الأهم فالمهم فالأقل أهمية
يتعرض المغرب دولة وحكومة وشعبا لقصف مكثف من طرف من هم في حكم الأشقاء. قصف عشوائي لم يوفر شتيمة ساقطة إلا ووجهها نحونا، ومن شدة عمق القعر الذي نزلوا إليه لم يوفروا حتى الأعراض، فخاضوا فيها بلا عفة.
وإنها لمفارقة عجيبة أن تسمع هؤلاء الأشقاء ينصبون أعواد المشانق للمغرب مبشرين بانهيار اقتصاده، وفي الوقت ذاته تسمع زعيم حزب فرنسا الأبية يقف في البرلمان الفرنسي منتقدا خطة الوزير الأول للخروج من الحجر الصحي، ردًا على الهمهمات التي سرت في البرلمان عندما قال إن الحكومة مطالبة باتباع نموذج المغرب في تحويل قطاع النسيج لصناعة الكمامات، أن المغرب بلده ومسقط رأسه وهو بلد يستحق احترامهم.
فقد أحيانا الله حتى أصبحنا نسمع شهادات الاعتراف باحترافية المغرب وسبقه في مواجهة الجائحة تأتينا من قادة وزعماء في أوروبا فيما الأشقاء العربان يؤججون ذبابهم لكي يشتم المغاربة ونساءهم فاركين أصابعهم منتظرين انهيار اقتصادنا.
وخلال هذا الوقت ما الذي يشغل بال الرأي العام بالمغرب القاطن بمواقع التواصل الاجتماعي؟
هناك موضوع واحد هو مشروع القانون 20.22، المتعلق باستعمال شبكات التواصل الاجتماعي وشبكات البث المفتوح والشبكات المماثلة، والذي وصفوه بقانون “تكميم الأفواه”.
مشروع هذا القانون ينص على عقوبات سالبة للحرية ضد كل من يدعو إلى مقاطعة منتوج معين، أو يشكك في سلامته، أو يدعو لسحب الأموال من البنوك.
وزير حقوق الإنسان قال إنه بالفعل جرى عرض المشروع على المجلس الحكومي بتاريخ 19 مارس الماضي وتمت المصادقة عليه، لكن شريطة مراجعته على ضوء ملاحظات بعض الوزراء من قبل لجنة تقنية وبعدها لجنة وزارية. مما يعني أنه لا شيء إلى حدود اليوم نهائي، فمشروع القانون تنتظره مراحل أخرى قبل اعتماده، هذا إذا لم تتم إعادته إلى الحفظ .
لكن الأحزاب حولته إلى قميص عثمان وخرجت من بياتها الشتوي وجعلت منه مسألة حياة أو موت، والحال أن المعارضة والأغلبية لديهما الوسائل القانونية والدستورية لإسقاط هذا القانون دون تحويل الأمر إلى منصة لاستعراض العضلات.
موقفي الشخصي هو أن كل شخص لديه الحق في مقاطعة أي منتوج لا يروقه، ومن حقه أن يضع شكاية بأي منتوج يتسبب له في تسمم أو ضرر، كما من حق أي أحد أن يقرر سحب أمواله من بنكه إذا ما قرر ذلك.
هذه حرية شخصية يضمنها القانون والدستور.
المشكل هو عندما يتم تسييس هذا الحق ويخرج عن النطاق الفردي إلى النطاق الجماعي من أجل استهداف خصم سياسي بهدف سياسي، بحيث يتم استعمال الرأي العام وتوجيهه وشحنه ليس لمصلحته بل لمصلحة جهة سياسية معينة تبحث لكي تصفي حسابا سياسيًا مع جهة معينة. وعندما تدخل السياسة تفسد كل شيء.
ومثلًا إلى اليوم لا أحد يعرف من كان وراء حملة مقاطعة 2018، كما لا أحد شرح لنا كيف عاد الناس لاستهلاك المواد التي استهدفتها المقاطعة بشكل عادي كما لو أن لا شيء حدث، ولا لماذا توقفت تلك الصفحات التي كانت تقود الحملة.
مثل هذه النقاشات التي تؤججها الأحزاب السياسية من وراء الستار لكي تغطي على غيابها الصارخ عن ساحة معركة محاربة الجائحة، هي آخر ما يحتاج إليه المغرب اليوم، والمسؤولية يتحملها الطرفان، سواء الذين أخرجوا القانون في هذه الظرفية الحرجة أو الذين سربوا أجزاء منه، لأن المعركة الوحيدة الحالية التي تتطلب تظافر كل جهود وطاقة الدولة والحكومة والشعب والصحافة هي معركة الخروج من حالة الطوارئ الصحية. ففي كل الدول ليس هناك اليوم من نقاش سياسي آخر سوى هذا، فقد أجلوا كل شيء حتى يعرفوا رأسهم من أرجلهم مع هذه الجائحة.
عندما سنخرج سالمين، مع حلول غشت على الأرجح، يمكننا أن نتحاسب حسابا عسيرا. وصدقوني سيكون هناك حساب، لأن هذه الجائحة كشفت عن أبطال ورجال أعمال أسخياء ورجال دولة وسلطة يضحون بحياتهم من أجل حماية أمن البلد، كما كشفت عن جبناء وخونة ورجال أعمال شحيحين ولصوص ومقاولين جشعين استغلوا الأزمة لكي يحصلوا على أشياء ليست من حقهم.
أما الآن في هذه الظرفية العصيبة فالصحافة والدولة والحكومة والشعب يجب أن تكون يدا واحدة وفي خندق واحد لأننا نوجد في لحظة مفصلية مفتوحة على كل الاحتمالات. أي أننا في مركب واحد وليس من حل أمامنا للنجاة إلا الوصول لبر الأمان مجتمعين ومتحدين.
شخصيا أفضل أن يذهب المواطن المغربي إلى الأسواق ويجد كل المنتجات متوفرة ويختار بحرية شراء ما يناسبه ويقاطع ما لا يناسبه، وأن يذهب إلى محطات الوقود ويجدها كلها مزودة بالمحروقات ويختار أيها يناسبه، أفضل ذلك على أن يذهب المواطن إلى الأسواق ولا يجد ما يشتري أو ما يملأ به خزان سيارته.
العالم يعيش لحظة مفصلية وكل دولة لا تفكر في شيء آخر سوى تموين أسواقها لضمان الأمن الغذائي لمواطنيها، وبالأمس فقط قررت الهند أكبر مصدر للأرز وقف تصدير هذه المادة، والتايلاند ثاني مصدر عالمي تبعتها في هذا القرار.
ثم إنه ليست هناك دولة واحدة في العالم لديها هذا التعطش الذي عندنا للدعوة إلى مقاطعة سلع بعينها، والغريب أن أغلب من يدعون لمقاطعة هذه المواد لا يستهلكونها أصلا.
الناس في بقية دول العالم تتمنى فقط أن لا تقاطع السلع الأسواق، أما أن يقاطعوا هم السلع فهذا ما لا يخطر على بالهم، كل من يريد مقاطعة منتوج يفعل ذلك بشكل فردي وحر ودون فرض موقفه على الآخرين.
ورغم ذلك فسن قوانين سالبة للحرية ضد من يدعون للمقاطعة ليس هو الحل، الحل هو توعية الناس بضرورة عدم الانقياد وراء حملات لا يعرفون من يحركها ولصالح من تخاض. عندما سيتعلم الناس طرح هذه الأسئلة على أنفسهم قبل الانضمام لحملة مقاطعة سيبدؤون في اكتساب وعي سياسي يحميهم من الوقوع ضحية معارك السياسيين التي يخوضونها للإيقاع ببعضهم البعض بهدف الوصول للسلطة، مستعملين الرأي العام كفزاعة تارة وتارة أخرى كحصان طروادة.
المغرب اليوم يوجد في مرمى الخصوم، وهم لا يوفرون جهدًا لتبخيس كل ما يقوم به بلدنا لإيصال سفينته إلى بر الأمان، وهم في هذه الحرب لا يولون فينا لا إلا ولا ذمة، ولذلك فلا يجب علينا أن نوفر لهم الرصاص الذي سيرموننا به. نعم عندنا مسؤولون يمارسون الشطط، عندنا رجال سلطة يسيؤون التصرف في بعض المواقف، لكن هذه الممارسات ليست قاعدة بل ممارسات معزولة تحدث حتى في أكثر الدول ديمقراطية. ونحن على الأقل عندنا حرية تمنحك الحق في تصوير مسؤول يمارس الشطط ونشره، أما عندهم فمجرد التفكير في هذا الأمر يقودك إلى معتقلات الجن الأزرق نفسه لا يعرف مكانها.
الخطر كل الخطر هو إصابة معنويات الجنود الذي يسهرون على حماية أمننا في الخطوط الأمامية للمعركة ضد الجائحة بالإحباط.
لأن هذا الجيش المكون من رجال السلطة ورجال الأمن والدرك والجيش والقوات المساعدة ورجال الوقاية المدنية والطواقم الطبية بكل أشكالها هم جيشنا الوحيد ضد هذا الوباء. إذا حولناهم إلى موضوع للسخرية والتندر وأمعنا في تبخيس تضحياتهم، بسبب أخطاء بعضهم، سنجد أنفسنا عزلا في معركة شرسة مع عدو لا قبل لنا به بدونهم.
فليتحمل كل مسؤوليته وليعلم أن مصير البلد أمانة بين يديه، وأن ما يهم اليوم هو أن نخرج سالمين بأقل الأضرار الممكنة حتى نضمن لأبنائنا غدًا أفضل، وحتى لا نعطي الخصوم والحساد فرصة أن يشمتوا فينا.