الإلحاد حالة لا تطاق (2 ـ 2)
بقلم: خالص جلبي
روى لي صديقي أنس من الجديدة، وهو على اطلاع على حركة الملاحدة، أن أشدها نشاطا هي في دول الخليج النفطية، فمع رائحة النفط والغاز تتبخر الديانة بأشد من تبخر البنزين، ونحن نعرف أن نتائج الرهبانية كانت «الستربتيز»= التعري.
وأمام ضغط الإلحاد نشأت كنائس من نوع جديد، مثل كنيسة التفكير الحر التي تأسست عام 1959 وتعتمد مقولة «عش واترك غيرك يعيش»، وفيها 20 مليون قس.
ماذا يعتقد اللادينيون والملحدون بصفة عامة؟ لقد تبين ومن خلال مئات المقابلات أنهم لا يأبهون لفكر ما بعد الحداثة، وإنما يميلون إلى الأفكار الليبرالية حول أهمية السلام والإشباع الثقافي وحقوق الإنسان، وهي في الحقيقة قيم يشترك فيها اللادينيون وأهل الأديان. ليصل الجميع إلى الفقرة الذهبية التي تقول (ما لا تريده لنفسك افعل الشيء نفسه تجاه الآخرين)، وهو تطبيق غير مباشر للحديث: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه».
وماذا عن الحزانى ومرضى السرطان والمصابين بالشلل الرباعي؟ لقد سأل صاحبنا (رجل السكر) المتدينين ونقيضهم، ليصل وبثقة إلى مصدر عزاء قوي، إنه الجمال العابر لهذا العالم ولا شيء سواه.
إنه أمر مفاجئ في وقت تعتبر الأديان أن أقوى الأدوية في يدها لمواجهة مصير مظلم، من الخوف من الموت فهناك حياة بعده.
وهناك إحصائيات جيدة لصالح المؤمنين؛ فهم أقرب للإنفاق والرحمة من نقيضهم الذين يرون أن هذا واجب الدولة؛ فهم بخلاء أنانيون لا يريدون مساعدات من أي مؤسسة خيرية ولا يساعدون.
يرجع السيد سكر للإحصائيات ليقول إن الدم أهم من ماء الكنيسة، فإن كان الوالدان من عقيدة اللادين فسيكون الأولاد حتى 95 في المائة منهم بدون دين.
أين هذه المفاهيم من فكرة الفطرة الإنسانية؟ وأن المرء يهوده أبواه أو ينصرانه أو يسلمانه أو يكفرانه. عن أثر البيئة في تشكيل العقائد، فهل الإلحاد أفضل من الإيمان؟ جواب أستاذ الرياضيات، جيفري لانغ، الذي اعتنق الإسلام بعد أن كان في عقيدة أهل الإلحاد: إنها حالة لا تطاق.
من المهم إذن معرفة لماذا يلحد من يلحد، ولماذا يؤمن من يؤمن، وإن كان القرآن قرن الإلحاد بالظلم (ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم ـ الحج 25)، فهذه هي المسألة التي قضت مضجع الملائكة عن الخليفة الإنسان: أنه يفسد ويسفك الدماء وليس أنه كفر أو آمن.
وحول هذا الموضوع أنقل لكم تجربة اثنين من العلماء، قادتهما من عمق الإلحاد إلى برد اليقين والإيمان. فلمدة نصف قرن كان (آلان سانديج 72 عاما) يعيش حالة الإلحاد ويمارس طقوسه ويريد أن يثبت عبثية الكون. وقد استطاع في رحلته العلمية، أن يحدد عمر الكون في رقم يتراوح حول 13,7 مليار سنة.
والآن يعترف هذا الرجل الذي اشتعل رأسه شيبا ووهن العظم منه بأن «بحث الكون أظهر لي أن وجود المادة بحد ذاته معجزة، لا يفسرها إلا ما هو فوق مادي».
أدلى سانديج بهذا الاعتراف في المؤتمر الذي عقد في بركلي من كاليفورنيا، حول (العلم والبحث الروحي)، حيث اجتمع كوكبة علمية من عباقرة الفيزياء والبيولوجيا. وفي هذا اللقاء لم يكن سانديج الوحيد في هذا اللقاء الذي ضم 300 عالم، بل كان فيه رجال من نوع (شارل تاونس) الذي نال عام 1964م جائزة نوبل، عن أبحاثه في تطوير فكرة الليزر من الضوء العادي. وفي هذا المؤتمر قال تاونس: «حسب قوانين الكون المعروفة، لا يمكن فهمها بدون تدخل كائن عاقل».
وما فعله الفلكي (آلان سانديج) وصاحبه (تاونس)، أبو الليزر، قام به آخر من كندا، وهي رحلة بيولوجية في تلافيف وقشر الدماغ، تلك التي قام بها الطبيب الكندي (ويلدر بنفيلد)- الذي سمي شارع في مونتريال بكندا باسمه ـ حين قام بعمل استغرق نصف قرن، ليثبت أن الدماغ لا يزيد عن مادة، وأن الفكر لا يزيد عن إفراز كيماوي من الدماغ، وقام بإجراء تجارب مذهلة على ألف من المرضى وهم في حالة وعي كامل، بإدخال مسابر في غاية النعومة والنحافة إلى داخل جماجمهم، في محاولة لدراسة جغرافية الدماغ، ومعرفة مكان الروح والإرادة والشخصية. وقد وصل إلى رسم خريطة الدماغ، كما فعل ماجلان في كروية الأرض، فعين كما عين الجغرافيون القارات وأنهار الملاحة والجزر النائية والممرات الحيوية وعرض المحيطات وقيعان البحار.
لقد فعل بنفيلد ما يشبه ذلك في أدمغة البشر، وخرج على الناس بعد هذا العمل العلمي الملحمي في كتاب بعنوان «لغز الدماغ»، يقول فيه إن الشخصية والإرادة والروح ليس لها مكان في قشر المخ و(كرة أرضيته)، وإن الفكر ليس مادة، وإن الروح لا تلاقي الفناء كما في المادة المخية، وحين يموت الإنسان ينفك منه شيء مختلف فيرجع من حيث جاء، فأثبت الديانة من حيث أراد نقضها.