شوف تشوف

الرأي

الإيديولوجيا والتكنولوجيا (1ـ 2)

بقلم: خالص جلبي
كل من سمع الأخبار حين أخرجت أمريكا أثقالها من الأسلحة، ومع قرع الطبول عند التقاء جبال الهندوكوش مع طريق الحرير، قلب العالم المتعب وجهه في السماء، فانقلب إليه البصر خاسئا وهو حسير. فالطائرات الأمريكية حلقت، والجيوش زحفت، وحاملات الطائرات أقلعت. ولكن بعد أن انقشع الغبار عن ناطحات السحاب التي دكت دكا فكانت هباء منبثا تبرز إلى السطح ثلاثة مفاصل تروي العكس تماما، وأن المخاض الإنساني يقترب أكثر من قبل إلى شاطئ السلام. بعضهم ينقل «مقلدا» عن صحف أمريكا أنها أول حروب القرن الحادي والعشرين، وهي على العكس مؤشرات عميقة تدعو للتفاؤل أكثر من التشاؤم، إلى موت مؤسسة الحرب، وأن ما يحصل لا يزيد على اختلاجات الميت الأخيرة قبل تسليم الروح، وكما يقول عالم النفس السلوكي «سكينر» إن الجيش المنهزم يظهر بعض المقاومة النهائية قبل الاستسلام، وكذلك العواطف الشريرة، وموت المؤسسات في التاريخ؛ فإذعانها الأخير يخضع لتوترات هائجة في المخطط البياني قبل النهاية. وكلامي هذا يشبه الجنون، ولن يسمع بين قعقعة السلاح وقرع الطبول، ولكن لنرى ونحلل على ضوء مشكاة النبوة.
ثلاث وقائع تؤكد أن زمن الحروب انتهى، الأولى من مانهاتن، والثانية من طبيعة العملية التي جرت في 11 شتنبر، والثالثة من باكستان. ولنبدأ من «الثالثة»، إن الإنسان لا يملك نفسه من الضحك حينما يسمع أن السلاح «النهائي» والقنبلة «النووية الإسلامية» – التي ليست إسلامية، فالقنابل لا دين لها ـ قد خذلت أصحابها في الامتحان الأعظم، كما حصل مع حرب كوريا وفيتنام وكوبا، فبعد أن أنفقت باكستان المليارات من جيب شعب فقير، على بناء الصنم النووي، وبدأت تتعبده حتى يكون جاهزا ليوم الفصل، وما أدراك ما يوم الفصل ويل يومئذ للمكذبين؛ فكذبهم السلاح النووي وخذلهم، وإذا باكستان «الدولة النووية» ترتجف مفاصلها هلعا وتخاف أن تتعرض منشآتها النووية للخطر فتستسلم، في تناقض يصل إلى حجم نكتة كبيرة ولكن لا يضحك لها أحد. ونحن نعلم أن الذي ينفق أمواله ليكدس السلاح حتى ينفعه يوم الحرب، ثبت أنه لم ينفع بل كان سببا في الاستسلام، والسبب بسيط هو أن صناع القرار في باكستان غادروا بقنبلتهم النووية أرض النبوة ودخلوا غابة الأقوياء من فرعون وأصحاب الرس وثمود، فأحبط عملهم كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا. وطالما كان اغتصاب السلطة في باكستان من «العسكر»، الذين يؤمنون بالقوة، فهم دخلوا حزب فرعون وهامان وقارون ويخافون من القوة ولا يثقون بشعوبهم ويتحولون إلى أسرى في أقفاص القوة مرتهنين في الأغلال فهي إلى الأذقان فهم مقمحون، وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون. وهذا يقول إن من يأتي إلى السلطة بالقوة لن يتخلى عن القوة، لأنها مصدر وجوده ومنه يتحول إلى عبد لها. ومنه فإنني أقترح على حكام العالم العربي أن يبيعوا كل الأسلحة المجمعة في ترساناتهم بالمزاد العلني لمن أراد الشراء، والأصح أن يدفنوها لأنها أصبحت «خردة» تضر ولا تنفع إلا في حرب الجيران، واستعباد الأمة، واستهلاك موارد التنمية، وهذا ينطبق على باكستان بسلاحها النووي، فلتتخلص منه بسرعة بما فيه الاستخدام السلمي للمفاعل النووي، حسبما ينادي به المدافعون عن البيئة منذ عقود. وأن يدرك حكام المنطقة أن قوتهم هي في شعوبهم، فإذا انفكوا عنها لم تغن عنهم صواريخ العالم أجمعين. وفي سوريا كنموذج، رأينا أن الأسلحة التي اشتريت على عقود تم استخدامها ضد الشعب مع انتفاضة الربيع العربي، وكلفت مليون قتيل وتشريد 15 مليونا. وهذا يفتح عيوننا على حقيقة مدمرة، أن مشكلتنا ليست مع بني صهيون، بل هي مشكلة داخلية بحتة، ولكن إدراك هذا الأمر أصعب من قطع الأنف بالمقص وبدون تخدير.
وأما «العبرة الثانية» فهي أن الانتحاريين الذين فجروا أمريكا لم يكونوا قوة عظمى ولا كائنات خارج أرضية من المريخ، بل عصبة من الشباب قصفوا رموز الوحش الرأسمالي المالية والعسكرية – حسب عقيدتهم – في ضربة لا تبقي ولا تذر لواحة للبشر عليها تسعة عشر من المنفذين، حسب التحقيقات الفيدرالية، وهذا يعني أن زمن المواجهات العسكرية والجيوش الجرارة وحاملات الطائرات وصواريخ «كروز» و«توماهوك» انتهى دورها، وإن صحت بعض الروايات من عدم وجود انتحاريين، بل تمت برمجة الطائرات أن تضرب آليا ويفقد الملاحون السيطرة عليها وينعقل لسان كل جهاز، بما فيها أجراس الإنذار والصندوق الأسود؛ فهو مؤشر لدخول عصر إلكتروني تدور فيه حروب من نوع جديد تعتمد الذكاء الصناعي والتكنولوجيا الحديثة ومشاعر البشر. وما يواجه الدول اليوم هو مجموعات صغيرة حسنة التنظيم والتدريب وإدراك أسرار التكنولوجيا الحديثة. وما حصل في 11 شتنبر هو ذلك المزيج المدهش من «التعصب والإنجاز المذهل»، والخلطة التفجيرية المخيفة من «الإيديولوجيا والتكنولوجيا»، وهذا ينقل مسار الحرب إلى سكة جديدة تتوقف أن توصف بأنها حرب. حيث تتوقف الحروب القديمة وتبدأ مواجهات جديدة من «التدافع»، وحلها لا يتم بجرعة إرهاب أكبر أو معالجة الانحراف بالجريمة، وقتل المريض بدل علاجه، وتطبيق العقوبة بدل معرفة الدافع أو الإعداد للانتقام أكثر من العدل.
إن الإمبراطوريات انهارت على الطريق نفسها حينما طبق «الحد» على الضعيف وترك الأمير، فهذا أول الشر وباب هلاك الأمم كما نص على ذلك الحديث، (إنما أهلك من قبلكم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد! ويم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يديها!).
وهذا يضغط على البحث عن جذور المشكلة أنه لن يكون هناك سلام أو طمأنينة، طالما كان العالم مكونا من شريحتين: مستكبرين ومستضعفين، إحداهما مكونة من 20 في المائة من الأغنياء يأكلون 80 في المائة من خيرات العالم، طالما لا يحتكمون إلى كلمة سواء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى