يعتقد وزير الداخلية أن عزوف الأطباء والمهندسين والتقنيين في الهندسة المدنية والإعلاميات عن اجتياز مباريات التوظيف في الجماعات الترابية يقتصر على ضعف الرواتب.
والواقع أن القضية ليست قضية رواتب كما يعتقد السيد الوزير الذي عبر عن استعداده لتوظيفهم بثلاثين ألف درهم إذا ما شرع البرلمان ذلك. مع أن البرلمان عندنا منشغل بتشريع «الفام» عوض تشريع القوانين.
إن عزوف الأطر عن العمل في الجماعات الترابية يعود لأسباب أخرى أكثر تعقيدا. إذ لا يعقل أن يترشح الأطباء والمهندسون والأطر للعمل بالجماعات كي يتحكم فيهم الجهال والأميون. فمثلا يمكن لرئيس جماعة أن يمنح صلاحيات أوسع لمساعد تقني ويهمش المهندس، وعادي جدا أن يحيل رئيس جماعة مستواه الدراسي التحضيري مهندسا أو طبيبا على المجلس التأديبي ويوقف راتبه، ويمكن لأي عضو تافه بالمجلس لا يروقه تعامل الطبيب والمهندس أن يطالب بتهميشه أو تنقيله، وفي حالات كثيرة إغراقه بكثرة الاستفسارات.
لذلك فالدولة عليها التفكير جديا في نهج سياسة منح اختصاصات الجماعات في قطاع التعمير للداخلية والوكالة الحضرية، والجبايات لوزارة المالية عبر القباضات، سيما أن مجموعة من الاختصاصات في الحالة المدنية تمت رقمنتها، ناهيك عن التدبير المفوض لعدد من القطاعات. وبالتالي يتم تصريف جيوش الموظفين الذين نصفهم أشباح إما عبر إطلاق برنامج للمغادرة الطوعية بالنسبة لكبار السن، أو توزيعهم على قطاعات وزارية.
لا يعقل بتاتا أن موظفا بجماعة ترابية يتقاضى 12000 درهم ولا يقدم مقابلها أية خدمة. وهناك فئة مقربة من الرؤساء متفرغة بالكامل لاقتسام كعكة التعويضات عن الساعات والتنقلات والتكوينات، وأغلب الجماعات الترابية تلتهم فيها كتلة الأجور حصة الأسد من الميزانية.
وكما لو أن هذا لا يكفي فإنهم يستغلون سيارات الجماعة والمازوط، وبعضهم عند الدخول المدرسي يقتطع لأبنائه لوازم الدراسة من لحم الجماعة، ومن لديه زوجة معلمة أو أخت أستاذة أو ابن يدرس فإنه يقوم باستغلال معدات الجماعة في الطباعة والنسخ. وهناك من يسرقون شرائح الهاتف ويمنحونها لأبنائهم وصديقاتهم.
وفي إحدى الجماعات بالغرب تملك رئيسة قسم الجماعات المحلية سيارة الدولة، ويملك زوجها مدير المصالح بالمجلس الإقليمي بنفس العمالة سيارة المجلس، ومع أنهما يقطنان بنفس المدينة ونفس البيت إلا أنهما يطبقان قاعدة «طوموبيل ليك وطوموبيل اللي عزيز عليك».
الخلاصة أن الدولة يجب عليها أن تقطع مع شيء اسمه «الجماعات الترابية» وأن تفكر في شكل جديد لتدبير الشأن العام، لأن ما يقع بالجماعات هو فقط مجال لتبذير المال العام هباء منثورا، في حين أن هناك وكلاء للجبايات يدخلون لجيوبهم أكثر من مداخيل الجماعة.
وبالإضافة لفرص الاغتناء السريع التي توفرها الجماعات الترابية للأميين ومحترفي الانتخابات فإنها أصبحت أسهل طريقة للترقي في السلالم الإدارية. فأصبحنا نجد مجموعة من الموظفين بقطاع التعليم، والمرتبين في السلم العاشر، والذين لا يتمكنون من الترقي بحكم كثرة العدد، يستغلون العلاقات الحزبية، ويلتحقون بالجماعات في وضعية إلحاق، وهكذا يحق لهم الترقي بسهولة عبر الجماعة مع أنهم لا يصنعون شيئا غير الراحة والسياحة. وعوض أن يتنافس مع جيش عرمرم من موظفي الوزارة فإنه يلتحق بالجماعة «وهاهوا دايز طاير».
