الإسلاميون، اليسار والديمقراطية أو «قميص عثمان» (2/1)
ما حدث في ظهر المهراز بفاس وأدى إلى إزهاق روح طالب وجرح آخرين لا يستحق منا سوى الإدانة. فالجامعة مكان له حرمته يحمل فيها الطلبة الأقلام والكتب والمحاضرات وليس السكاكين والمديات والسيوف.
ما حدث ليس تصفية حسابات سياسية كما يريد البعض أن يقدم ذلك، بل إن ما حدث جريمة نكراء مكان مرتكبيها والمشاركين فيها هو السجن. وشخصيا لست متفقا مع كل الذين أرادوا، سواء في حزب الاستقلال أو الأصالة والمعاصرة، أن يحملوا حامي الدين المسؤولية الأخلاقية لما حدث من سفك للدماء في الحرم الجامعي لمجرد أن منظمة التجديد الطلابي فكرت في دعوته للمشاركة في محاضرة، فحامي الدين يمكن أن نختلف مع أفكاره أو نتفق، لكن لا أحد يمكنه أن يحرمه من حقه المبدئي في أن يحاضر في أي مكان يريد أو يستدعى إليه. فهناك مواقف أخرى يمكن أن نحاسب فيها حامي الدين مثل إرساله لتقرير حول الحوار الوطني الذي يشرف على تنسيقه إلى المستشارة السياسية للسفارة البريطانية، وهو الفعل الذي لم ينكره حامي الدين، كما أنه لم يقدم اعتذارا، أو على الأقل توضيحا حوله.
أما الجامعة فليست ملكا لأحد آخر غير العلم والرأي، ونحن في دولة حرة وكل واحد لديه الحق في أن ينشر ويدافع عن أفكاره بالطريقة التي يراها مناسبة، طالما أنها تحترم إطار القانون ولا تصادر رأي الآخرين مهما كان مختلفا.
وإذا كان ملف الطالب اليساري آيت الجيد، المغتال في الحرم الجامعي نفسه الذي اغتيل فيه الطالب الحسناوي، والذي حوكم فيه حامي الدين وقضى عقوبته بسببه مازال مفتوحا، فإن هذا لا يعني أن حامي الدين، كأستاذ جامعي ساعده الخاليدي مؤسس النهضة والفضيلة على تدبر منصب مالي في جامعة بطنجة، ممنوع من ممارسة حقه في التعبير.
إن الذي يتحمل المسؤولية الكبرى في ما حدث هو رئيس الحكومة أولا ووزيره في الداخلية ثانيا ووزيره في التعليم العالي بدرجة أقل، لأنه لم يبادر منذ سنتين ونصف من صعوده إلى سدة الحكم إلى وضع مخطط عملي وعاجل لتحرير الجامعة المغربية من قبضة الفصائل المتناحرة في ما بينهما حول من سيسود في ساحات الحرم الجامعي ومن سيفرض سيطرته على مفاصل الجامعة ويحدد للطلبة لون السنة هل ستكون بيضاء أو سوداء.
كما أن وزيري الداخلية والتعليم العالي لم يحملا تهديدات فصيل النهج القاعدي بتصفية منظمي المحاضرة التي دعا إليها فصيل التجديد الطلابي حامي الدين على محمل الجد. علما أن عقوبة التهديد بالقتل في القانون الجنائي ثقيلة جدا.
ولذلك فعوض أن يذرف وزير التعليم العالي الدموع على قبر المرحوم الطالب الحسناوي، الذي أطلق عليه رئيس الحكومة لقب الشهيد، كان عليه أن يبادر إلى تقديم استقالته وأن يعترف بفشله في إصلاح الجامعة التي أصبح الطلبة يرمون أنفسهم من أسطحها ويتناحرون بالخناجر والسيوف كما لو كانوا مجموعة من «المشرملين» الأميين الذين لم يفتحوا في حياتهم شيئا آخر غير وجوه الناس في المنعطفات.
رئيس الحكومة عبد الإله بنكيران، عوض أن يقدم اعتذاره للطلبة على هذه الأجواء الحربية التي تسود بعض الجامعات بسبب الفصائل التابعة للأحزاب السياسية والتي تتخذ من الحرم الجامعي مجالا حيويا لممارسة «التدافع السياسي»، أخذ طائرة خاصة وحضر مراسيم دفن الطالب الحسناوي في الرشيدية. وإذا كان سفر رئيس الحكومة لحضور مراسيم دفن الطالب سلوكا إنسانيا ذا معاني رفيعة، فإن رسائله التي حرص على توجيهها في كلمة التأبين ذهبت في الاتجاه الخطأ عندما قال إنهم في الحزب مستعدون للتضحية بأرواحهم في سبيل الوطن. ومن يسمع رئيس الحكومة يتحدث بهذه الطريقة يتصور أن هناك حملة اغتيالات تطول أعضاء حزبه. خصوصا أنه ظهر يومين بعد ذلك في الجديدة بمناسبة المهرجان الختامي للحملة الوطنية الحادية عشرة لشبيبة العدالة والتنمية وهو يكرر الخطاب ذاته، مع ملاحظة مثيرة هي وقوف حارس قوي البنية بين المنصة التي كان يخطب من فوقها بنكيران وبين الجمهور الذي كان يستمع إليه. وكأن رئيس الحكومة يريد أن يعطي إشارة إلى أنه لم يعد يأمن على سلامته حتى وهو بين شبيبة حزبه.
