الأمة المفكرة أو الأمة المستهلكة؟ (1/2)
سيرا وراء هذا الأمل الذي يلمع في هذا الأفق المظلم، يتعين علينا أن نعيد صياغة مفهوم الأمة انطلاقا من الازدهار الفكري والثقافي وليس بواسطة الاستهلاك للمواد الأولية. على الرغم من أننا نقتسم مع الفكر نفس المعاناة، ونشترك معه في القدر عينه، فقدر المفكرين حزين، وبخاصة الذين يتشوقون إلى الانتماء إلى أمة عظيمة، تحميهم من الضياع في العدمية، فكل مفكر عظيم يكون بالضرورة منتميا إلى أمة عظيمة، تتقاسم معه نفس المصير، وعشق الأرض واللغة، باعتبارها مأوى الوجود ومسكن ماهية الإنسان، لكن هل بإمكاننا بناء أمة عظيمة، انطلاقا من فكر عظيم ووحدة في المصير والأرض؟ ألا نكون كمن يحلم في واضحة النهار؟ أيتعين علي أن أكون دائما المتحمس لهذه الأحلام التي لن تتحقق في أمة يائسة؟
الواقع أننا نخاطب الأموات، لأن أرواحهم قد انتقلت إلى السماء قبل الأوان، وظلت أجسادهم تتحرك بحثا عن القوت اليومي، من خلال أحزاب الأولياء والأضرحة، التي حولت المجتمع إلى سوق للاستهلاك وعينت وزراء للبحث عن الحبوب والسكر واللحوم، فبدلا من التوجه إلى رفع المجتمع نحو تلك الآفاق الجمالية والثقافية، حيث تنمو روح العباقرة، انحدرت به إلى أقصى مراتب الحيوانية، إذ حولته إلى مجرد مجتمع منحط يعبد اللذات الحسية. هكذا لم يعد يفكر في إبداع مفهوم جديد للأمة، لأن: «الأمة هي المجتمع الإجمالي المتكون من أناس يعتبرون أنفسهم بمثابة أفراد». وبعبارة أكثر وضوحا، فالأمة هي التي تمثل التناغم بين الوحدة السياسية والثقافة، لأنها تكون دائما في أمس الحاجة إلى ثقافة وطنية، تتجاوز الثقافات التقليدية التي تقاوم التقدم. هكذا نجد أن الأمة تعتمد على الدولة المدنية من أجل إنتاج ثقافة وطنية عن طريق المدرسة والجامعة والمجتمع المدني.
وربما يكون هذا التصور العقلاني الحداثي ظل مهمشا عندنا، بل حكم عليه بمصارعة القوى الظلامية، والأحزاب المخزنية التي تدعي وضع السياسة في مصلحة الأمة والشعب، كما لو كان هذا العمل يسبق الدولة المدنية الحديثة في الوجود، وينسى هؤلاء أن تجربة الأمم المتقدمة، قد جعلت الدولة هي التي تبدع الأمة، ذلك أن الدولة حينما تكون عقلانية، تنتج عنها أمة عقلانية، وعندما تكون خرافية يكون مصير الأمة خرافيا. لأن الأمة هي الشكل السياسي للدولة، وبعبارة أرسطو فالدولة مادة والأمة صورة، ولذلك لا يجب أن يتم تسيير الصورة من خلال المادة، بل تصنيعها فقط، وبخاصة وأن الدولة تتشكل من مكونات ثقافية مختلفة. ومن الصعب ترميم الثقافة الوطنية بواسطة هذه المكونات. وبإمكانها أن تصارع الخصوم باسم استقلال الأمة. فهل تستطيع الأمة أن تخرج إلى الوجود بعيدا عن تلك المعايير التي أشرنا إليها في ما تقدم؟ وبعبارة أخرى، هل بإمكان الأمة أن تضم عددا كبيرا من الدول، وأن تتشكل انطلاقا من وحدة العقيدة أو اللغة؟
من المستحيل أن يتحقق مفهوم الأمة سياسيا أو ثقافيا إن لم تكن هناك حدود معترف بها دوليا، وسكان يجمعهم المشترك الثقافي، فالحلم بتحقيق الأمة الإسلامية، يجد مقاومة في الواقع، حيث أن الحروب والصراعات بين الدول المنتمية إلى فضاء العقيدة لا يتوقف، بل يظل مستحيلا، كما أن الرهان على وحدة اللغة قد أظهرت تجربته استحالة تماسك الأمة العربية، ولذلك يظل التحديد السياسي للأمة منحصرا في جماعة من الأفراد منخرطين في الضرورة التاريخية، ويتشكل الوعي الذاتي من خلال الوعي الجمعي. الذي يستثمر التراث الثقافي لفائدة المستقبل والتقدم والحداثة، بفتحها لثقافات بلادها على رياح التنوير والعقلانية، والعلوم التقنية، إذ يجب أن ينصهر مصير الأمة في مصير الحداثة، لأن الاعتقاد بأن الحداثة مجرد استعمار، أو غزو لثقافة أجنبية، يقود إلى إحداث ثقوب في كينونة الأمة.
ولعل هذا بالذات ما دفع بالحركات الإسلامية التي عملت على تجنيد نخب من طلبة العلوم الطب والصيدلة والهندسة في مواجهتها للحداثة، بأدوات الحداثة، لأن هذا الصراع مع الحداثة الليبرالية يتخذ من التراث الديني سلاحه، ولذلك يبرز المفهوم القومي للأمة التي تقاوم كل غزو ثقافي، مع العلم أنها تستغل وتستثمر منتوجاته التقنية والغذائية والصحية، إنها مفارقة غريبة، قد ساهمت في بناء الدولة المدنية التي ستقوم بترميم هوية الأمة على المفهوم السياسي، وليس على المفهوم الديني الذي يقرأ التراث بالتراث، ويدير ظهره للحداثة. فكيف يمكن اعتبار الحداثة استعمارا؟ وكيف يمكن النظر إلى الأمة كأثنية متعصبة تهدد الثقافة الوطنية؟ وكيف يمكن الجمع بين الحداثة السياسية وبناء الأمة؟ وهل بإمكاننا إعادة التشكل السياسي لفكرة الأمة وربطها بالثورة الثقافية؟
من أجل أن تصبح عندنا أمة، لابد من تأسيس دولة مدنية بالمعنى السياسي للكلمة، كما يجب أن يتوافر عاملان: قانون مشترك، وتشريعات موحدة: «وهذا يعني أنه لكي تكون لدينا أمة، ليس من الضروري حتى وجود الحكومة. فقبل أن تتشكل الحكومة، وقبل تمثيل السلطة هناك وجود للأمة، بشرط أن يكون لها قانون، وهيئة لها الحق في التشريع وسن القوانين».
فالوجود التاريخي للأمة أسبق من الوجود السياسي، لأنها تقوم على ثقافة مشتركة ولغة، وانتماء إلى الأرض. ثم قوانين ظاهرة وهيئة تصدر عنها تلك القوانين، ومن أجل أن تزدهر الأمة لا كوجود قانوني وصوري، بل كوجود تاريخي، يجب أن تتوفر شروط جوهرية؛ منها شرط الأعمال، بمعنى الزراعة، والحرف، والصناعة، والتجارة، والفنون، وهناك أيضا شرط الوظائف بمعنى الجيش والأمن والإدارة والأحزاب والجمعيات هكذا تكون الأعمال والوظائف تمثل الوجود التاريخي للأمة، ومن المحتمل أن يكون هذا القلب التاريخي لمفهوم الأمة، قد يحررها من هيمنة المقدس، التي تجعل مصير الأمة في يد وحداني التسلط بلغة ابن رشد.
