، تعرض بنعرفة لسرقة زادت من تسويد صورته لدى العامة والخاصة أيضا.
عندما خرج من المغرب أخذ معه الخاتم العلوي، الذي كان يستعمله للتوقيع على الظهائر التي تضعها فرنسا له في كل مرة لتوقيعها. هذا الخاتم سيسرق منه في ظروف غامضة في لبنان. ربما يكون بن عرفة قد أحس أن حياته قد تتعرض لمكروه في لبنان، ما دام الذين سرقوا منه «الخاتم» العلوي، يعلمون جيدا أنه كان جالسا على كرسي الحكم في المغرب، في وقت كان فيه الملك محمد الخامس قد نفي إلى الخارج.. الأمر في حد ذاته نقطة سوداء لا يمكن أن تغفرها له الذاكرة الجماعية ما دام قد جلس مكان محمد الخامس. وهكذا قرر من منفاه في لبنان أن يعود إلى باريس، حتى لا تسرق منه حياته هناك ربما..
في مثل هذه الأيام من شهر يوليوز سنة 1976، توفي بن عرفة في باريس، التي عاش بها آخر سنواته، متنقلا بين بيته حيث كان يقطن، وشارع صغير يفضي إلى مقهى اعتاد أن يجلس فيها كل يوم. انقطعت كل صلاته بالمغرب، ولم يشهد أبدا زيارة ممن كانوا مقربين من السلطة.. هكذا توفي بن عرفة «تقنيا وسياسيا» قبل أن يموت.
تقول بعض المصادر إن عائلته حاولت استغلال القرابة العائلية التي تجمعها بالعلويين، واستعطفوا بعض المقربين من الملك الحسن الثاني من شيوخ ورجال يحظون بثقة الملك الراحل، وهو ما كان. تحركت المكالمات الهاتفية من باريس إلى فاس، وكان الجميع في سباق مع الوقت لباشروا الإجراءات الضرورية للدفن سواء في المغرب أو في باريس في حال تأخر الإجراءات.
وصل إلى الملك الحسن الثاني خبر وفاة بن عرفة، عن طريق الذين استعطفوه حتى يتم السماح بنقل جثمان الراحل إلى مسقط رأسه بفاس ويدفن قرب المكان الذي غادره في الخمسينات ليُنصب ملكا للمغرب، بعد نفي الحسن الثاني نفسه، رفقة والده.. لما علم الملك بالخبر، كان عليه أن يقدم ردا دبلوماسيا، يعكس غضبة ملكية كبيرة على اسم بنعرفة والمرحلة التاريخية التي اقترن اسمه بها، وهكذا كان جواب الملك الراحل إنه حتى لو سمح بدفن بن عرفة في فاس، فإن الأرض هناك لن تقبله.
فهم الذين كُلفوا باستعطاف الملك أن الأمر انتهى عند تلك النقطة، وأن بن عرفة الذي عاش منفيا تحت تأثير الأحداث، لن يعود إلى المغرب على الأقل في ذلك اليوم، لتباشر إجراءات الدفن في باريس. لكن الملك الراحل الحسن الثاني، قرر في الأخير أن يتم السماح بدفن بن عرفة في مسقط رأسه، ليتم نقل القبر في أجواء من التكتم والسرية، ويدفن في مقبرة صغيرة في أحد أحياء فاس، بعيدا عن الأنظار، ودون مراسيم من شأنها أن تثير الانتباه إلى ضيف المقبرة الصغيرة والهامشية، وضدا في كل التوقعات التي دعم أصحابها بن عرفة أيام كان رجل فرنسا قبل عقدين فقط من تاريخ وفاته.
بدفنه في المغرب، يدخل بن عرفة، من خلال جنازته، في كتاب دروس تقلبات السلطة وأصحاب الجنائز الغريبة الأكثر إثارة في المغرب.

جنازة الكلاوي.. حضرها الشيوخ والنصارى وغابت عنها الرباط
جنازة الكلاوي أيضا لم تكن جنازة وازنة. حضرها الضيوف الأجانب أكثر من رجال السلطة والأعيان. كلهم تفرقوا عن الرجل في وقت مبكر حتى بعد توبته الشهيرة ثم وفاته سنة بعد عودة الملك من المنفى.. الكلاوي، قيد حياته، شكل الداعم الذي دفع بن عرفة إلى الأمام ليجلس في كرسي الحكم، والذين يعرفون الكلاوي جيدا قالوا إنه كان الجالس الفعلي، وليس بن عرفة.
لذلك كان على جنازة الباشا في 23 يناير 1956، أن تكون في مسار جنازات الذين لم تكن نهاية حياتهم بنفس قوة عنفوانها.
يختلف البعض في أن جنازة الكلاوي كانت هامشية. ويقولون إنها حظيت بما يليق بها من اهتمام. لكن السؤال الذي يجب أن يطرح هنا، هو هل كان للجنازة فعلا وقع في الرباط، حتى تتحرك المواكب لتوديع الرجل؟
الجواب هو لا بالتأكيد. الذين تأثروا لخبر وفاة الباشا الكلاوي، كانوا جملة من أصدقائه الذين ارتبط وجودهم في المغرب به، وحضروا الجنازة، ليقفوا في مكان يتأملون رجال قبائل مراكش، الذين شكل لهم الكلاوي دائما رمزا للسلطة، يصطفون لوداعه الأخير.
الأرشيف البريطاني، يتحدث باختصار عن جنازة الكلاوي، وذكرها ليس تعظيما للرجل بقدر ما هو توثيق موضوعي لحدث حاز على اهتمام البريطانيين في المغرب، فكان على بريطانيا أن تؤرشف الحدث لديها..
جنازة عادية، ونعش متواضع، وكأن الميت لم يكن يوما من الأعيان ورجال السلطة. اصطف أبناء الكلاوي، لتلقي التعازي من جحافل من رجال القبائل والشيوخ، والأجانب الذين كانوا حاضرين في الجنازة أيضا.

