الإيديولوجيا ومفاهيمها
عبد الإله بلقزيز
بعد تعيين للإيديولوجيا، في نهاية القرن الثامن عشر – من طرف مبدع هذا المفهوم (أنطوان دستو دو تراسي) -، تعيينا إيجابيا بوصفها «علم المجتمع» ثم «علم الأفكار»، وبما هي العلم الذي يساعد على التفكير الصحيح.
وعلى التحليل الدقيق لمفاهيم الفكر المجردة لبيان مدى مطابقتها للواقع، بات للإيديولوجيا – منذ القرن التاسع عشر – معنى سلبي. ولكنها في القرن العشرين الماضي مُجت أكثر وأصبح مقدوحا فيها، في سياق من التنامي المطرد للوضعانية والعلموية: اللتان اجتاحتا ميادين الاجتماعيات والإنسانيات. واليوم، لا تجد إلا من يُزري بمعنى الإيديولوجيا وينزل به إلى درجة محطوطة. ولكن بدلا من مقارعتها باسم العلم، يُقذف فيها باسم المعرفة.
والأدهى والأطم أن أكثر من يتفوقون على أنفسهم في التشنيع على الإيديولوجيا هم في زمرة من يعيش، فكريا، على فتاتها أو على مائدتها: وهم فلاسفة أو دارسون للفلسفة، وعلماء اجتماع وإنسانيات!
والحق أن الإيديولوجيا، كموضوع، تستحق الدرس الرصين لا القدح والذم كما لا المشايعة والتبجيل. إنها مسألة إشكالية. والإشكالي فيها مأتاه من تعدد معانيها وبالتالي، من تعدد استخداماتها على وجوه مختلفة في المجال التداولي. لذلك سنقاربها، في إسراع، من مداخل ثلاثة متباينة الميادين وبالتالي، يدور كل معنى من معاني الإيديولوجيا داخل الميدان أو الحقل المعرفي على نحو يغايِر غيره.
هكذا تقبل الإيديولوجيا مقاربتها من مدخل إيبيستيمولوجي، ومن مدخل سوسيولوجي، ثم من مدخل ثقافي – أنثروبولوجي.
تُوضع الإيديولوجيا، في منظور إيبيستيمي، في مقابل العلم أو المعرفة الموضوعية. إنها، في هذا المفهوم، نمط من الإدراك أو الوعي يتسم بأنه زائف أو مغلوط أو مقلوب؛ فهو لا يفصح عن حقيقة أو ينشدها، بل يهدف – بالعكس – إلى طمسها أو تعميتها.
لهذا عد الوعي الإيديولوجي، في هذا المنظور المعرفي، وعيا مقنعا؛ يحول بينه وبين الإدراك الصحيح للظواهر. وقد يكون الوعي الإيديولوجي المغلوط هذا وعيا تلقائيا أو يحصل بالتلقاء، فتكون الإيديولوجيا كأغلوطة هي المانعة إياه من المعرفة الموضوعية (وفي هذه الحال تعد الإيديولوجيا دون المعرفة مرتبة)، كما قد تكون وعيا قصديا، أي يقصد إلى ممارسة التغليط (وحينها تصبح الإيديولوجيا ذات وظائف تضليلية). وفي هذه المقاربة الإيبيستيمولوجية، تكتسب الإيديولوجيا معنى قدحيا بوصفها نقيضا للمعرفة الحق، وضربا من التجديف الفكري والتقنيع والتوهيم.
وهكذا تنظر إليها العلموية. ولكن، يمكن أن تجد من لا يذهب في تشنيعها إلى هذا الحد، فيكتفي بالقول إن طبيعة الإيديولوجيا، بالذات، كوعي غير مصروف لمعرفة «الحقيقة» هي ما يمنعها من أن تكتسب صفة المعرفة.
الإيديولوجيا، من منظور سوسيولوجي، رؤية تكونها الجماعات الاجتماعية (طبقات، فئات، شرائح…) عن نفسها وعن العالم من حولها، فتكون تجسيدا للوعي الذاتي، أو لوعيها بذاتها؛ وتكون تعبيرا – بالتبعة – عن مصالحها المادية، فتبرر لها مصالحها، من وجه، وتبرر بها مصالحها من وجه ثان.
هذا مفهوم للإيديولوجيا كثير الاستخدام في التحليل الطبقي، كرسته كتابات ماركس والماركسيين فتعمم خارج دائرة الفكر الماركسي، وبات شائعا وعاما. يُرْبط معنى الإيديولوجيا، هنا، بالمصلحة. إن المعيار الذي تتحدد به الإيديولوجيا، في هذا المنظور السوسيولوجي، ليس معيار الصدق والكذب، الحقيقة والخداع، لأن هذا معيار إيبيستيمي، وإنما هو المصلحة.
فهذه هي ما تشرعن هذه الإيديولوجيا في وعي حامليها. ولما كانت المصالح متعددة ومتناقضة، بل متصارعة، كانت الإيديولوجيات، بالتبعة، متعددة ومتناقضة والعلاقة بينها علاقة صراعية على صعيد الفكر، حتى أن الماركسيين، مثلا، تعودوا أن يرددوا مقولة إن الصراع الإيديولوجي صراع طبقي يجري على صعيد الوعي.
أما من مدخل ثقافي – أنثروبولوجي فتأخذ الإيديولوجيا معنى ثقافة مجتمع أو شعب؛ مجموع محصول تراثه القومي الذي يحدد تمثلاته وتصوراته ونظره إلى العالم. إنها، في هذا المعنى، تطابق مفهوم الثقافة الجمعية وجملة ما تتعين به من سمات وخصوصيات تتميز بها من غيرها من ثقافات المجتمعات الأخرى. وواضح أن تعريف الإيديولوجيا هذا يلحظ الأبعاد الاجتماعية والتاريخية للمفهوم؛ ذلك أن إيديولوجيا مجتمع أو شعب لا يمكن إلا أن تكون خلاصة مواريث من أزمنة اجتماعية سابقة. وكثافتها التاريخية هذه هي ما يفرض شمولها المجتمع كافة، والتنزل منه بمنزلة الثقافة الجمعية.
من الواضح، إذن، أننا إزاء تحديدين للإيديولوجيا في مفاهيمها الثلاثة هذه: أمام تحديد معياري لها – في مفهومها الإيبيستيمي- وأمام تحديد وظيفي: اجتماعي وتاريخي في مفهوميها السوسيولوجي والأنثروبو- ثقافي.