الانهيار الداخلي يمهد للاجتياح الخارجي (1-2)
بقلم: خالص جلبي
يميل معظم المحللين السياسيين ومن هم في مكان صنع القرار أن أخطر عدو تواجهه الأمة هو الصهيونية، وأن الصراع العربي الإسرائيلي هو الجوهري والمصيري. ولكن المفكر الجزائري (مالك بن نبي) قلب الصورة وأعاد ترتيب علاقات الأشياء، كما فعل (كوبرنيكوس) في حركة دوران الشمس والأرض؛ فاعتبر أن ولادة إسرائيل جاءت من رحم التردي العربي، وأن (الخراج Abscess) الصهيوني انفجر بسبب انهيار جهاز المناعة العربي، وأن الانتباه يجب أن يركز على (القابلية للاستعمار) أكثر من (الاستعمار)، وأن هذه (القابلية) ليست جديدة بل تضرب جذورها الثقافية بعمق عبر التاريخ، قبل أن يهبط علينا جنود الاستعمار بزمن طويل. وهذا الترتيب ينفعنا في وضع التشخيص الصحيح، وبذل الجهد المكافئ، في الحقل المناسب. تعلمنا من الطب أمرين أساسيين هما الأعراض والعلامات (الأعراض SYMPTOM)، (العلامات = Signes)، والفرق بينهما ما يحس به المريض ولا نراه في الأعراض، والعلامات ما يراه المريض في نفسه ونراه نحن معه وهي التظاهرات الصاخبة الخارجية من ارتفاع حرارة المريض، وتورم في القدمين، ورعشة في اليدين، ولكن هذه يختبئ خلفها (المحرض الأساسي) أو (العامل الإمراضي).
وجرت العادة أن الأطباء يبحثون خلف الأعراض كي يضعوا أيديهم على سر المرض المغيب. وهناك نوعان من المواجهة للمرض (العرضية)، فتقاوم ارتفاع الحرارة بالخافضات، و(السببية) بعزل (الوحدة الإمراضية UNIT) ومكافحتها على نحو جذري، وبهذه الطريقة الحكيمة تقاوم الأمراض وينشط المريض من عقال، ولن يشذ المرض الصهيوني عن هذا القانون.
إن العرب في تاريخهم الحديث أرضعوا أبناءهم ثقافة مغلوطة حين وضعوا ترتيبا خاطئا بين أولويات الأشياء؛ فاعتبروا مثلا أن (الحقوق تؤخذ ولا تعطى)، وأن (الاستعمار هو سبب مصائبنا) وأن (الحاكم يفعل ما يشاء)، وأن (أخطر صراع) نواجهه في الوقت الراهن هو الصراع العربي ـ الصهيوني، ولكن هذه المعادلات الأربع هي كمن يريد أن يقرأ الورقة مقلوبة!
أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أمن يمشي سويا على صراط مستقيم؟
من الضروري إذاً تصحيح (العلاقة) بين الأشياء، وتعلمنا الكيمياء العضوية أن تغيير (جذر الهيدروكسيل OH) يحول السم إلى ترياق في المركب وهذا هو سر الصناعات الدوائية. وهكذا فالعربة لا توضع أمام الحصان، كما أن الشمس لا تدور حول الأرض، ولا تزيد (الحكومات) عن أقمار تابعة لشمس (الأمة)، كما أن (الحقوق) لا تؤخذ ولا تعطى، بل هي ثمرة طبيعية للقيام (بالواجب)، كذلك فإن إزالة (الاستعمار) هي بإزالة (القابلية للاستعمار)، وإلا بماذا نفسر أوضاعنا المزرية إلى درجة أن البعض يترحم على أيام الاستعمار. فقد كانت أياما نمت فيها التعددية، وكان الناس يتجرؤون فيفتحون فمهم ويعترضون، وكانت المظاهرات تتحرك، وبدأت صحافة حرة في التشكل؛ أما اليوم فالمعارضة ميتة، والتعددية ديكور، وإذا تحركت مظاهرة فعلية خارج إرادة وتخطيط رجال الاستخبارات طحنت بالدبابات، ولا يتكلم إلا شخص واحد لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب، وأما الصحافة فهي كما وصفها (النيهوم) تشبه صحافة العالم الحر في كل شيء من المقالة الافتتاحية والتعليق السياسي، وانتهاء بالكلمات المتقاطعة ونعوة الوفيات، ولكنها في الظاهر تتشابه مثل البيضة للبيضة بفارق أن بيضة الصحافة العربية مسلوقة، ومن الأخرى خرج ديك يصيح على السياج، لا غرابة أن فرت الصحافة العربية إلى المهجر تطبع في مدن الضباب، حيث لا يكتب حرف عربي. وأن ما ينتظر الصحافة العربية جراحة جذرية. كذلك وفي ضوء هذه (الآلية MECHANISM) يجب أن يفهم أن الصراع الجوهري والأساسي هو (العربي ـ العربي)، وأن الهامشي والعرضي هو (العربي ـ الصهيوني)، كما يحدث عند مريض الإيدز؛ فعندما انهار الجهاز المناعي تشكلت الأورام وغزت الجراثيم والفطريات وهم من كل حدب ينسلون.