بين أوفقير والدليمي.. قصة الاستثناء بين النفي والوداع الرسمي !

عندما نذكر الجنرال الدليمي، فإن التاريخ نفسه يحيلنا على الجنرال أوفقير. هذا الأخير الذي كانت جنازته تدخل في إطار جنائز المغضوب عليهم سنة 1971، وتصبح ، فصلا من فصول رواية الجنائز البئيسة التي نتحدث عنها الآن، دُفن في مقبرة عائلية صغيرة في مسقط رأسه، بعيدا جدا عن أضواء العاصمة الرباط، دون أن يحظى بصندوق ولا جنازة رسمية، رغم أنه كان وزيرا للدفاع والداخلية ومديرا للأمن الوطني وجنرالا عسكريا.
لا يوجد مكان للأعراف العسكرية عندما يتعلق الأمر بالضلوع في انقلاب.. وهكذا لم يستطع أحد من أصدقائه أو المدينين له، حضور جنازته، خوفا من غضب الرباط.
جنازة الدليمي، سنة 1983، كانت تختلف تماما عن جنازة أوفقير الذي قاسمه أشياء كثيرة إلى جانب السلطة طبعا، رغم أنهما اشتركا في نفس الإشاعات التي راجت حول نهايتهما: «خيانة» الملك.
الدليمي، على عكس أوفقير، حظي بجنازة رسمية، وقبلها، تم انتشال جثمانه من حادثة السير التي أودت بحياته، وأودع في صندوق خشبي مختوم، عكس أوفقير الذي لف جثمانه في كفن أبيض وأودع ناقلة تقليدية للموتى، كما كان معمولا به في الجنائز العادية..
نظمت للجنرال الدليمي جنازة رسمية حضرها الملك محمد السادس، عندما كان وليا للعهد، ومعه الأمير مولاي عبد الله، ووجوه بارزة من عالم السلطة، كانت في وداع الجنرال.
رغم الجنازة الرسمية التي حظي بها، إلا أن جنازة الدليمي كانت قد عرفت أجواء مكهربة، ليس لكثرة أعدائه فقط، ولكن أيضا لأن إشاعات كثيرة رافقت الجثمان إلى مستقره الأخير.

جنائز الخونة.. عندما ينتشل الموت أعيانا من غضب الشعب !

إذا قارنا جنازة الباشا الكلاوي بجنازة محمد المقري أو الحاج الكتاني مثلا، أو البغدادي، فإن الكلاوي يبدو محظوظا مقارنة مع هؤلاء، وأنه على الأقل حظي بجنازة حضرها الناس وتحدثوا عنها بعد وفاته.
الحاج المقري، وكل الذين ارتبطت أسماؤهم بفرنسا بعد نفي الملك محمد الخامس، سيكون عليه أن يموت في ظروف عصيبة من الغضب الشعبي أولا، وأحكام حجز ممتلكاته من جهة أخرى.. وهكذا سيصبح المقري، الذي كان يبلغ كبار المسؤولين في الدولة برسالة مقتضبة لا تخلو من تعليمات مخزنية بقرارات العزل والإعفاء أيام المولى عبد الحفيظ.. سيصبح منبوذا آخر حياته، في عهد الملك محمد الخامس بعد الاستقلال، بعيدا تماما عن الماضي الذي عاشه، بل ومتخفيا في أحيان كثيرة كثر فيها الحديث عن نقاش محاكمة الذين كانوا الموالين لفرنسا داخل المغرب أثناء الحماية. هكذا كانت الجنازة مناسبة لطي اسم الرجل، دون أن يحظى بأي تمثيل للقصر في جنازته، علما أنه كان صديقا مقربا للملك محمد الخامس، وأن قرابة ما جمعته بدار المخزن، حتى أنه كان قريبا جدا من القرار.
لكم أن تتوقعوا الجو الذي ستمر فيه الجنازة في شتنبر سنة 1957، خصوصا إذا علمتم أن تاريخ وفاته جاء ستة أيام فقط بعد صدور اللائحة الرسمية للخونة، والحكم على الحاج المقري بالحرمان من المواطنة لمدة 15 سنة، لم يعش بعد نطق الحكم بها إلا ستة أيام..
مصير المقري لم يكن مختلفا عن مصير عبد الرحمن الحجوي، الذي وجهت له هو الآخر تهمة الخيانة، وصدر في حقه إجراء التجريد من المواطنة. جنازته هو الآخر لم تختلف عن جنائز هؤلاء الذين نتحدث عنهم، رغم أنه كان مختلفا عنهم، وأكثر «حداثة». السخط الذي نزل على الحجوي، كان سببه مواقفه وكتاباته في جريدة السعادة، حيث حول الجريدة إلى منبر موال تماما للسياسة الفرنسية، وأصدر فيها مقالات تبارك الخطوة التي أقدمت عليها فرنسا بعد نفي الملك محمد الخامس، وكان من المدافعين عن تنصيب بن عرفة، وذهب بعيدا إلى نزع الشرعية عن محمد الخامس، وهو ما حول الحجوي إلى العدو الأول للحركة الوطنية. لينال نصيبه من الغضب العارم سنة 1956، ولم يكن غريبا أن يصدر في حقه حكم التجريد من المواطنة، ويعيش آخر أيام حياته منبوذا، ويحظى بنهاية لم يكن يتوقعها أحد من الذين عاصروا أيام عزه ونفوذه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى