التاريخ الأسود لحروب رجالات المخزن
يونس جنوحي
«سمعت قصة «اليماني» في مأدبة عشاء في فاس دعيت إليها، وكان من بين الحاضرين وزيران في الحكومة الحفيظية، قالا إنهما لا يعرفان قصة هذا الوزير الذي لم يعمر في منصبه سوى أيام قليلة فقط ليتقرر نفيه، حيث كان قد قضى في داره ما يقارب أربع سنوات دون أن يتمكن من مغادرتها لأن قرار حبسه في داره كان لا يزال ساري المفعول. ووعد اثنان من أصدقائه الذين أثاروا قضيته في العشاء أن يجدا حلا له في قادم الأيام. لكن بدا من نبرة صوتهما أنهما لم يكونا جادين. قال لي مضيفي بعد العشاء، وهو من أحد كبار الأعيان والتجار في فاس، إن هذين الوزيرين يتصرفان هكذا دائما. لا يرفضان طلبا لأحد، ولا يلبيان طلبا أبدا. ولو أنهما لبيا الطلبات لما بقي لهما وقت لمهام الوزارة».
الكلام هنا لدبلوماسي اسكتلندي أقام في المغرب لأشهر فقط، كانت كافية بالنسبة له سنة 1901، لأن يعرف جيدا الخلطة الغريبة للعلاقات التي كانت تجمع بين المسؤولين المغاربة في ذلك التاريخ.
ضاعت، إذن، قصة اليماني الذي قال عنه هذا الدبلوماسي، واسمه «جيفرسون»، إنه سمع أن مأساته استمرت ثمان سنوات كاملة، حيث مات في داره دون أن يستطيع مغادرتها.
نكسة 1914.. وزراء وقياد يتحسسون رؤوسهم
لم يكن قد مضى على معاهدة الحماية الفرنسية سوى عامين، عندما نشبت سنة 1914 خلافات كبيرة بسبب مستجد التقدم العسكري الكبير للجيش الفرنسي في المغرب.
كان المولى يوسف قد جلس لتوه على العرش، لكنه ورث مجموعة كبيرة جدا من الموظفين المخزنيين الذين تدربوا في القصر الملكي منذ أيام المولى الحسن الأول ويعرفون جيدا دهاليز المخزن وقصص رجاله وأخبارهم.
هؤلاء المخزنيون، حسب مرجع «أخبار عن رجال المخزن» أو نخبته حسب ما يفهم من ترجمة العنوان لصاحبه J.Jefferson، والذي سوف نتطرق إلى مضمونه بالتفصيل، كانوا وسط زوبعة كبيرة بسبب مواقفهم المتباينة من معاهدة الحماية. إذ إن جريدة فرنسية أصدرت في صفحتها الأولى صورة المولى عبد الحفيظ وهو يغادر بناية فرنسية في باريس، مرفوقا بمترجمه الحاج قدور بن غبريط، وهو الموظف المخزني جزائري الأصل الذي عمل ترجمانا لأكثر من بعثة رسمية وبقي محتفظا بدوره إلى حدود ثلاثينيات القرن الماضي مع الملك الراحل محمد الخامس. تلك الصورة أثارت سخط عدد من الوزراء المغاربة، لأنهم لم يكونوا يطيقون بن غبريط، وكثير منهم رأوا في مرافقته للمولى عبد الحفيظ بعد تنحيه عن السلطة، إشارة منه إلى أنه عائد بقوة إلى سلك وظائف المخزن. .، خصوصا وأن الدولة وقتها، أي في 1914 دائما، كانت تحتاج إلى أطر يتقنون اللغة الفرنسية، وهو ما توفر بجلب أطر من الجزائر اشتغلوا في الإدارة ولعبوا دور الوساطة، وكثير منهم نُعتوا بالخيانة.
عندما كانت القوات الفرنسية برئاسة جنرالات أبرزهم وأشهرهم الجنرال «داماد» الذي كان من أشهر العسكريين في الجيش الفرنسي حيث ترك الحرب العالمية الأولى وجاء إلى المغرب للعمل خصيصا على تأسيس الثكنات العسكرية في المناطق التي لم يصل إليها الجيش الفرنسي بعد خصوصا في منطقة ورززات ومراكش. حيث إن الجيش الفرنسي بحث عن حلفاء محليين، وهنا برز دور الحاج المدني الكلاوي وحلفائه حيث عقد اتفاقا مع الجنرال الفرنسي بموجبه تقدم القبائل المساعدة لجيش فرنسا لكي يصل إلى كل السهول المجاورة للأطلس.
وهذا الاتفاق تسبب في حرب كبيرة بين القبائل، حيث دخل قائد ورززات في حرب ضروس ضد صهره المدني الكلاوي، وانتقم من صغار القياد الموالين له والذين كانوا في الحقيقة مغلوبين على أمرهم. وهو ما جعل قيادا آخرين يتدخلون لنصرة أصدقائهم، ليس حبا فيهم ولكن مخافة أن يصل امتداد تلك الخلافات إليهم.
وهكذا فإن هذه الفترة الحرجة لسنة 1914 كانت عصيبة بكل المقاييس حتى من الناحية الاقتصادية. إذ إن عددا من القياد في قرى مجاورة للأطلس ومنطقة سوس أرسلوا رسائل تظلمية إلى المولى يوسف يشتكون فيها من جور بعض الباشاوات والقياد حيث أجبروا هذه القرى على تقديم كل ما لديها من محاصيل ومخزون احتياطي وقطعان من المواشي لإطعام جنود الجيش الفرنسي وجنود القبائل الموالية لهم. وكان عددهم بالآلاف وهو ما شكل عبئا كبيرا جدا على هذه القرى التي كان عدد سكانها في أفضل الحالات لا يتجاوز 800 فرد.
استغرق الأمر أكثر من خمس سنوات لتبدأ عمليات الانتقام من هؤلاء القياد الموالين لفرنسا، حيث برزت القبائل الأطلسية التي قاومت فرنسا في منطقة بوكافر وأنصار موحى وحمو الزياني وغيرهم من الأسماء التي اشتهرت بحمل السلاح ضد فرنسا والقبائل الموالية لها. حيث كان الأعيان والمخزنيون وحتى الوزراء يتابعون كل تلك التطورات بقلق كبير. وحسب «جيفرسون» دائما، فإن بعض وزراء المولى يوسف أقيلوا من مناصبهم بسبب الحرب بين القبائل بعد أن فشلت كل محاولاتهم في إخماد تلك الصراعات.
«أخبار الوزراء».. موظفو دار المخزن
كان خبر وصول موظف أجنبي لبعثة دبلوماسية، إلى فاس، يستأثر فعلا باهتمام كل وزراء الدولة ومستشاري دار المخزن منذ عهد المولى الحسن الأول الذي كثرت في عهده تلك الزيارات. وخصوصا إذا كان الضيف يتحدث اللغة العربية.
يتعلق الأمر هنا بالسيد J. Jefferson، وهو دبلوماسي اسكتلندي درس الحقوق وانتقل ليعمل في وزارة خارجية بلاده منذ سنة 1880، حيث انتقل في عواصم الشرق مثل القاهرة ودمشق، وعاد بعد عشرين سنة من الخدمة في الشرق الأوسط إلى المغرب الذي اعتبره محطة استراحة «دبلوماسية» توقف فيها بعد أن تلقى دعوة من زميل سابق له لكي يزوره في المغرب، وجاء إلى فاس في إطار تلك الرحلة قبل أن يغادر المغرب وتصدر تلك المذكرات (يرجح غالبا أنها رقنت وطبعت بعد وفاته لأنها كانت تضم إهداء إلى أرواح كل الذين اشتغلوا في السلك الدبلوماسي واكتشفوا الشرق. ولم يضم الكتاب أي مقدمة أو إهداء شخصي من الكاتب) سنوات بعد تقاعده، حيث صدرت الطبعة الأولى سنة 1918.
هذا الدبلوماسي يحكي كيف أنه تعرف على بعض الوزراء المغاربة وكيف أن حفلات العشاء التي دعي إليها في فاس لكي يتعرف على نخبة الأعيان المغاربة، كانت تتحول إلى ما يشبه جلسات «النميمة» حيث يتناقلون أمامه قصص بعض الوزراء الذين تم إعفاؤهم، مثل الوزير «بن بوشتى» الذي تزوج زوجة ثالثة ولم يتقبل منافسه على الوزارة وصهره، أن يتزوج على ابنته، فاشتكاه إلى دار المخزن وأقيل من الوزارة لهذا السبب. أو قصة وزير آخر تسبب طيش أكبر أبنائه في إعفائه من الوزارة لأن ابنه ضرب أحد الباشاوات الذين كانوا على خلاف مع والده. كل هذا كان يقع في ساحة الصراع الخلفية التي لم تكن مرئية بالنسبة لكثير من المؤرخين المغاربة، أو فضلوا فقط عدم الخوض فيها لما قد تثيره من خلافات بين موظفي المخزن. إذ لم يكن أقسى على موظف مخزني في ذلك العهد، أن يقرأ آخرون سبب إقالته أو تأديب دار المخزن له على «اعوجاج في السلوك أو استغلال للسلطة». إذ إن هذا السبب، حسب «جيفرسون»، كان هو الأكثر تداولا في قصص الإطاحة بخدام الدولة.
عندما استُثني «باشاوات» من احتفالات سنة 1934
كان الملك الراحل محمد الخامس في عنفوان شبابه عندما كان يتعين عليه مواجهة مد كبير من رجال المخزن التقليدي القدامى.
أكبر مشاكل دار المخزن، وقتها، كان توارث عائلات مخزنية لمناصب النيابة عن السلطان في الأقاليم، باستثناء منطقة الشمال التي كان فيها خليفة سلطاني.
هنا سوف نورد شهادة نادرة من أرشيف مجلة “دعوة الحق” التي كان الملك الراحل محمد الخامس قد أثنى عليها وباركها سنة 1957 عندما كتب رسالة نشرت في عددها الأول.
جاءت في هذه المجلة شهادة تاريخية توثق لأول احتفال ترأسه الملك الراحل محمد الخامس عند عودته من سفر إلى باريس، حيث كان ولي العهد الأمير مولاي الحسن وقتها لا يزال طفلا صغيرا، وكان في استقبال الملك الراحل خلال هذه الاحتفالات بعودته، والتي تزامنت مع عيد الأضحى، باشا الرباط وباشا سلا وأعوانهما، وكانت تلك عادة «دار المخزن» في الاحتفال بعودة الملك الراحل محمد الخامس من سفرياته خارج القصر الملكي سواء داخل المغرب أو إلى الخارج. وهي عادة قديمة جدا توارثتها أجيال من رجال المخزن.
إذ إن أحد أفراد عائلة قدور بن غبريط، الذي كان يومها يرافق الملك الراحل محمد الخامس في سفره إلى فرنسا مترجما له، توصل بتلغرام عاجل من الرباط يطلب فيه ابن أخيه الذي كان يشغل منصبا في سلا، أن يفاتح السلطان بشأن الإذن لعدد من شباب الرباط وسلا، لكي يطلقوا اسم ولي العهد على فوج من الكشفية كان مخططا أن يقدم استعراضا أمام الملك الراحل احتفالا بعودته. هنا نورد ما جاء في أرشيف «دعوة الحق» خلال الخمسينيات وهي تتناول موضوع هذه الزيارة، دون أي إشارة إلى ما وقع أثناء الإعداد لها من إقصاء لبعض الباشاوات من خارج الرباط ونواحيها جاؤوا للسلام على السلطان:
««في عيد الأضحى سنة 1352 هـ أشير علينا من رجل مأذون بالقصر ليحضر منا رؤساء جمعياتنا إلى القصر يوم التهنئة بالعيد في غيبة عن باشا المدينة الذي يقوم بدوره بدعوة أعيان البلد للذهاب معه إلى تأدية التهاني والتبريك. وهناك شرط في هذه الظروف لا يؤذن لمن يتوسم فيه روح الوطنية. راجت الفكرة وأخذ شباب سلا القضية بحزم. توجه السيدان أبو بكر القادري بصفته رئيس جمعية المحافظة على القرآن الكريم بالمدينة. والسيد عبد الكريم بوعلو رئيس النادي البلدي السلوي، نيابة عن شباب مدينة سلا، انتظرت الجماهير. وبدأ الاستقبال وكانت العادة الابتداء بباشا العاصمة وأعيانها بين يدي جلالته وأداء التحية والاحترام. بدأ الأعيان في الانصراف من حضرة الملك، نادى شباب سلا الله يبارك في عمر سيدي فأسرع الأخوان القادري وبوعلو بالدخول فورا. وتقدما حتى بلغا بين يدي جلالته. جلس الأخوان دقيقة. ووقف الأخ الأستاذ القادري ممثلا لمدينة سلا: أرفع لجلالتكم أصدق التهاني والتبريك بعيد الأضحى المبارك، وأرجو الله أن يطيل عمركم ويصلح أحوال البلاد على يدكم وبهمتكم حتى تبلغ الغاية إلخ… ثم جاء دور الأخ عبد الكريم بوعلو رئيس النادي الأدبي السلوي فقال: صاحب الجلالة أرفع لسدتكم العالية أصدق التهاني، وأتمنى لجلالتكم كل التوفيق للأخذ بيد أمتكم المتمسكة بحبكم وأرجو لكم يا مولاي لولي عهدكم كل الخير والنصر والتوفيق ثم جلس، وهنا جاء دور صاحب الجلالة، حيث تحرك من مقعده ورفع صوته مرحبا ومهنئا وفرحا ومسرورا بهذه البادرة الطيبة. هذه الزيارة أو التهنئة القيمة صادعا لسعادة باشا المدينة السيد الحاج محمد الصبيحي رحمه الله. وأنت أيها الباشا، استوصيك بالشباب خيرا، كن بجانبهم دائما، سهل مهمتهم، خذ بيدهم باستمرار، بارك الله فيكم وأصلح الحال، بلغوا تحياتي وعواطفي لجميع رفقائكم، واعلموا أنني منكم وإليكم وبجانبكم. سيروا على بركة الله ولا تتأخروا. والله معكم».
المثير في هذه القصة، كما أوردها أيضا «غوستاف بابين»، وهو صحافي فرنسي أنشأ صحيفة في الدار البيضاء كانت تهم كثيرا بأخبارها وبأخبار الرباط، أن محيط الملك الراحل محمد الخامس استثنى عددا من الباشاوات وقاضيين جاءا لحضور الاستقبال. حيث تلقوا جميعا تعليمات بمغادرة موقعهم في الصف الأول لمستقبلي الملك الراحل محمد الخامس عند وصوله إلى الرباط، وأمروا بالعودة إلى بيوتهم إلى أن يُطلبوا إلى القصر. واستمر الترقب لأزيد من أسبوع، إلى أن اتصل بهم الحاج المقري وأخبرهم بإقالتهم بسبب أخبار وصلت إلى الملك الراحل محمد الخامس وهو في فرنسا عن استغلال المعنيين لمناصبهم لحيازة أراض نواحي الجديدة قصد إقامة ضيعات فلاحية فوقها.
هكذا عاش وزير قبل قرنين دون أن يغادر بيته ثمان سنوات
كان هناك وزير من عائلة اليماني، اشتغل في ديوان وزراء المولى الحسن الأول. وقبل وفاة السلطان بسنة فقط، عين الحاج أحمد اليماني وزيرا لأسابيع قليلة ثم أزيل من منصبه بحكم أنه كان على اتصال مع أحد أبناء الحسن الأول وهو «مولاي محمد». وعقابا له من بعض رجال المخزن على تقربه من أكبر إخوة السلطان الجديد، فقد أمر أن يغادر داره في فاس، وعاد إلى مسقط رأسه نواحي عبدة، حيث اضطر إلى المكوث فيها لأشهر متواصلة دون أن يصله أي خبر إقالة أو تعيين جديد. ورغم أنه أرسل رسائل إلى القرويين، حيث يوجد أساتذته القدامى وعدد من القضاة الذين كانوا يعملون مستشارين داخل القصر الملكي، إلا أنهم لم يستطيعوا حل مشكلته.
وعندما حلت سنة 1901، تلقى أوامر من باشا جديد عُين في عبدة لإيقاف الانفلات الأمني بها خلال السنوات الأولى التي تلت وفاة المولى الحسن الأول، وأخبره أن «المخزن» يأمره بالبقاء في بيته وعدم مغادرته إلى أن يتم إشعاره بغير ذلك. وفعلا بقي هذا الأخير ملازما منزله في قرية نواحي عبدة، حسب ما جاء في «أخبار عن رجال المخزن»، لمؤلفه J. Jefferson»، سنة1918. حيث نشرت دار اسكتلندية الطبعة الأولى من الكتاب.
هذا الأخير الذي تعلم اللغة العربية عندما كان في مهمة دبلوماسية بالشرق سنوات 1880 و1900. وبعد جولة في دول كثيرة استغرقت منه قرابة ثلاث سنوات، جاء إلى المغرب حيث بقي لأشهر قبل أن يغادر نهائيا صوب اسكتلندا. تناول تجربته المغربية في كتيب من 50 صفحة فقط، تطرق فيها لقصص بعض رجال المخزن. يقول عن اليماني: «سمعت قصته في مأدبة عشاء في فاس دعيت إليها، وكان من بين الحاضرين وزيران في الحكومة الحفيظية، قالا إنهما لا يعرفان قصة هذا الوزير الذي لم يعمر في منصبه سوى أيام قليلة فقط ليتقرر نفيه، حيث كان قد قضى في داره ما يقارب أربع سنوات دون أن يتمكن من مغادرتها لأن قرار حبسه في داره كان لا يزال ساري المفعول. ووعد اثنان من أصدقائه الذين أثاروا قضيته في العشاء أن يجدا حلا له في قادم الأيام. لكن بدا من نبرة صوتهما أنهما لم يكونا جادين. قال لي مضيفي بعد العشاء، وهو من أحد كبار الأعيان والتجار في فاس، إن هذين الوزيرين يتصرفان هكذا دائما. لا يرفضان طلبا لأحد، ولا يلبيان طلبا أبدا. ولو أنهما لبيا الطلبات لما بقي لهما وقت لمهام الوزارة».
وهكذا ضاعت قصة اليماني الذي قال عنه «جيفرسون» إنه سمع بأن مأساته استمرت ثمان سنوات كاملة، حيث مات في داره دون أن يستطيع مغادرتها.
أعيان طالتهم اللعنة ومنسيون دمر أرشيفهم
في مناطق مراكش ودكالة وعبدة، حيث جرت أقوى التمردات والزلازل السياسية في تاريخ المغرب، صعدت أسماء الوزراء وخدام الدولة ونزلت، وبعضها تحولت إلى أسطورة أقيمت لها أضرحة، مثل بعض أضرحة طريق أسني نواحي مراكش، وآخرون دُمر أرشيفهم مثل ما وقع نواحي تارودانت أيام المولى إسماعيل، أي ما بين سنوات 1690 و1727. حيث إن بعض العائلات التي حصلت على خاتم مولاي علي الشريف لكي تحكم بعض مناطق المغرب باسم السلطان، تمردوا عندما وصلهم خبر وفاته، ورغب بعضهم في الاستقلال عن سلطة المخزن وقاموا بجرائم في حق قبائل أخرى، وهو ما جعل المولى إسماعيل ينخرط في حملة تأديب واسعة عرفت تاريخيا بمرحلة إعادة الهدنة إلى مناطق نفوذ المخزن.
عندما تحالف المولى إسماعيل مع جيش البخاري، المعروف تاريخيا بالقوة والصلابة وضراوة المعارك التي خاضها ضد المتمردين، تمت إزالة شوكة قوة عدد من القبائل في سهل سوس وصولا إلى عبدة. وهو ما نتج عنه اغتيال عدد من المتمردين بينهم أعيان كبار كانوا يعتبرون من أثرياء المغرب وأكثر قبائله قوة. مثل القايد العبدي والماغودي، وأسر أخرى كانوا يسيطرون على وسط المغرب، وعندما تم تأديبهم أتلفت بعض مكتبات علماء كبار كتب عنها المختار السوسي في كتابه «المعسول»، كما أن مرجع «أعلام المغرب» في نسخته المنقحة أشار في بعض أجزائه إلى سبب غياب بعض المؤلفات وشرح كيف أن أصحابها خلدت أسماؤهم لأن علماء آخرين كتبوا ترجمات لهم بعد تلك الأحداث حتى لا تضيع سيرتهم عبر التاريخ.
وهذا ما يفسر اختفاء عدد من المخطوطات المهمة التي ذكر علماء عاشوا تلك الأحداث عناوينها وعرفوا بأصحابها ومجهوداتهم، دون أن يوردوا نصوص تلك المخطوطات.
إذ إن بعض الحرائق التي أضرمت في القرى أتلفت مخطوطات تعود إلى عهد الدولتين السعدية والمرابطية. حتى أن هناك مزاعم باختفاء رسائل من عهد يوسف بن تاشفين كانت بعض العائلات في مراكش تحفظها في مكتباتها الخاصة وتتوارثها عبر الأجيال، إلى أن ضاعت بسبب غارات القبائل ضد بعضها والصراع حول السلطة.
لكن بعض المخطوطات كانت على قدر كبير من الحظ، إذ إن بعض أصحاب العلم قاموا بنسخها في مواسم الحج على يد الخطاطين وعندما أتلفت المخطوطات الأصلية في فترات الانفلات، قام علماء آخرون من جيل لاحق، بنسخها من جديد بعد وصولهم إلى نسخها في مكتبة جامعة الأزهر، ولدى بعض علماء الحجاز الذين نسخوا تلك المخطوطات الأصلية المغربية عندهم، وهو ما أشار إليه المختار السوسي والعالم الكبير عبد الحي الكتاني، وعلال الفاسي أيضا في نص مداخلته في ندوة سنة 1966 في فاس، كان موضوعها ثراء خزانة القرويين، حيث أشار علال الفاسي إلى أن مخطوطات مهمة ما كانت لتصل إلينا وتحفظ لولا أن بعض العلماء نسخوها في موسم الحج وتركوا النسخ لدى بعض العلماء الذين عمموها لاحقا.
قصة موظف ديوان أصبح أقوى وزراء تاريخ المغرب
لن يكون هناك أي اختلاف بين المؤرخين إذا زعم أحدهم أن أقوى موظف ترقى في سلك المخزن المغربي لن يكون سوى المهدي المنبهي الذي كان وزيرا للحرب وقبله عمل مخزنيا بسيطا في القصر سنة 1895، وعندما غادر الحياة السياسية سنة 1908، رحل وهو أقوى وزير في الدولة. لكن أقوى فترات وصوله إلى السلطة كانت عندما عين سنة 1901 سفيرا للمغرب على رأس البعثة التي توجهت إلى بريطانيا في مناسبتين.
المهدي المنبهي كان مثالا لرجل المخزن الذي تدرج من أسفل السلم الإداري إلى أعلاه حيث لم يسبقه أحد في جيله إلى تسلق المناصب بتلك السرعة.
كانت هناك قصص لبعض خدام الدولة المغربية في عهد المولى إسماعيل وحتى في عهد المولى عبد الرحمن والمولى محمد الرابع، حيث كان بعض الوزراء يورثون مناصب مخزنية لعائلاتهم بعد وصولهم إليها. لكن قصة المهدي المنبهي تبقى الأقوى لأنه أبرز من جمع بين سلطة المخزن وسلطة تمثيل المغرب في الخارج.
ولولا أن تمرد «بوحمارة» الذي كان أقوى من إمكانيات وزارة الحرب التي كان يشرف عليها المهدي المنبهي، لبقي في منصبه سنوات إضافية.
إذ لم تفلح المحاولة الانقلابية التي قام بها بعض الوزراء ضده مستغلين سفره إلى بريطانيا مع بعثة مغربية رسمية لبحث العلاقات المغربية البريطانية، حيث اتهموه باختلاس أموال الدولة المغربية، لكنه فطن للأمر ووصله الخبر وهو في طريقه بحرا إلى المغرب ونزل في ميناء الجديدة وركب حصانه ليلا ويواصل الطريق فوق الخيل دون توقف قبل أن يصل خبر وصوله إلى القصر، وفعلا فاجأ الجميع لأنه وصل قبل الوقت المحدد لوصوله، ودخل إلى القصر الملكي ليدافع عن نفسه في مواجهة الاتهامات التي وجهها له بقية الوزراء وبقي في منصبه سنوات إضافية إلى أن عصفت به أزمة توسع تمرد «بوحمارة» ليغادر الحياة الوزارية ويستقر في مدينة طنجة، التي توفي بها سنة 1939.
وكان معروفا أن المهدي المنبهي، في عشرينيات القرن الماضي، ومع بداية عهد الملك الراحل محمد الخامس، كان لا يزال يؤمن بأنه رجل من رجال الدولة المغربية، حيث كان يرسل برقيات دائمة إلى الملك الراحل محمد الخامس، وهي الرسائل التي كان يقبلها الملك الراحل ويجيب عنها، خصوصا منها التي تتعلق بالتهاني أو طلبات منح الاعتماد لبعض الأجانب الذين كانوا يستغلون صداقتهم بالمهدي المنبهي للوصول إلى الرباط.
المثير في قضية المهدي المنبهي أنه استطاع فعلا التدرج من أسفل السلم الوظيفي. إذ إن والده لم يكن موظفا في المخزن ولم يسبق لأي أحد من أسرته أن اشتغل في وزارة أو ديوان. وهو ما كان يعني وقتها أنه من المستحيل أن يجد له مستقبلا في عالم وظائف المخزن. لكنه قبل في البداية بمنصب بسيط جدا في دار الصدر الأعظم باحماد في عهد المولى الحسن الأول. وكان المخازنية البسطاء وقتها يتناوبون على حراسة باب الغرفة الرئيسية التي ينام فيها الصدر الأعظم في السنوات الأخيرة من حياته مع بداية فترة 1900. وكان من حسن حظ هذا المخزني البسيط، المهدي المنبهي، أن وقع عليه الاختيار لكي ينقل رسائل باحماد إلى القصر عندما أصبح الأخير عاجزا عن الحركة. وبواسطة تلك الرسائل أصبح المنبهي قادرا على ولوج باب القصر الكبير دون الوقوف عند الحراس، واستمر في دوره إلى أن توفي ولي نعمته «باحماد» ليتسلق فورا إلى منصب وزاري بدأ من خلاله مساره الذي أثار إعجاب الصحافيين والدبلوماسيين الأجانب الذين اشتغلوا في المغرب.