في قلب هذا التضاد بين الوجود والعدم، ينبثق الوجه البارز للأمة، إنه الشعب: «فإن الشعب يحمل بنفسه الشروط الجوهرية للأمة، حتى وإن لم يكتسب بعد إطاره القانوني.. هنالك سلسلة من القوانين بعضها يطبق على النبلاء، والبعض الآخر يطبق على الشعب». وقد يدفعنا هذا التحليل للمعطيات السياسية إلى القول بأن المغرب ليس أمة بما أنه يفتقر إلى الشروط الصورية والقانونية للأمة، أي يفتقر إلى قوانين كونية لحقوق الشعب، وإلى مشرع، بالرغم من أن هناك جماعة من الأفراد بمثابة الشروط التاريخية لوجود أمة مغربية. وهناك من سيعترض على هذه الصيغة الفلسفية لمفهوم الأمة معللا ذلك بقول الفكر السياسي: إن الشعب أمة كاملة، ولعل هذه الصيغة تريد أن تقول إن مفهوم الأمة يستمد حضوره من الانتماء الطبقي للأفراد إلى العادات والتقاليد، ولكن هذا ليس كافيا لاستيفاء الحقيقة التاريخية للأمة، كما أن الشعب وحده ليس هو الشرط التاريخي لوجود الأمة، فأين نجد إذن النواة التاريخية للأمة؟ ومتى يصبح الشعب شعبا؟
في الشعب، لأن الشعب هو الشرط التاريخي لوجود الأمة: «ولكن هذه الأمة ستصبح في القانون، متفقة ومتطابقة مع الدولة، الشعب أمة كاملة، وما يشكل الأمة موجود في الشعب». ولذلك فإن الشعب المتحرر يقول: كل ما هو أمة هو نحن، فهذه الصيغة السياسية ينبغي تعميمها على أفراد الشعب في المدارس والجامعات، وعبر وسائل الإعلام. لأنه قد حان الوقت ليجعل من الشعب كائن سياسي، وإلا سيظل مجرد حيوان يعيش تحت هيمنة الأعيان والسلطة القهرية، هكذا ستصبح العلاقة عكسية لما كان يميز خطاب الأحزاب المخزنية، حيث تنتقل من الخاص إلى العام، أو من الجزئي إلى الكلي. هكذا سنطالب بإعادة ترميم الجسد الاجتماعي، انطلاقا من التكافؤ بين الشعب والأعيان في وحدة قانون الدولة، لأن ما سيحدد الأمة في ظل هذا الأفق الجديد ليس علاقتها بالتراث أو بالهيمنة السياسية، ولكن علاقتها بالدولة المدنية. فهذه العلاقة العمودية التي تذهب من جسد الأفراد التي تحتمل إنشاء الدولة إلى الوجود الفعلي للدولة ذاتها، هو الذي سيميز الأمة بمعناها الحديث، فالأمة ستكون قوية كلما توفرت على دولة عقلانية في حالة الولادة، تتخلص من الشعائر والطقوس، ولا ينبغي أن تلبس ثوب عقيدة بعينها، كأن نقول الدولة الإسلامية مثلا.
الأمة والدولة، وجهان لحقيقة واحدة وهي الشعب. الذي يخاطب هؤلاء الغرباء عن مشاعره وعاداته وهم صم لا يسمعون إلى كلماته في الحرية والمساواة، كما لو كانت لغته غير مفهومة عندهم، وكما لو كان الحاضر ليس سوى لحظة للنسيان، إنه بالعكس اللحظة التي ستنفجر فيها الحقيقة، حيث يظهر الظلام والعتمة في وضح النهار. إنها لحظة ضياع ثنائيات العبيد والسادة، من يملك ومن لا يملك، يطبق القانون على الجميع، هكذا ستظهر أمة حرة تملك السيادة الشعبية، وتدافع عن حدودها.
هذه هي اللحظة التي سيصبح فيها الشعب أمة متحررة من الهيمنة والعبودية، ولن يتسنى له ذلك إلا بعد الانصهار في الذات الفاعلة التي تخوض المعارك والصراعات وتتذوق الانتصار والهزائم والدم الذي جف في نص القانون، الذي يشهد على وجود تجاوزات ارتكبت في حق الشعب باسمه وبلسان السيادة، ولعل هذا الخطاب الفلسفي الذي تعمل فيه الحقيقة بوصفها سلاحا من أجل انتصار الشعب في حركته الحاسمة، فينبغي عليه أن يتشبث بموقعه النقدي، ولن يرضخ إلى مطالب الأعداء الذين قاموا بحرب الكل ضد الكل للحفاظ على هيمنتهم الخرساء، التي تدفعهم إلى الغزو، والاحتجاج، والسرقة والاغتصاب، والعنف الظالم، وجميع أشكال القمع السياسي، بيد أن قيام الدولة حسب هوبز لا يتم إلا بعد انتهاء الحرب، لأنه في حالة اللاحرب تؤسس الدولة المدنية وهي التي تمنح صورة ساطعة هكذا ستنتهي الانتفاضات والمواجهات بين أفراد الشعب، لأنه سيصبح شعبا واحدا تشكل الأمة حقيقته، ويستحق أن تحتفل بعيد الأمة كل سنة. لكن هل يجب اعتبار الأمة تتويجا لبناء الدولة الديمقراطية التي تحكم بالقانون الوضعي، وليس القانون الديني؟ وهل يتجه المغرب نحو هذا التوجه؟ أم أنه يدور في دائرة الدوائر؟