شوف تشوف

الرأي

الأمة المفكرة أو الأمة المستهلكة؟ (2/2)

فالوجود التاريخي للأمة أسبق من الوجود السياسي، لأنها تقوم على ثقافة مشتركة ولغة، وانتماء إلى الأرض. ثم قوانين ظاهرة وهيئة تصدر عنها تلك القوانين، ومن أجل أن تزدهر الأمة لا كوجود قانوني وصوري، بل كوجود تاريخي، يجب أن تتوفر شروط جوهرية؛ منها شرط الأعمال، بمعنى الزراعة، والحرف، والصناعة، والتجارة، والفنون، وهناك أيضا شرط الوظائف بمعنى الجيش والأمن والإدارة والأحزاب والجمعيات هكذا تكون الأعمال والوظائف تمثل الوجود التاريخي للأمة، ومن المحتمل أن يكون هذا القلب التاريخي لمفهوم الأمة، قد يحررها من هيمنة المقدس، التي تجعل مصير الأمة في يد وحداني التسلط بلغة ابن رشد.
في قلب هذا التضاد بين الوجود والعدم، ينبثق الوجه البارز للأمة، إنه الشعب: «فإن الشعب يحمل بنفسه الشروط الجوهرية للأمة، حتى وإن لم يكتسب بعد إطاره القانوني.. هنالك سلسلة من القوانين بعضها يطبق على النبلاء، والبعض الآخر يطبق على الشعب». وقد يدفعنا هذا التحليل للمعطيات السياسية إلى القول بأن المغرب ليس أمة بما أنه يفتقر إلى الشروط الصورية والقانونية للأمة، أي يفتقر إلى قوانين كونية لحقوق الشعب، وإلى مشرع، بالرغم من أن هناك جماعة من الأفراد بمثابة الشروط التاريخية لوجود أمة مغربية. وهناك من سيعترض على هذه الصيغة الفلسفية لمفهوم الأمة معللا ذلك بقول الفكر السياسي: إن الشعب أمة كاملة، ولعل هذه الصيغة تريد أن تقول إن مفهوم الأمة يستمد حضوره من الانتماء الطبقي للأفراد إلى العادات والتقاليد، ولكن هذا ليس كافيا لاستيفاء الحقيقة التاريخية للأمة، كما أن الشعب وحده ليس هو الشرط التاريخي لوجود الأمة، فأين نجد إذن النواة التاريخية للأمة؟ ومتى يصبح الشعب شعبا؟
في الشعب، لأن الشعب هو الشرط التاريخي لوجود الأمة: «ولكن هذه الأمة ستصبح في القانون، متفقة ومتطابقة مع الدولة، الشعب أمة كاملة، وما يشكل الأمة موجود في الشعب». ولذلك فإن الشعب المتحرر يقول: كل ما هو أمة هو نحن، فهذه الصيغة السياسية ينبغي تعميمها على أفراد الشعب في المدارس والجامعات، وعبر وسائل الإعلام. لأنه قد حان الوقت ليجعل من الشعب كائن سياسي، وإلا سيظل مجرد حيوان يعيش تحت هيمنة الأعيان والسلطة القهرية، هكذا ستصبح العلاقة عكسية لما كان يميز خطاب الأحزاب المخزنية، حيث تنتقل من الخاص إلى العام، أو من الجزئي إلى الكلي. هكذا سنطالب بإعادة ترميم الجسد الاجتماعي، انطلاقا من التكافؤ بين الشعب والأعيان في وحدة قانون الدولة، لأن ما سيحدد الأمة في ظل هذا الأفق الجديد ليس علاقتها بالتراث أو بالهيمنة السياسية، ولكن علاقتها بالدولة المدنية. فهذه العلاقة العمودية التي تذهب من أجساد الأفراد التي تحتمل إنشاء الدولة إلى الوجود الفعلي للدولة ذاتها، هو الذي سيميز الأمة بمعناها الحديث، فالأمة ستكون قوية كلما توفرت على دولة عقلانية في حالة الولادة، تتخلص من الشعائر والطقوس، ولا ينبغي أن تلبس ثوب عقيدة بعينها، كأن نقول الدولة الإسلامية مثلا.
الأمة والدولة، وجهان لحقيقة واحدة وهي الشعب. الذي يخاطب هؤلاء الغرباء عن مشاعره وعاداته وهم صم لا يسمعون إلى كلماته في الحرية والمساواة، كما لو كانت لغته غير مفهومة عندهم، وكما لو كان الحاضر ليس سوى لحظة للنسيان، إنه بالعكس اللحظة التي ستنفجر فيها الحقيقة، حيث يظهر الظلام والعتمة في وضح النهار. إنها لحظة ضياع ثنائيات العبيد والسادة، من يملك ومن لا يملك، يطبق القانون على الجميع، هكذا ستظهر أمة حرة تملك السيادة الشعبية، وتدافع عن حدودها.
هذه هي اللحظة التي سيصبح فيها الشعب أمة متحررة من الهيمنة والعبودية، ولن يتسنى له ذلك إلا بعد الانصهار في الذات الفاعلة التي تخوض المعارك والصراعات وتتذوق الانتصار والهزائم والدم الذي جف في نص القانون، الذي يشهد على وجود تجاوزات ارتكبت في حق الشعب باسمه وبلسان السيادة، ولعل هذا الخطاب الفلسفي الذي تعمل فيه الحقيقة بوصفها سلاحا من أجل انتصار الشعب في حركته الحاسمة، فينبغي عليه أن يتشبث بموقعه النقدي، ولن يرضخ إلى مطالب الأعداء الذين قاموا بحرب الكل ضد الكل للحفاظ على هيمنتهم الخرساء، التي تدفعهم إلى الغزو، والاحتجاج، والسرقة والاغتصاب، والعنف الظالم، وجميع أشكال القمع السياسي، بيد أن قيام الدولة حسب هوبز لا يتم إلا بعد انتهاء الحرب، لأنه في حالة اللاحرب تؤسس الدولة المدنية وهي التي تمنح صورة ساطعة هكذا ستنتهي الانتفاضات والمواجهات بين أفراد الشعب، لأنه سيصبح شعبا واحدا تشكل الأمة حقيقته، ويستحق أن يحتفل بعيد الأمة كل سنة. لكن هل يجب اعتبار الأمة تتويجا لبناء الدولة الديمقراطية التي تحكم بالقانون الوضعي، وليس القانون الديني؟ وهل يتجه المغرب نحو هذا التوجه؟ أم أنه يدور في دائرة الدوائر؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى