إعداد وتقديم: سعيد الباز
شكلت تيمة العمى في الفكر الإنساني على المستوى الفني والأدبي أهمّ الموضوعات التي شغلت المفكرين والفنانين والأدباء. فكان بذلك معبّرا عن ثنائية الرؤية والرؤيا، أو بتعبير آخر مرتبط بالدلالة اللغوية، الحدّ بين البصر والبصيرة. إضافة إلى ذلك كان للكثير من الأعلام في الشعر والأدب من العميان، الذين أناروا درب الحضارة الإنسانية، أثر السحر والإثارة مثل شاعر الملاحم اليونانية هوميروس وأبي العلاء المعري برسالة الغفران وبلزومياته والإنجليزي جون ميلتون صاحب ملحمة «الفردوس المفقود» وأخيرا خورخي بورخيس ومتاهاته السردية…
إبراهيم أصلان/ داوود عبد السيد.. مالك الحزين/الكيت كات
لقاء الكاتب المصري إبراهيم أصلان من خلال روايته مالك الحزين والمخرج السينمائي داوود عبد السيد أفضى إلى إبداع تحفة سينمائية «الكيت كات» إنتاج سنة 1991، استطاع المخرج أن يستوحي من الرواية عالما بالغ السخرية من واقع مرير انطلاقا من شخصية الشيخ حسني الكفيف، الذي لم يكن من الشخصيات الرئيسية للرواية، وكيف تحدّى إصابته بالعمى وتعامل معه كما لو كان مبصرا بروحه المرحة ليفضح في الأخير واقع الاستغلال والفقر في حارة الكيت كات بحيّ إمبابة بالقاهرة.
صائد العميان
كان عبد الله القهوجي قد وافق، من باب توسيع الرزق والانبساط، أن يعمل (ناضورجيا) لحساب الشيخ حسني. لم يكن عليه، عندما يرى أحد العميان، إلّا أن يخبر الشيخ بما رأى، ومع الوقت، صار عبد الله يعرف عمله جيّدا ويجيب وحده عن بعض الأسئلة الضرورية مثل سنّ الزبون وثيابه، أو ما قد يكون هناك من علامات بارزة. كان يفعل ذلك ثمّ يبتعد إلى حين تاركا كلّ شيء للشيخ حسني الذي يتّجه إلى الأعمى ويضع نفسه في طريقه، يسأله عن مقصده أو يأخذ بيده ويعاونه على نزول الرصيف، ويتركه أثناء ذلك يعتقد أنّه بصحبة رجل يرى. وفي كلّ المرّات تقريبا، لم تكن تمرّ إلّا بضع لحظات وتكون العلاقة قد بدأت بينهما، ويكون الشيخ قد سحبه إلى المقهى. ومهما كانت الظروف المادية لهذا الصديق فإنّ القرش كان يجري في يد الشيخ حسني ويعاود التعامل مع الهرم بائع الحشيش، لأنّ أمّ الأولاد كانت، في هذه الأيام، تأخذ المرتب أوّل كلّ شهر من يد عارف أفندي سكرتير مدرسة إمبابة الإسماعيلية الابتدائية حيث يعمل الشيخ مدرّسا للموسيقى، ولا تترك له إلّا ما يفي بحقّ الدخان. وما أكثر العميان الذين ساعدهم الشيخ وألحقهم بما يناسبهم من أعمال. وما أكثر الذين جمع باسمهم التبرّعات من هنا وهناك. ما أكثر هؤلاء جميعا بالنسبة لهذه القلّة التي كشفت العملية من البداية ولاذت بالفرار. أو هؤلاء الأفراد الذين أخذهم الشكّ أو فهموا ومع ذلك استمرّوا لكي يعرفوا ما يقصده الشيخ من ذلك ثمّ هربوا عند أوّل بادرة من بوادر الخطر الحقيقي. أمّا الذين لم ينتبهوا إلّا بعد أن يبدأ الشيخ يزوغ منهم بعد أن ضاعت فلوسهم كلّها فقد كان نصفهم لا يلوم إلّا نفسه لأنّه لم يكن يصحّ من