ياسر عبد العزيز
فى الشهر الماضي، صدر إعلان لافت من شبكة «فوكس نيوز» الأمريكية الرائجة، علمنا منه أن الشبكة انفصلت عن مذيعها الأشهر والأكثر مشاهدة وتأثيرا، تاكر كارلسون، رغم أن برنامجه الذي يحمل اسمه أيضا، كان ما زال يحقق المشاهدات الأعلى، ويحظى بالرواج الأوسع.
لقد استفادت «فوكس نيوز» من مذيعها الأهم كارلسون كثيرا، ليس فقط بسبب العوائد المالية التي جنتها جراء شهرة برنامجه وجماهيريته، ولكن أيضا لأنه لعب أدوارا مؤثرة لتعميم الروايات اليمينية، التي مثلت دعما كبيرا لقطاع من الجمهوريين.
وبسبب شهرة المذيع وبرنامجه، والشبكة التي ينتمي إليها، فقد حظي هذا الخبر باهتمام عالمي، حتى أن بعض النقاد رأى أنه يجسد النهاية لإرث سيئ من الانحياز والتزييف وعدم المهنية، في مقابل آخرين اعتبروا أنه تقييد للحق في حرية الرأي والتعبير وانتهاك للدستور الأمريكي.
لكن تفاصيل هذه الحادثة ما زالت مثيرة وكاشفة في آن، إذ يبدو أن كارلسون، الذي نجد له أمثلة كثيرة في مجالنا الإعلامي العربي، كان يلعب دور الشاهد الذي يعرف كل شيء، ويتحدث في كل شيء، ويملي على الجمهور ما يتبناه من مواقف ويتخذه من قرارات.
ولكي تتخلص «فوكس نيوز» من أعباء قضية رفعتها عليها إحدى شركات التصويت الإلكتروني، فإنها اضطرت إلى دفع مبلغ يزيد على 787 مليون دولار لإيقاف عملية التقاضي، بعدما ثبت تقريبا أن المذيع اتهم الشركة بتزوير الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة، من دون توفير أي دليل على صحة هذا الاتهام.
وعندما نجتهد في تحليل أبعاد هذا الخبر المهم، سنجد أنه يكشف عن عدد من العناصر المهمة؛ أولها أن النظام الإعلامي الأمريكي يضم شبكات ومذيعين وأنساق عمل غير مهنية بالمرة، وأن تلك الأنساق تستخدم الأقوال المرسلة، والادعاءات غير المثبتة، وتعتمد على نجومية مذيع لم يكن قادرا على الدفاع عن طرحه، رغم أن له تأثيرا حاسما في القضايا العامة الحساسة.
صحيح أن هذا النظام استطاع أن يوقف هذا المذيع عن العمل في الشبكة التي ينتمي إليها، لكن الآليات السائدة ما زالت سانحة لتكرار الوقائع ذاتها، في ظل الالتباس الكبير الذي يعززه النزاع السياسي بين الجمهوريين والديمقراطيين، ونوبات الصراع التي يعززها دونالد ترامب واليمين المناصر له والمؤمن بأحقيته السياسية.
لطالما ظل الأنموذج الإعلامي الغربي، والإعلام الأمريكي على رأسه بطبيعة الحال، مصدرا للإلهام للكثيرين في بلادنا، سواء في ما يتعلق بقدر الحريات التي يتمتع بها، أو بتطوره المهني الاحترافي، أو بالآليات المتوازنة التي تحكم عمله؛ فتُبقى له قدرا من الحرية والانفتاح كبيرا، وتُرسى قواعد واضحة لتنظيمه، وتحفظ حقوق الآخرين من تعدياته في آن واحد.
ومع ذلك، فإن المنظومة الإعلامية الغربية كثيرا ما تورطت في مشكلات كبيرة، وارتكبت أخطاء صارخة، وأظهرت ميولا مناوئة تماما لما استقرت عليه الأدبيات الغربية في التنظير للممارسة الإعلامية وتنظيم أدائها وتقويم انفلاتاتها. وفي هذا الإطار تحديدا برزت مشكلات الأخبار المضللة، وخلط الرأي بالخبر، واستخدام المنصات الإعلامية كمنابر دعائية.
لقد تم توجيه الكثير من الاتهامات لأداء كارلسون الإعلامي؛ ومنها ارتكابه مخالفات في ملفات التمييز والكراهية وإشاعة الأخبار المضللة، كما قدم كثيرون الأدلة الدامغة على ذلك التورط، الذي أدى في مرات سابقة إلى توقيع عقوبات عليه في وسائل إعلام مختلفة.
ولذلك، فقد بات المواطن العادي في منطقتنا على سبيل المثال يعرف الكثير من الزلات والأخطاء الكبيرة التي وقع فيها إعلاميون غربيون، بل ويتداولها مع آخرين عبر وسائط «التواصل الاجتماعي».
والشاهد أن مختلف وسائل الإعلام في العالم يمكن أن تقع في الأخطاء، وأننا لسنا في وضع يمكننا من إعطاء النصح والدروس للآخرين حين نتحدث عن معايير الإعلام وقيمه، لكن مع ذلك لا يبدو من المستساغ أن تكون في موضع الإلهام، ثم تتورط إلى هذا الحد في تلك المخالفات العنصرية والمهنية البغيضة.
لطالما تعرض الإعلام الغربي للنقد والهجوم على مدى عقود خلت؛ وقد حدث ذلك مبكرا جدا حين ظهر الانحياز السافر لمصلحة إسرائيل في صراعها مع العرب في المقاربات الإعلامية الغربية، وحين تم تحصين هذا الانحياز بقوانين وقواعد تحت لافتة كبيرة براقة اسمها «معاداة السامية».
ورغم ذلك النقد والهجوم، الذي استند في بعض الأحيان إلى ذرائع وجيهة وتمتع بأدلة دامغة، فإن هذا الإعلام الغربي لم يفقد الكثير من بريقه وتأثيره، بل ظل في مفاصل كثيرة قادرا على الإلهام، خصوصا عند تحقيق الاختراقات الكبرى في كشف وقائع الفساد، وعند التصدي لنقد النظم الغربية، وكشف ما قد تنطوي عليه من عوار.
وفضلا عن ذلك، فقد تحولت الممارسات الإعلامية الرشيدة التي انطوى عليها الإعلام الغربي إلى أدلة ومعايير انتظمت في مساقات أكاديمية، وطورت ميراثا كاملا من القواعد ضمن ما عُرف بـ«التنظيم الذاتي»، وهو ميراث ظل منهلا للتعلم والتطوير في مناطق مختلفة من العالم، ومنها منطقتنا بطبيعة الحال.
لكن واقعة تاكر كارلسون، ووقائع أخرى كثيرة، تفتح الباب لمراجعة ضرورية للممارسة الإعلامية الغربية، وهي مراجعة يجب أن تجتهد لكى يستعيد الإعلام الغربي التزامه المعلن بالمعايير، وأن يعزز آليات إخضاع أدائه للتقييم المستمر.
نافذة:
المنظومة الإعلامية الغربية كثيرا ما تورطت في مشكلات كبيرة وارتكبت أخطاء صارخة وأظهرت ميولا مناوئة تماما لما استقرت عليه الأدبيات الغربية في التنظير للممارسة الإعلامية