وهنا يظهر للجميع أن وزارة التعليم «كاتخربق»، فهي «تظل تشكي» من الخصاص بينما تلحق موظفيها بالجماعات التي تعاني من الفائض. «وفهم نتا شي حاجة».
وزارة الداخلية لديها الحل لكل هذا العبث، فالتعاقد مع مكاتب الدراسات على أساس إعداد الصفقات وتتبع الأشغال سيلغي تماما عمل عشرات الموظفين بقسم المحاسبة والأشغال وقسم التعمير.
وإجبار الجماعات على استعمال المنصة الإلكترونية للرخص التجارية سيجعل عشرات الموظفين بالجماعة في وضعية عطالة، والعمل بالمنصة الإلكترونية للتعمير سينهي مهام مجموعة من الموظفين بقسم التعمير لأن المهندس بات يتكلف بكل شيء انطلاقا من وضع الطلب إلى حين تسلم رخصة البناء، حتى إن هناك خاصية للأداء الإلكتروني سيتم تفعيلها. وحتى تسجيلات الوفيات والولادات بقسم الحالة المدنية أضحت تتطلب التسجيل بحواسيب المكتبات أو نوادي الانترنيت قبل دخول مكتب الجماعة. أما أداء الضريبة على الأراضي الحضرية غير المبنية والضريبة على المشروبات فقد صدرت بشأنها دورية وزارية للأداء عبر تطبيق إلكتروني لدى الخزينة العامة. أما مراقبة مخالفات التعمير فقد باتت من اختصاص مراقبين محلفين بالوكالة الحضرية للتعمير، أما مهام الشرطة الإدارية فهاته مهام يقوم بها أصلا أعوان السلطة على أكمل وجه 24\24 وطيلة أيام الأسبوع.
والطامة الكبرى في الجماعات الترابية هي بطائق الإنعاش التي يتقاسمها الرؤساء والأعضاء فمنهم من يمنحها لعشيقته ومنهم من يمنحها لخادمته بالبيت.
أما «الباقي استخلاصه» فلا تملك مصالح الداخلية الجرأة على معاقبة وكلاء المداخيل بسبب تعطيلهم لمسطرة تحصيل الدين العمومي، وهناك حيتان كبرى بالجماعات تستفيد من «التقادم» بسبب عدم الدقة في تفعيل مسطرة تحصيل الدين العمومي، مثلا لدينا مقهى أو مطعم أو صاحب وعاء عقاري في ذمته سنويا 10000 درهم، إذا مرت أربع سنوات ودخل في السنة الخامسة دون أن يؤدي ما بذمته ولم تفعل بشأنه مسطرة تحصيل الدين العمومي، تحتسب له فقط أربع سنوات الأخيرة، مادامت مسطرة التحصيل معطلة. وهناك لعبة أخرى تتمثل في التشطيب على بعض الملزمين من جدول الملزمين بدفع الضريبة، وهناك من يتجرأ ويتلاعب بالمساحات المفروض على أصحابها أداء الضريبة على الأراضي غير المبنية.
والطامة الكبرى أن هناك من يقوم بتسليم شهادة جبائية لا تمت للواقع بصلة. ويمكن أن يكون مفتش وزارة الداخلية «طيارة» لكن في الأخير ينجحون في «قولبته»، وفي مكتب حفظ الصحة مثلا عندما يسألهم مفتش الداخلية أين ذهب هذا الاعتماد الذي فيه عشرين مليون، يقولون له بكل ثقة في النفس «شريناها دوا ديال الفار وخويناها فالقوادس».
هذا هو الواقع البئيس للجماعات الترابية، فهل هناك طبيب أو مهندس أفنى زهرة شبابه في العلم والتحصيل سيترك القطاع الخاص والهجرة للعمل في كندا أو أمريكا لكي يأتي ليشتغل تحت «سباط» هذه الجرذان التي تهلك الحرث والنسل؟