الأوّل أن يسلم الأعمى منهم حياته كلّها لرجل مبصر يصادفه هكذا في عرض الطريق. أمّا النصف الباقي، فقد كان الواحد يسأل عن طريق البيت ويعرفه ويظلّ يتردّد بينه وبين المقهى في إصرار وطول بال حتّى يعرف فجأة أنّ الشيخ حسني كان طول الوقت رجلا أعمى هو الآخر. حينئذ كان ينصرف ولا يقرب إمبابة بعد ذلك أبدا. وفي كلّ الحالات لم يكن الشيخ ينسى عبد الله القهوجيّ: المزاج. الدخان. العشاء أحيانا من عند حسين السمّاك. البرتقال. البقشيش الكبير عند الحساب، وما قد يكون هناك من فوائد أخرى. لأن عبد الله، والحقّ يقال، لم يكن يحفظ السرّ فقط، بل كان عليه بعد ذلك أن يأخذ بيانا بمواعد الشيخ مع هذا الصديق أو ذاك. وعندما يحين الوقت يراقب الطريق جيدا. وما أن يرى الضرير قادما حتّى ينبّه الشيخ بوسيلة ما، لكي ينهض من مكانه ويتقدّم إلى مدخل المقهى كأنّه رجل مبصر رأى صديقه الضرير قادما وقام بنفسه لكي يستقبله عند الباب، يرحّب به ويسحبه بين الناس ويجلسه إلى جواره على المقعد. ولا بدّ أن يتم ذلك تحت الرعاية الجانبية من عبد الله حتّى لا يخطئ الشيخ ويستقبل أيّ رجل يصادفه: «وتبقى مشكلة». ولقد مرّت عليهما أيام طيّبة. كما مرّت عليهما أيّام كساد طويلة. سنوات بدت فيها الدّنيا وكأنّها خلت من العميان إلّا الشيخ حسني نفسه. وكاد عبد الله ينسى ذلك كلّه، حتّى جاء يوم خرج فيه إلى مدخل المقهى، ولمح شيخا ضريرا يأتي بقدميه عبر الميدان فتراجع دون وعي منه وأخبر الشيخ حسني بما رأى. وما أن توقّف الضرير تحت شجرة الكافور الكبيرة العالية، حتّى تلقّاه الشيخ مفتوح الذراعين وقد أدرك عماه. وسرعان ما أحضره إلى المقهى، وأوهمه بأنّه يرى.
خورخي بورخيس.. أعمى نزيل مكتبة العالم
القدر وحده وبسخرية واضحة منح الكاتب الأرجنتيني خورخي بورخيس في آن معاً عشق الكتب والعمى. كان عالمه عالماً كتابياً، عالم الكلمات والجمل والحروف التي تتقافز من حوله ككائنات حية ومع هذا فقد كان عاجزاً عن رؤية هذه الكتب والكلمات. كانت العلاقة علاقة روحية تنغرس في القلب وتنهض بأيدي الشغف الذي لا ينتهي. كان بورخيس عاشقاً للكتب فالتصق بالكلمات وابتعد عن الألوان والموسيقى والأصوات والأشكال. وصف كيف تسلل العمى إلى عينيه فيقول: «بدأ ذلك الهبوط الليلي البطيء، ذلك الفقدان البطيء لبصري عندما بدأت أبصر، وقد استمر هذا الحال دون حدوث أي لحظات مثيرة، فهو هبوط ليلي بطيء استمر على امتداد ما لا يزيد على الثلاثة أرباع القرن، وفي عام 1955 حانت اللحظة المثيرة للشفقة عندما أدركت أنني أفقد بصري، بصري قارئا وبصري مؤلفاً». ومع ذلك، قهر بورخيس العمى وألّف فيه كتاب «مديح الظلام» يتحدّث عن صراعه مع عاهة العمى: «لم أسمح للعمى أن يفت في عضدي… إنّ العمى لم يكن طاقة كبرى تقع علي ولا ينبغي النظر إليه نظرة إشفاق، بل على أنه أسلوب حياة، أسلوب من أساليب العيش»، ثمّ يضيف على نحو من تخفيف أثر العمى عليه: «في الماضي كان العالم الخارجي يتدخل كثيرا في يومياتي، أمّا الآن فصار العالم برمته في داخلي. صرت أبصر على نحو أفضل، ذلك أني بتّ أستطيع رؤية الأمور التي أحلم بها. حلّ العمى تدريجيا، لم يأت مباغتة أو على نحو درامي. في حال فقد المرء البصر فجأة، تتحطم الدنيا إربا أمامه، بلا شك. غير أنه في حال مرّ بمرحلة الغروب، يشعر بأن الزمن يتدفق على نحو مختلف». بورخيس، الذي أدهش العالم بثقافته الغنية، ومقارناته التي يمكن وصفها بالغريبة.. ولكن في الحقيقة هي الأصح والأقرب إلى الواقع، بورخيس الشخصية الفريدة من نوعها في الثقافة العالمية، والذي لعب دورا بارزا في التأكيد على الإرادة القوية للمكفوف، تلك الإرادة التي لا تتوقف عند حدود تعطيل الحواس ليغدو الظلام بالنسبة إليه نورا يحوك منه أساطيره وحكاياته عن الكائنات الخيالية. لقد تخيّل العالم على شكل مكتبة، وعاش بالفعل بين الكتب لما كان مبصرا فقد عمل أمين مكتبة في إحدى ضواحي مدينة بوينس أيريس، ثمّ أمينا عاما للمكتبة الوطنية حتى إبعاده منها لأسباب سياسية وقد انعكست معاناته مع هذه المهنة في عدد من أعماله الأدبية وقصصه، بينها «مكتبة بابل». اهتم بورخيس كثيراً بالأدب العربي، واطّلع عليه مترجماً إلى لغات أوروبية، واستفاد من دراسات قام بها مستشرقون أمثال إدوارد لِين، ريشار بورتون، إرنِست رينان، أسين بَلاثيُوس. يكفي استعراض عناوين بعض نصوصه لتكوين فكرة عن انشغالاته العربية: «الدنو من المعتصم»، «حجرة التماثيل»، «بحث ابن رشد»، «الحمراء»، «ابن خاقان البخاري، ميت في متاهته». كما خاض غمار التجربة الصوفية وامتلأت نفسه بمفرداتها وتأويلاتها ورموزها الأثيرة، خاصة في قصته «الألف». ظلت علاقته باللغة العربية وطيدة إلى حد أنّها قد صارت بمثابة حلم لديه أن يقرأ في يوم من الأيام ألف ليلة وليلة باللسان العربي بالقدر نفسه بلغ هوسه بالشعر العربي القديم وشعرائه القدامى الذين قال عنهم على لسان ابن رشد: «الشعراء الأوائل، أولئك الذين في عصر الجاهلية قبل الإسلام قالوا كل شيء بلغة الصحراء اللامتناهية».
الرسام بيتر بروغل الأكبر.. أعمى يقود عُمْياناً
الرسام الفلمنكي بيتر بروغل الأكبر (1525-1569)Pieter Brueghel وإن لم يكن أعمى فقد قيد له أن يرتبط مصيره بالعميان من خلال لوحته الذائعة الصيت «أعمى يقود عُمْياناً». يعدّ بروغل من أشهر الرسامين في القرن السادس عشر. ظلّ متشبثا بأسلوبه الخاص الذي يستمدّ صوره من عالمه القروي حيث الألوان الدافئة والمناظر الطبيعية المفتوحة. بدأ حياته الفنية مبكّرأ، ففي سن الخامسة عشرة من عمره رحل إلى مدينة «أنفرس» ليتعلّم فنّ التصوير على يدي الرسام المعروف «بيير كوك». كانت أنفرس مدينة مشهورة بازدهار الحركة الفنية التشكيلية على الخصوص في ذلك العصر، حيث تلقى بروغل دروساً ثمينة عن أستاذه ودرس أعمال الفنانين الكبار، وعلى عادة الرسامين في ذلك العهد كان لابد من زيارة إيطاليا حيث كانت النهضة الفنية في أوجها. بعد وفاة أستاذه ومعلّمه «كوك» ورث بروغل مرسمه، ثم قام بجولة أوروبية ثانية شملت أنحاء من إيطاليا وصقلية، فكان لذلك أثر كبير في أسلوبه الفني، ورغم ما كان للوحات التي شاهدها وعظمتها من وقع عليه، فإنه حافظ على طابعه الفلمنكي القروي الخاص، إذ كان مهتما أكثر بتصوير المشاهد المحلية ولاسيما المناظر الطبيعية للقرى الفلامنكية الفسيحة وحياة الفلاحين، ومن هنا شكّل بروغل قطيعة مع القواعد والاتّجاهات الكبرى لفنّ عصر النهضة، من خلال الموضوعات الأثيرة لديه التي أصرّ على رسمها فأنتج أعمالاً جديدة ومستقبلية دون أن يكون له إدراك ووعي كامل بهذا المنجز الفنّي المتقدم على عصره، إذ كلّ ما كان يهمّه هو الاقتراب من حياة القرية والمعاناة اليومية للفلاحين ورسم مشاهدها بصدق بعيدا عن كلّ ما تعلّمه من المعلمين الكبار وفناني عصر النهضة. بعد عودته إلى «أنفرس» رسم عدة لوحات كبيرة، سجّل فيها تغيرات البيئة التي كان يعيش فيها خلال تغير الفصول، وما يطرأ على حياة الريف من تغيير، وانطبعت جلّ لوحاته في هذه الفترة بجو من الحزن والكآبة، خصوصا عندما يتناول مظاهر حياة الناس البسطاء، يؤكّد ذلك أحد مؤرخي الفن «ريمون كونيات»:»في لوحات بروغل يبدو الفلاحون بثيابهم السوداء الكئيبة، وخطواتهم البطيئة، وقد حملوا حاجياتهم على ظهورهم المحنية، يبدون وكأنّهم يحملون هماً دفيناً ولد معهم، وكثيراً ما تزيد الثلوج المتراكمة على المروج والطرقات، من إيحاء هذا الطابع الحزين… لكنّ أكثر إبداعاته شهرة وعمقا لوحته «أعمى يقود عُمْياناً» التي رسمها في وقت متأخر من حياته، كتب عنها الكثيرون وأسهبوا في الحديث عن تأويلاتها السياسية والفكرية والفلسفية تمثل عدداً من العميان، يحملون عكازاتهم، يستند بعضهم إلى بعض، على ممرّ ثلجي، معتمدين في ذلك على أوّل أعمى في القافلة. ولكنّه يوشك أن يهوي في حفرة. لقد استطاع بروغل أن يوحي في هذا المشهد الشديد التأثير، بصورة الشقاء الإنساني الذي يرتسم على وجوه العميان الحائرة، وهم يتوقعون كارثة مقبلة دون أن ينتبهوا إلى حقيقة ما قدر عليهم من مصير. لم يعش بروغل حياة مديدة، فقد مات في الرابعة والأربعين من عمره، لكنه ترك ولدين كانا من كبار الرسامين، وهما بروغل الابن الذي سار على خطى والده والملقب بالجحيمي لولعه برسم عوالم الجحيم، أمّا الثاني جان بروغل فلقب بالمخمليّ لولعه برسم الفواكه والأزهار.
الروائي جيمس جويس.. أعمى مع وقف التنفيذ
الروائي الإيرلندي جيمس جويسJames Joyce (1882-1941) صاحب الملحمة الروائية «عوليس» التي مازالت تعتبر أهمّ رواية كتبت في القرن العشرين بسبب حجم التأثير الذي كان لها على الرواية العالمية. كان قد كتب قبلها «صورة الفنان في شبابه» و»أهالي دبلن»، لكنّ رواية أوليس ظلت محطّ اهتمام وإعجاب منقطع النظير رغم صعوبتها وكثرة إحالاتها التاريخية والأدبية. عانى جيمس جويس دائما من ضعف بصره وتضاعفت آلامه في النصف الثاني من حياته، وكان يفقد بصره تماما في فترات من حياته ما جعله مضطرا إلى إجراء 25 عملية جراحية لتخفيف آلامه ولمواصلة القراءة والكتابة. لم يكن جويس من الأدباء الذين وجدوا في عماهم أو قلّة بصرهم نعمة، بل كان شديد الضيق من إعاقته ويكره أن يملي على أحد ما يريد كتابته، ففي رواية أوليس التي استغرق في كتابتها أكثر من سبعة عشر عاما كان يكتب في العادة بأقلام تلوين ليجعل خطّه واضحا وبارزا أثناء الكتابة أو يتمدّد على سريره مرتديا سترة بيضاء حتّى ينعكس الضوء على الورق، ومع تقدّمه في السنّ لجأ إلى استخدام عدسة مكبّرة إضافة إلى النظارة الطبية. كتب إلى ابنه جورجيو يصف معاناته مع عماه الموقوف التنفيذ: «عيناي متعبتان، ذلك لأنّهما طوال نصف قرن، كانتا تحدّقان في الباطل، حيث وجدتا العدم الفاتن». وعلى الرغم من هذه الصعاب استمرّ في كتابة آخر أعماله «يقظة فينيغان» التي تعدّ بإجماع الدارسين والباحثين أكثر الروايات تعقيدا من حيث البناء والأسلوب الروائي والمادة التاريخية، فهو يتناول تاريخ الخليقة أشبه بصنيع نجيب محفوظ في روايته أولاد حارتنا. كانت لجويس ثقة كبيرة في عبقريته وله موهبة خاصّة في في إثارة اهتمام الآخرين وإقناعهم بأنّه عبقري وشخص استثنائي بفضل طريقته في الحديث وغزارة معارفه وتدفقها بشكل غير عادي، علاوة على عناده وقوّة تصميمه الأسطوريين. لكن في المقابل ورث عن والده التهافت على الملذات والشغف بالكحول، لذلك كان جيمس جويس بعد أن غادر بلاده إيرلندا متنقلا بين الكثير من البلدان (فرنسا وسويسرا…) كثير الإسراف يبدد أموله بسرعة خارقة، ممّا جعله طيلة حياته فقيرا يلجأ إلى مهن مؤقتة لتدبير مصاريف عائلته مثل تدريس اللغة الإنجليزية أو مصرفيا… لكن في الوقت نفسه كانت له مهارة في اقتراض النقود التي في النادر ما كان يسددها لأصحابها. كتب أخوه عن طباعه الصعبة: «قلة من الناس سيحبونه. أعتقد، بالرغم من ميزاته وعبقريته، فكلّ من سيتبادل معه الرقة والطيبة سيكون قد حصل على أسوأ صفقة على الإطلاق». رواية أوليس كتبها جيمس جويس مع بطل ملحمة الأوديسا لهوميروس، وبناها في 18 جزءا بطلها ليوبولد بلوم لكن أحداثها معاصرة وتدور في مدينة دبلن عاصمة إيرلندا وليوم واحد فقط وبالتحديد 18 ساعة، هو يوم 16 يونيو 1904 الذي هو تاريخ لقاء جويس بعشيقته وزوجته مستقبلا «نورا بريكل»، منظّفة الغرف في أحد الفنادق وإحدى الشخصيات الهامّة في هذه الرواية «مولي» وبطلة أحد أجزائها. في النهاية رواية «عوليس» تنتمي إلى تيار الوعي الذي يستخدم تقنية التداعي الحرّ حيث يسمح السارد بتناول الأعماق الداخلية للشخصية الروائية دون تدخل المؤلف ممّا يعكس الوجود المادي والنفسي لشخوصه وأبطاله. في نهاية حياته اعترف جويس بأنّه قد وضع في روايته الكثير من الألغاز والأحاجي لتشغل تفكير الأساتذة لقرون بمناقشة ما كانت تقصده أو تعنيه، وأنّ تلك فقط هي الطريقة التي تؤمّن لها الخلود.
