كل شيء له تاريخ. والإنسان باعتباره صانع التاريخ إذا ما قورن بالحيوان، مَدْعُوٌ بفعل ضرورة البقاء إلى صنع وعي يوجه هذا التاريخ. ولا يشمل الوعي الذي ينتجه الإنسان الحق والخير والجمال فقط، لا يشمل الدين والفكر والعلم والتكنولوجيا والبناء فحسب. إنه يشمل الظلم والشر والقبح، مثلما يشمل الزندقة والهرطقة والتدمير والخراب. وإذا كانت الحروب أيا كانت دواعيها، بما فيها تلك التي توصف بأنها حروب عادلة، تحمل بطبيعتها كل أنواع المآسي والتخريب والدمار، فإنها تصنع بالنتيجة الكره والكراهية والحقد والبغض.
ومما يثير الاستغراب في وجود الإنسان أن الوعي ذاته لا يقتصر في مضامينه على القيم النبيلة والتي تجمع عليها البشرية، أيا كانت ثقافة الأمم المشكلة لهذه البشرية. ذلك أن هناك وعيا يعتمد الخير ويصنع الخير، ووعيا ينطلق من خلفية شريرة يصنع الشر. فيكون هكذا بداية لتاريخ من الحقد، يمتد في الزمن عبر آليات مختلفة ومتعددة تقويه وترسخه وتغذيه باستمرار. وإذا كان فاعلو الخير يفيدون البشرية جمعاء، فإن صانعي الشر يلحقون أشد الأضرار بهذا الجزء أو ذاك من البشرية. إن صانع الخير هو الإنسان، وهو نفسه – الإنسان- صانع الشر.
لا تنقص التاريخ الشواهد التي تؤكد ما نذهب إليه. ونحن لا نقصد الشر كما هو في حياة الأفراد ولا الشر نفسه كما هو في حياة الشعوب. فصنف هذا الشر لا يصنع التاريخ ولا يؤثر في دواعيه وصوارفه، وحتى إذا حصل مثل هذا التأثير، فإنه يكون ضعيفا فلا يغير مساره. لقد كان لجماعات الصعاليك فعل ما في تاريخ العرب، قبل الإسلام، غير أنه لم يؤثر في صيرورة هذا التاريخ، ولا كان حاسما فيه. وبالمثل فإن حركة 9 مايو النيو – فاشية، مثلا، باعتبارها تعبر عن وعي شرير، لا يمكن أن تغير تاريخ فرنسا. هذا بالرغم من أنها نجحت في تنظيم تظاهرة بالعاصمة الفرنسية، باريس، بمشاركة بضع مئات من الأشخاص، بعد أن ربحت حكم المحكمة الإدارية التي أجازت لها التظاهر الذي كانت السلطات قد رفضته. حمل الصعاليك الحقد على المجتمع العربي، ويحمل الفاشيون الجدد في فرنسا وفي غيرها حقدا شديدا على المجتمعات التي يوجدون بها، لكن ليس هذا ما يصنع التاريخ الذي يفسح مجال التقدم للإنسان.
لقد اعتبر الفيلسوف ابن سينا في القرن الحادي عشر الميلادي والحضارة العربية الإسلامية تهيمن في ذلك التاريخ على العالم وتقوده وتصنع تقدمه، أن الخير المطلق يقابله في الوجود الشر المطلق، والخير النسبي يقابله الشر النسبي. لكن الخير يسعى بالإنسان إلى الكمال، في حين ينزل به الشر إلى العدم. هكذا يمنح ابن سينا الوجودَ للخير، والعدمَ للشر. وهو ما يعني أن الخير والكمال يتصلان باللذة، في حين يصنع الشر الألم. وستشغل هذه القضية على النحو الذي عالجها بها الشيخ الرئيس (ابن سينا) تاريخ الفكر الذي عُنِيَ بالنظر في ثنائية الخير والشر، أو ثنائية الوجود والعدم، لكي نقف مع فيلسوف آخر في نهاية القرن السادس عشر وينتمي إلى حضارة أخرى، هو توماس هوبز، على تصور يرى أن الإنسان ذو طبيعة شريرة. وهو ما يفيد بأن التاريخ ذاته قائم على التوحش والقبح.
وقد يغلف الإنسان عمله الشرير برداء من الخير، هذا ما نجده في أمثلة عديدة من تاريخ القبح لدى الإنسان. ألم تحمل دعوة البابا المسيحي الكاثوليكي للتحريض على الحروب الصليبية في القرن الحادي عشر وعودا بالغفران (الخير) لكل من يشارك في هذا القبح، قبح حرب ظالمة استمرت قرنين من الزمن في أنهار من الدم، راح ضحيتها المسلمون في الشرق، الشرق نفسه الذي يجري فيه اليوم قبح إبادة جماعية غايتها محو الشعب الفلسطيني، قبح تجري أطوار تاريخه تحت أنظار العالم المتحضر. تلك الحروب الصليبية التي سيؤيدها حتى وقد مضت عليها قرون، بيرنارد لويس، صانع وعي الشر ضد العرب والمسلمين، والداعي إلى تفتيت بلدانهم وتمزيق شعوبهم، بل والمتخصص في صنع هذا الوعي العدائي، وقد انتهى مستشارا لبوش الأب وبوش الابن، اللذين نعرف مقدار الشر الذي يُكِنانِه للعرب، مسلمين ومسيحيين. كل ذلك تحت ذريعة محاربة القبح، أي الإرهاب الذي مارسه ويمارسه مُدعون الانتسابَ للإسلام. وهو الإرهاب الذي مارسته تنظيمات يابانية وغربية إيطالية وألمانية، قبل المنتسبين للإسلام. وإذا كان آخرون قد تبنوا هذا الأسلوب فإنما فعلوا ذلك تنفيذا لبنود في القانون الدولي تُشَرِع للمقاومة.
إن تشكيل وعي القبح والشر لم يتوقف في التاريخ. وإذا كنا قدمنا مثال بيرنارد لويس، فإن أنماطا أخرى عديدة نعايشها اليوم وتلحق أشد الأضرار بوجود واستمرار ليس الحضارة فقط، بل وبوجود الحياة في كوكب الأرض.
هكذا هو تاريخ الإنسان، تاريخ لتشكيل شكلي الوعي، الوعي بالخير والوعي بالشر…