والحال أن ما حدث في ظهر المهراز لم يكن معركة من أجل تحرير الوطن، بل مراهقة سياسية بين فصيلين انتهت بشكل دموي. والذين يتحملون المسؤولية ليسوا طلبة هذين الفصيلين فقط وإنما الأحزاب التي ينتمون إليها، والتي آن الأوان لكي تفهم أن الجامعة ليست ملحقة للحزب بل مكانا لتلقي العلوم والحصول على الشهادات وممارسة البحث العلمي. ومن يريد أن يمارس السياسة عليه أن يمارسها في أمكنتها الطبيعية، أي داخل الأحزاب وفي البرلمان وداخل المجالس المنتخبة.
ليست هناك جامعة واحدة في العالم المتقدم يحصل فيها ما يحصل في جامعاتنا المتخلفة التي تحتل سنويا مكانا «مريحا» في مؤخرة الترتيب العالمي للمؤسسات الجامعية.
وحتى داخل المغرب فإننا لا نسمع مثل هذه الأخبار المقززة سوى في الجامعات التي يتكدس فيها أبناء الشعب، أما الجامعات الخصوصية والمعاهد العليا سواء كان تخصصها الطب أو الهندسة أو العلوم الأخرى فإن طلبتها ينشغلون بمحاضراتهم ويعدون العدة للامتحانات من أجل الحصول على شهادات التخرج والانطلاق نحو سوق الشغل.
أما الأكثر حظا فيذهبون إلى الخارج لإكمال دراستهم في الجامعات التي تستحق أن تحمل هذا الاسم، هناك حيث لا إضرابات عن الدراسة ولا سنوات بيضاء ولا نضال من أجل الحصول على الحافلة أو المقصف أو واحد من تلك المطالب التي ما زال يناضل بسببها الطلبة في المغرب ويضحون من أجلها بأشهر طويلة من عمر موسمهم الدراسي، وهناك من ينتهي منهم في السجن بتهمة التجمهر غير القانوني ورمي الأمن بالحجارة ويقضي سنة أو سنتين وراء القضبان ويخرج بعاهة مستديمة عوض أن يتخرج من الجامعة بشهادة الإجازة.
أما في جامعات «ولاد الشعب»، أولئك الطلبة الذين حالت دونهم قلة ذات اليد لولوج المعاهد الخاصة بعد الباكالوريا، فإنها تحولت إلى مؤسسات لضياع الوقت، وحتى إذا أراد الطلبة الانكباب على دروسهم ومحاضراتهم فإن هناك من سيتكلف بمنعهم من ذلك بحجة أولوية النضال الجامعي الضروري لإنضاج كل ثورة.
لقد كانت الجامعات دائما ذلك المختبر الذي يتم فيه تجريب جراثيم السياسة في رؤوس الطلبة، وغالبا ما أعطت هذه التجارب مخلوقات مشوهة سياسيا ومعطوبة فكريا انتهى بعضها نهايات مأساوية داخل السجون وأقبية المعتقلات، فيما انتهى البعض الآخر نهايات مخزية في حضن من كان يناضل بالأمس من أجل إسقاطهم.
وعوض أن تتحول الجامعات المغربية بعد كل سنوات «البيات الشتوي» الطويل الذي دخلت فيه، من ثكنات فكرية تتحصن داخلها فصائل تتوارث فكرا فاقدا للصلاحية إلى فضاء للعلم والبحث وتحصيل الشهادات، نرى أن التاريخ لازال يعيد نفسه بشكل درامي.
فبعد عشرين سنة من اغتيال الطالب اليساري آيت الجيد، وقضاء حامي الدين لسنتين حبسا بسبب هذا الملف، قبل أن يرفع قضيته لهيأة الإنصاف والمصالحة ويأخذ تعويضا عن السنتين اللتين قضاهما وراء القضبان، ها نحن نرى كيف يتم اغتيال طالب إسلامي بالطريقة الهمجية نفسها، وكأن رفاق آيت الجيد كانوا يبحثون عبر هذه التصفية الجسدية عن إحراز «التعادل الدموي» في مباراة بين اليسار والإسلاميين المعلقة. وكأنه لا مجال لأي حوار بين الجانبين في الحرم الجامعي بعيدا عن مصطبة الذبائح التي تقدم فوقها أجساد الطلبة الممزقة بالخناجر قرابين لسدنة محاريب السياسة.
وبالنسبة إلى رئيس الحكومة المنحدر من تنظيم الشبيبة الإسلامية الذي ظل دائما يحمل لطخات دماء الاشتراكي عمر بنجلون فوق ثيابه، فإن حضوره مراسيم دفن الطالب الحسناوي وإلقاءه لذلك الخطاب السياسي وراءه البحث عن لعب دور الضحية. فالحزب الحاكم ظل يعاني دائما من عقدة «الشهداء» التي كان حزب الاتحاد الاشتراكي، وأحزاب اليسار عموما، متفوقين فيها على كل خصومهم السياسيين.
ولعل المشترك بين قادة العدالة والتنمية وحركة التوحيد والإصلاح هو أنهم أشخاص يعشقون الحرية بشكل زائد عن الحد، إلى حد فعل المستحيل كي لا يتعرضوا للاعتقال، خصوصا أنهم مروا من مسارات سياسية كانت فيها منعرجات حادة انتهت بآخرين في المنافي والمعتقلات والمقابر الجماعية، فيما انتهوا هم أساتذة في الجامعات وبياطرة وأطباء وتجارا لا أحد يفسد عليهم تجارتهم.
ولذلك فوصف الطالب المغتال في ظهر المهراز بالشهيد يعني أن حزب العدالة والتنمية أصبح له شهداء هو الآخر. واليسار الذي كان يزايد عليهم بشهدائه ويتهمهم بالتورط في دمهم ها هو بدوره يتورط في دم أحد شهداء هؤلاء الإسلاميين.
فكأننا أمام رهان «توازن الرعب» بين اليسار وجزء من الإسلاميين بحثا عن الثأر لدم سياسي قديم.