الشاعر اليمني عبد الله البَرَدّوني.. الرّائي المستبصر
ولد الشاعر اليمني عبد الله البرَدّوني سنة 1929 بقرية بردون بمحافظة ذمار فقد بصره كلّيا إثر إصابته بالجدري وهو في الخامسة من عمره. برزت موهبته الشعرية مبكّرا جعلت منه شاعر اليمن وأحد الشعراء العرب الأفذاذ حتّى أطلق عليه لقب «مستبصر العرب» و«الرائي المبصر». اشتغل في التعليم مدّة ثم عمل في الإذاعة اليمنية، وكتب كثيراً للصحافة وألف العديد من الكتب في القضايا الثقافية والسياسية. رغم كونه شاعرا عموديا تلقّى تعليما تقليديا، فقد كانت آراؤه ومواقفه ثورية وجريئة دون أن ينتمي إلى أيّ هيئة سياسية، وإن كان قريبا من الأوساط اليسارية فقد كان يعتبر نفسه من اليسار اليسير. عانى البردّوني من الفقر والقهر الاجتماعي والسياسي إذ تعرض للاعتقال: «هدّني السجن وأدمى القيد ساقي/فتعاييت بجرحي ووثاقي/وأضعت الخطو في شوك الدجى/والعمى والقيد والجرح رفاقي». لكنّه ظلّ عنيدا ومشاكسا مدافعا عن الحرية والعدالة الاجتماعية في وطنه ضدّ الروح القبلية والطائفية في بلاده، تصدّى إلى كتابة تاريخ اليمن السياسي الحديث من وجهة مغايرة، كما كان مناصرا للمرأة اليمنية مدافعا عن حقوقها ممّا أغضب الأوساط التقليدية والمحافظة. صدر له اثنا عشر ديواناً قيد حياته ونال تقديرا ثقافيا عربيا واسعا حيث كان أحد نجوم المهرجانات الأدبية العربية طوال السبعينات والثمانينات والتسعينات من القرن الماضي كالمربد وغيره، شهد له الشعراء الجواهري والبياتي وقباني ومحمود درويش بعلو كعبه فحصل على العديد من الجوائز، منها جائزة أبي تمام في الموصل عام 1971، جائزة شوقي للشعر في القاهرة عام 1981، وجائزة اليونسكو والتي أصدرت عملة فضية عليها صورته عام 1982 وجائزة السلطان العويس في الإمارات عام 1993، وتمّ اعتباره علامة فارقة في الشعر العربي الحديث فقد استطاع تطويع القصيدة العمودية لتتوافق مع مقتضيات الحداثة الشعرية من خلال الرؤية والبناء دون التخلي عن النظام الخليلي الكلاسيكي. كان البردّوني، وعلى خلاف الشعراء العموديين، واسع الاطلاع فهو يمكن له أن يتحدث بتفصيل عن شخصيات روايات نجيب محفوظ أو حنا مينة أو فرجينيا وولف أو جان بول سارتر، أو يتناول معك بالشرح والتحليل قصيدة لأدونيس أو لغيره من شعراء الحداثة. وصفه صديقه الشّاعر عبد العزيز المقالح، في مقدّمة أحد دواوينه، بأنّه «شاعر ثوريٌّ عنيفٌ في ثوريته، جريء في مواجهته»، كما وصفه جليسه وصديقه المقرّب عبد الإله القدسي: «كان يُمثّل نسيجاً لوحده، فهو متعدّد الجوانب المعرفية، فإن شئت تُسمّيه الفيلسوف، وإن شئت تُسمّيه البردّوني الأديب والشّاعر الكبير، وإن شئت تُسمّيه البردّوني المفكّر والمؤرّخ». في الأخير لابدّ من التذكير بأنّ البردّوني قد تنبّأ في الكثير من قصائده بمأساة اليمن وما سيحيق بالعالم العربي من كوارث ومنها قوله:
يمانيون في المنفى ومنفيون في اليمن
جنوبيون في صنعاء، شماليون في عدن
بعض أصول الفلسفة العنصرية : د. حميد لشهب
بما أن الغربيين يعتبرون ثقافتهم إرثا مباشرا من الإغريق، فلا بأس أن نذكر بأن هناك توجهين أساسيين في إشكالية العبودية في تاريخ الفكر الغربي، نابعين من انشغال الفلاسفة الإغريق بالإشكالية السفسطائية المتسائلة ما إذا كانت العبودية أمرا طبيعيا أم نتيجة اتفاق بشري. ونتج عن الإشكالية ما نسميه «التوجه الهرمي» و«توجه المساواة»، مَثَّل الاتجاه الأول كلا من أرسطو وأفلاطون، بينما مثل الاتجاه الثاني الرواقية والأبيقورية والشكية والأفلاطونية المُحدثة، ولربما إلى حد ما الفلسفة المسيحية، على الأقل بعض أقطابها. ويتمثل الفرق الصارخ بين الاتجاهين في تصورهما للإنسان عموما، فالتوجه الهرمي يقدم نوعين من البشر: أسيادا وعبيدا، ما يميز الأولين هو العقل، أما الآخرين، فإنهم لا يتمتعون بعقل، ولهذا السبب، في نظرهم، يكونون مضطرين للتبعية لأسيادهم. ونجد هذه الفكرة عند الكثير من آباء الكنيسة، مثل طوماس الأكويني. أما اتجاه المساواة، فإنه يعترف للبشر كلهم بملكة العقل، التي يُحرم منها الحيوان. فالعقل إذن عام وشامل عند كل البشر.
إذا أردنا أن نفهم الصلة الوثيقة بين العنصرية والعبودية، فلابد أن نرجع إلى مصدر مهم آخر للفكر الغربي، ويتعلق الأمر باليهودية والمسيحية. يعتبر القانون بالنسبة لليهودية، أي قانونهم الخاص، مصدر الأخلاق والشرعية. وهذا ما يؤدي إلى عزل غير اليهود عن المجتمع اليهودي، بمعنى أن أصل العبودية هنا هو الدين اليهودي نفسه، وكل القوانين التي فرضها على اليهود لكي لا يختلطوا بالناس الآخرين، لأنهم يؤمنون في أيديولوجية دينهم بتفضيل، بل باختيار الله لهم عن العالمين. ولا يشبه هذا بحال من الأحوال مقولة: «خير أمة أخرت للناس» التي يؤمن بها المسلمون، لأننا نتحدث عن شعب مع اليهود ومع أمة تضم شعوبا وأعراقا مختلفة في الإسلام. وطبقا للكثير من الباحثين، فإن المسيحية ورثت التصور اليهودي للعبودية والميز العنصري. وبرهانهم على ذلك هو أن العبودية هي نتيجة «إجلاء» الإنسان من الجنة من جهة ومن «لعنة كنعان» (وَابْتَدَأَ نُوحٌ يَكُونُ فَلاَّحًا وَغَرَسَ كَرْمًا. وَشَرِبَ مِنَ الْخَمْرِ فَسَكِرَ وَتَعَرَّى دَاخِلَ خِبَائِهِ. فَأَبْصَرَ حَامٌ أَبُو كَنْعَانَ عَوْرَةَ أَبِيهِ، وَأَخْبَرَ أَخَوَيْهِ خَارِجًا. فَأَخَذَ سَامٌ وَيَافَثُ الرِّدَاءَ وَوَضَعَاهُ عَلَى أَكْتَافِهِمَا وَمَشَيَا إِلَى الْوَرَاءِ، وَسَتَرَا عَوْرَةَ أَبِيهِمَا وَوَجْهَاهُمَا إِلَى الْوَرَاءِ. فَلَمْ يُبْصِرَا عَوْرَةَ أَبِيهِمَا. فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ نُوحٌ مِنْ خَمْرِهِ، عَلِمَ مَا فَعَلَ بِهِ ابْنُهُ الصَّغِيرُ، فَقَالَ: «مَلْعُونٌ كَنْعَانُ! عَبْدَ الْعَبِيدِ يَكُونُ لإِخْوَتِهِ». وَقَالَ: «مُبَارَكٌ الرَّبُّ إِلهُ سَامٍ. وَلْيَكُنْ كَنْعَانُ عَبْدًا لَهُمْ. لِيَفْتَحِ اللهُ لِيَافَثَ فَيَسْكُنَ فِي مَسَاكِنِ سَامٍ، وَلْيَكُنْ كَنْعَانُ عَبْدًا لَهُمْ».» ــ سفر التكوين – (9: 20- 27 وهنا يُعوض الخطأ، أو الخطيئة، الطبيعة كمصدر للعبودية. إذا انتبهنا جيدا إلى الأمر، فإننا نجد بأن اليهودية في ما يخص العبودية، تُزاوج الاتجاه أو الفكر الهرمي والاتجاه القانوني للعبودية. وما قامت به المسيحية بعد اليهودية هو أنها، معتمدة على اليهودية من طبيعة الحال، هي إعادة استثمار فكرة «الطبيعة المخادعة» المطابقة لتصور هرمي للعالم. ويربط مثل هذا التصور العبد لسيده ويسمح بالحرب «المشروعة» والحق في احتلال الآخرين واستعباد غير المسيحي وتعلم العبد الخضوع والصبر في انتظار العالم السماوي، حيث لا وجود للعبودية. وهنا بالضبط نلمس بسهولة وبساطة الصلة بين الاسترقاق والعنصرية التي مارستها الحركات الاستعمارية الأوروبية ابتداء من القرن الخامس عشر الميلادي. استغلت لعنة كنعان في مضمون وبمضمون عنصري وأعطي لفكرة أرسطو عن العبودية مضمون جديد.