نعم إن انهيار جهاز المناعة العربي قوض الحالة الصحية، وقاد إلى الحالة المرضية التي نعيشها، وهذا يفتح وعينا أن نتوجه إلى معالجة المرض الأساسي على نحو جذري، وهذا يقودنا إلى نتيجة أشد مرارة، وهي أن الله لو خسف الأرض بإسرائيل لما زال المرض العربي. مع الأخذ بعين الاعتبار (العلاقة الجدلية) بين (المرض) و(المضاعفات = Complication).
إننا نفعل في صراعنا مع إسرائيل ما يفعل الثور مع المصارع، فينطح الخرقة وينسى اللاعب الإسباني. إن الغرب هو الذي صنع إسرائيل على عينه، وهو الذي يهرع إليهم في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم.
نحن نخفض الحرارة، ولا نحاول رفع مقاومة الجهاز المناعي، وننشغل بمطاردة الجراثيم. نحن نحاول تفريغ الخراج ولا نعالج مرض (السكري) الأساسي الذي هو أرضية انفجار كل الالتهابات. إننا بكلمة مختصرة نعالج ليس كأطباء محترفين متخصصين، بل أقرب إلى البيطرة والجهلة. والطب البيطري هو معالجة الأرانب والعجول، وهو في حقله ممتاز، ولكن نقله لمعالجة البشر كارثة.
إن بعض الناس يختلط عليهم هذا المفهوم ويشعرون أنه يزلزل كل القواعد العقلية التي يرونها، ولكن ماذا يقولون بزلزال الخليج؟ إن حرب الخليج فتحت أعيننا أن مشكلتنا داخلية بحتة ويومها نسينا إسرائيل، وأثناءها انعقدت المؤتمرات الإسلامية في الجانبين في جدة وبغداد، وتم توظيف كل الأدلة العقلية والنقلية أن موقف كل طرف هو الحق الذي لا يأتيه الباطل من يديه ومن خلفه، ومن حسم الموقف كانت صواريخ «توماهوك» الأمريكية. وتورطت حركات إسلامية في هذا الصراع السياسي، ولم تستفد من موعظة التاريخ، أن النصوص لم تحل مشكلة في يوم من الأيام. وأن القرآن بذاته تم توظيفه لحياكة أكبر خدعة سياسية في التاريخ فرفع على رؤوس الرماح، في كلمة حق يراد بها باطل، وأن ما حكم تاريخنا كان الغدر والسيف. ومن سخرية الأقدار أن نرى في النهاية أن من حل المشكلة لم تكن النصوص، كما أن الحل لم يكن لمصلحة أي طرف، بقدر مصلحة الطرف المتدخل، كما في قصة القطين والقرد وقطعة الجبن؛ فعندما احتكم قطان متنازعان حول قطعة جبن سرقاها إلى قرد متظاهر بالعدالة، ذابت الجبنة في حلق القرد وهو يعيد وزنها وقضمها بين القبة والميزان.