الاتجار بمأساة اللاجئين
عبد الإله بلقزيز
أسوأ ما يمكن لسياسة ما أن تضمره بينما تنتظم أهدافها عليه، هو أن تتجر بمعاناة الناس وتستثمر في الكوارث غيرَ عابئةٍ بقيمةٍ أو مبدأ أو قضية إلا بما تبغيه من وراء ذلك الاتجار. إذا كان مبنى السياسة على المصالح.
فما كل المصالح مشروع ولا هي مشروعة عملية ركوب الوسائل جميعها إلى تحقيق تلك المصالح إلا متى كانت الوسائل مشروعة، أي مجردة من شبهة الوضاعة واللاإنسانية.
إننا لا نملك أن نتحصل مصلحة مشروعة مثل الكسب، متوسلين في ذلك وسائل غير مشروعة ولا قانونية تُبطل مشروعية المصلحة (= الكسب) التي تقر بها القوانين. وهي قاعدة لا تشذ عنها السياسة، بل هي أوكد فيها من غيرها، وقبل غيرها، خاصة حين تكون سياسة دولة لا جماعة صغيرة؛ أي سياسة كيان مبْناه على القوانين.
قضية اللاجئين، اليوم، من نوع هذه القضايا التي باتت داخلة في سوق المتاجرة السياسية على أوسع النطاقات، وعلى مرأى ومسمع من العالم كله: من دوله وقوانينه ومؤسساته الدولية والإقليمية، من غير أن يستطيع أحد أن يضع لها حدا، أو حتى أن يردع الأطراف التي تستغلها لأغراض سياسية، أو تنخرط في صفقاتها كشركاء ذوي حصصٍ فيها. والصمت والإحجام عن التدخل لِكَف فصول هذه الجريمة النكراء، لا يتركها تستفحل فحسب، وتزيد من دائرة ضحاياها المبتَلعين فيها فحسب، بل توفر سابقة في غاية السوء يُبْنى عليها غدا في استغلال ورقة اللجوء، في أماكن أخرى من العالم.
اللاجئون، ابتداء، ضحايا أزمات سياسية حولتهم، فجأة، من مواطنين في بلدانهم إلى جحافل من الفارين هائمين على وجوههم يلتمسون الأمن والأمان في الآفاق. قانون البقاء، أو قانون حفظ الوجود الإنساني – وهو قانون طبيعي – يحملهم على التضحية بوجود بات مستحيلا على أرضهم وطلب البقاء أنى توفر إمكانُه. لقد تجردوا من كل حقوقهم في العيش الكريم داخل وطنهم وبين ظهراني شعبهم وذويهم، ولم يتبق من حق لهم سوى آخر حق يشترك فيه الإنسان والحيوان: الحق في البقاء؛ الحق الذي تدافع عنه الغريزة قبل العقل أو من دون العقل. وليس اللّجوء سوى ذلك البحث الصعب والشاق عن سبيل إلى مدافعة الحق في الحياة، حتى من غير التفكير في ما عساها تكون شروط الحياة التي يُسْعى إلى الحفاظ عليها في مثل هاتيك الأحوال.
قلنا إن اللاجئين ضحايا أزمات سياسية في مَوَاطنهم التي نزحوا عنها قسرا. ثم لا يلبث اللاجئ أن يبدأ في اكتشاف أي بؤس ذاك الذي ساقه إليه نزوحُه الاضطراري عن أرضه ومسكنه: الحياة في عراء مطلق سقفه السماء أو، عند غَوْث غائث، في خيام لا تقي من حر أو زمهرير؛ وطعام شحيح لا يسُد الأوَد (هذا إن وصلت أمدادُ الوكالات والمنظمات الدولية الإنسانية قبل أن يَقْضيَ من الجوع والعطش مَن قضى)؛ ومرارةُ اقتلاعٍ يُمِر طعمُها مع الزمن مع مزيد بؤس وتشرد؛ ثم هَجْسٌ دائم بما يخبئه الغد من سيئ المفاجآت. بعدها تكبر كرة الهم وتنيخ على الصدور بكلكلها: انقطاع خط العودة؛ انهيار الأمل في أطفالٍ انقطعت سبُلُ تعليمهم؛ الخوف من البقاء المديد في ظروف اللّجوء على حدود بلدان الجوار؛ الانسحاق بالفاقة وبشعور التهميش والتمييز الذي تُقابَل به معسكرات اللجوء في البلدان التي تأوي اللاجئين، وتضرب على تجمعاتهم الحصار الأمني الشديد.
وكما يمكن أن يشكل لاجئو بلد ما مشكلة كبيرة – اقتصادية أو أمنية أو سكانية – لبلد مجاور لا يقوى على حمل أعباء ما جرى في جواره، يمكن أن يشكلوا موردا للاستثمار، السياسي والأمني والمالي، لبلد آخر مجاور تراءت له مصلحة من وراء نكبة جيرانه. ولقد عاينا، في السنوات المنصرمة، كيف أن بلدانا بعينها تصرفت مع مسألة اللجوء بوصفها فرصة ومَغْنَما، لا بما هي نكبة ومشكلة؛ فتحت شريطا من أراضيها لنصب معسكرات اللاّجئين، مدعية أنها مدفوعة في ذلك بمشاعر التضامن الإنساني مع الشعب المنكوب، وتفاوضت مع دول كبرى في العالم لتقديم الموارد المالية للإيواء (وبملايير الدولارات). بل لقد عاينا كيف أن بعض مثل هذه الدول – التي ساهمت بسياساتها في صناعة ذلك اللجوء من طريق تسليح ميليشياتها ودفعها إلى ممارسة التهجير القسري للسكان – مال إلى ابتزاز الدول المانحة بفتح الحدود أمام تدفق هؤلاء اللاجئين إلى أراضيها، إن لم تستجب لمطالبه في رفع حصص الدعم. واليوم، يتكرر المشهد عينه على الحدود البيلاروسية- البولونية في محاولة للضغط على سياسة العقوبات الأوروبية.
وفي صورة المتاجرين المستفيدين شركاء صغار إلى جانب الدول؛ وهم كناية عن شبكات مافيا تعمل في تأمين طرق الهجرة إلى بلدان الثراء مقابل أموال طائلة. وهي شبكات متنوعة؛ بعضها مربوط بخيوط مع أجهزة رسمية للدول المستغِلة لقضية اللاجئين، وبعضها خاص أو مرتبط بنظائر له في بلدان الاستقبال. وفي الأحوال جميعها، لا يدفع ثمن هذا الاتجار اللاإنساني واللاأخلاقي بمآسي الناس إلا الملايين من أولئك الذين وقعت عليه طامة اللجوء وقذفت بهم بين أيدي هؤلاء السماسرة.
نافذة:
اللاجئون ابتداء ضحايا أزمات سياسية حولتهم فجأة من مواطنين في بلدانهم إلى جحافل من الفارين هائمين على وجوههم يلتمسون الأمن والأمان في الآفاق