بقلم: خالص جلبي
ما زال عالقا في ذاكرتي، بعد ضربة 11 شتنبر حين زلزلت الأرض زلزالها، وسارع الإسلاميون ليكتشفوا الآيات القرآنية التي تحض على الموعظة والجدل بالتي هي أحسن. وتوقفوا فجأة عن الاستشهاد بآيات القتل والقتال في سبيل الله. وأعلن الأزهر أن تاريخ المسلمين كله كان سلاميا، ولم تكن هناك حروب بين المسلمين، في الوقت الذي قتل المسلمون المسلمين أكثر مما قتل منهم الكفار. وفي معركة صفين لوحدها، قتل 70 ألفا، منهم 25 بدريا أكثر مما قتل في معركة بدر. وهُرع رؤساء الدول العربية لتنظيم مؤتمرات للحوار، في الوقت الذي قتلوا الناس والحوار. ومن المنظمات الإسلامية في أمريكا برزت فجأة وجوه من لجة العنف، لتعلن أن «اللاعنف» هو أفضل الوسائل للتغيير الاجتماعي. في الوقت الذي آمن الشباب بالعنف طيلة حياتهم، فداعيه لأهل الأرض داع. وأن أمريكا لا تفهم إلا لغة القوة. ولم يخطر في بالهم يوما هذا السؤال الحيوي، ما الذي جاء بإسرائيل إلى أرض الميعاد؟ ولماذا استعمرت هولندا أندونيسيا، مثل أرنب يركب ظهر تمساح بألفي جزيرة؟ ولم تستعمر فرنسا فنلندا، بل مدت يدها إلى الجزائر، مثل الطفل الذي يأكل الحلوى في وليمة؟ إن جواب كل هذه الأسئلة في آية قصيرة: والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه، والذي خبث لا يخرج إلا نكدا. الدعوة إلى الحوار إذاً مشبوهة، وتشبه قصة الأسد مع رأس الذئب المقطوع. فحيوانات الغابة بدأت ترتعش خوفا وتسمع لخطبة الأسد، وتعتبرها مليئة بالحكمة، وأن بعض فقراتها يجب أن تعلق في لافتات مضاءة على أشجار الغابة. وهذا يعني أن كل طرح إلى فضيلة الحوار بعد ضربة شتنبر مشكوك فيه، بعد أن لوح المارد الأمريكي بهراوته فوق رؤوس المستضعفين في الأرض. والعالم اليوم مقسوم إلى شريحتين: وهما «المستكبرون» وعلى رأسهم أمريكا التي تمد أي نظام طاغوتي قمعي في العالم، بدعوى مكافحة الإرهاب ضد أي لون من المعارضة، و«المستضعفون» وهم شعوب العالم الثالث، ويشكل العالم الإسلامي 80 في المائة منهم. واليوم يسرع الإسلاميون إلى الحوار بالتي هي أحسن، وسببه ليس القناعة بهذه الأفكار، بل التحول الكوني والظروف الساحقة التي ألجمت تيار العنف ومناصريه. ولاحظت في مناقشتي مع رموز إسلامية كبيرة، أن القتال المسلح عندهم يمكن أن يمارس ضد الحكومات، متى شعرت الحركة الإسلامية أن الأمر مضمون، أو بتعبير أحدهم: عندما نضمن أن يكون الانقلاب أبيض. والذي ثبت في تاريخ الانقلابات، أن الكل يتوقع اللون الأبيض ليتحول إلى لون أحمر قان. وفكر سيد قطب في المعالم يدور حول هذه النقطة، ويرى أنه حالما تهيأت (القاعدة الصلبة الواعية) أصبح الهجوم على الأنظمة ضروريا، لأن الجهاد يجب أن يكون (بالسنان) لا باللسان. فالأنظمة (تعبِّد) الناس لغير الله، وهي تمارس الفكر والقوة المادية، ولذا كان الجهاد بمعنى القتال المسلح مكافئا من أجل (إزالة الحواجز المادية)، كي (يخلى بين الناس والعقيدة). والفكر الإسلامي المعاصر لم يتخلص بعد من قبضة هذه المسلمات. وتجربتي تقول: (أولا) لم يتبلور تصور واضح في قضية الجهاد حتى اليوم، وهو يتطلب إعادة بناء ثقافة إسلامية. (ثانيا) الفكر الإسلامي ما زال محكوما بفقه العصر المملوكي والعثماني، وكل من كتب من الفقهاء والمفسرين لا يعتبر ملزما ولا نصا مقدسا. وهو يقود إلى أمور: تعطيل القرآن الذي هو الدستور الأساسي بنصوص من حديث أو أقوال الرجال. فيقولون هل أنت أفهم من ابن عباس؟ ولو بعث ابن عباس لأصبح غير ابن عباس وبدل آراءه، فهذه صيرورة كونية. وأخيرا يرون أننا كلما رجعنا بالزمن إلى الخلف اهتدينا إلى الحق أكثر. وهكذا فتفسير ابن كثير أفضل من رشيد رضا، وبدوره يصبح تفسير الطبري أفضل من ابن كثير. كمن يقول إن جراحة الرازي أفضل من الجراحة الحديثة، وإن جراحة أطباء فرعون بيبي الثاني أفضل من الرازي. ولكن العجيب أن من يريد أن يجري عملية مرارة اليوم، يفضل أن تكون بالمنظار ولا يحب أن تكون بشق البطن، ما لم يكن في جمهوريات الخوف والبطالة. وكما يقول مالك بن نبي فإن من يدخل المعاصرة وهو غير محيط بإضافات المعرفة الإنسانية، لن يحظى إلا بالسخرية. ونحن دخلنا التاريخ بأحداث شتنبر من البوابة الخلفية، سواء كانت صناعة بن لادن أو انقلابا أمريكيا يمينيا. وهي اليوم محنة كبيرة لجميع المسلمين، أنهم لم يحسنوا تربية أولادهم فخربوا بيت الجيران، وهدموا آثارهم في باميان، وقتلوا أولادهم في نيويورك، بدعوى الجهاد في سبيل الله. ويجب أن نتحدث بوضوح، فالمريض مصاب بسرطان ويحتاج إلى عملية جراحية كبيرة، ولكن المريض لا يريد أن يسمع، والجراح ما زال يقرأ كتاب «القانون» لابن سينا، وأهل المريض يفضلون معالجته على يد مشعوذ يمارس الطب العربي، الذي لم يعد عربيا.
نافذة:
اليوم يسرع الإسلاميون إلى الحوار بالتي هي أحسن وسببه ليس القناعة بهذه الأفكار بل التحول الكوني والظروف الساحقة التي ألجمت تيار العنف ومناصريه