الأقوياء والضعفاء بالغابة العالمية
بقلم: خالص جلبي
العالم الذي نعيش فيه اليوم غابة. وكما كان هناك ملك يحكم الغابة؛ فأمريكا اليوم هي أسد هذه الغابة. وكما ينص قانون الغابة أن (القوي يأكل الضعيف)، كذلك الحال في غابة الأمم المتحدة. وبالطريقة التي يتفاهم بها حيوانات الغابة، فيبتلع الأقوياء الضعفاء، كذلك الحال في الغابة العالمية. روسيا تبتلع الشيشان، والعراق يلتهم الكويت، وأمريكا بدورها تلتهم العراق. كما في أعماق المياه، السمكة الكبيرة تبلع في جوفها الصغيرة. وكما تنوعت الحيوانات في السفاري، التي تسرح فيها الضواري، كذلك الحال في الغابة العالمية اليوم. بين أسد أمريكي، وفيل هندي، ودب روسي، وتنين صيني، وذئب ياباني، وخنزير كوري شمالي، ونسر أوروبي، وضبع إيراني، وذئب تركي، وثعلب صهيوني، وجمل عربي، وقرد إفريقي. وفي عالم (الحيوان) يتعرف المرء بسرعة على الكائن من جلده وأنيابه، ولكن في عالم (الإنسان) يبتسم الرأسمالي بأسنان بيضاء، ويعلق كرافتة حمراء، ويلبس نظارة «أرماني»، ويكذب بقدر جبل. وصدق (جورج أورويل) في كتابه عن المزرعة (The Farm)، أن الخنازير هم الذين سيديرونها؛ فيسرقون بيض الدجاج، ويسخرون الحصان لبناء طاحونة، ويسيطرون على الجميع، بكلاب شرسة مدربة على العضاض. ومن نسل الخنزير الكبير، تظهر ذرية خنازير تملأ المزرعة.
وكما يقول (روبرت غرين) في كتابه «شطرنج القوة» إن «عالم السلطة يتحرك بآلية الغابة، ففيه الذين يعيشون بالصيد والقتل، مقابل أعداد هائلة من المخلوقات، كالضباع ونسور الجيف التي تعتاش من صيد الآخرين!». وعندما يموت ابن الأسد تبكي كل الغابة، وتزدحم الوفود على باب الأسد للتعزية، وإذا مات الجرذ فلا يسمع أحد. وما يصدر عن أمريكا حاليا هو الذي يسود، حتى المصطلحات، فهم الذين عمموا كلمة (العولمة) و(الأصولية) و(الشفافية) بدون شفافية؛ فهم الذين يفصلون ونحن الذين نلبس. وكما يقول (ابن خلدون) في مقدمته: «إن المغلوب يقلد الغالب للاعتقاد بكماله؛ فهو يقلده في شعاره وزيه ونحلته وسائر عوائده». ومع أن أمريكا تمارس الإرهاب ضد كل العالم، منذ أن نشأت بدم الهنود؛ فإن مصطلح (الإرهاب) يتبادله الجميع وفق لوغاريتم أمريكي، فالقرصان يزعج بحرا، أما الإسكندر الأكبر؛ فهو ينهب كل العالم ويسمى إمبراطورا. وعندما كانت روما تصلب سبارتاكوس، كان في نظرها إرهابيا يستحق الصلب مع 7 آلاف شقي، خطر في بالهم الانتفاضة ضد جبروت روما؛ فصلبوا على طول الطريق بأشنع ميتة، مثلا لكل من يفكر في مقاومة الإمبراطور الدموي. وعندما وقع (ترومان) بقرار واحد على مسح مدينتين يابانيتين، وكانت واحدة أكثر من كافية اعتبر بطلا قوميا، مع أنه قتل ربع مليون إنسان في ساعتين. والتاريخ يكتبه الأقوياء. و(هتلر) اليوم مجرم، ولكن لو سبق فامتلك السلاح النووي، وفاز في الحرب لأخفى جرائم (أوشفيتز)، وقرأنا نسخة مختلفة للتاريخ. ولو انتصرت ألمانيا واليابان في الحرب الكونية لما تغير العالم كثيرا، باستثناء عدم ولادة إسرائيل، وبقاء العرب يقتل بعضهم بعضا. وفي معركة (بالاكلافا) في (القرم) عام 1854م كان الأتراك هم الذين يقاومون الروس بأدوات بدائية، ومن انهزم كانت الخيالة البريطانية، ولكن ما نشر في تلك الأيام أن التركي حمار والبريطاني أسد مغوار. وبعد قرن ونصف القرن يعاد الاعتبار للأتراك، ولكن من يسمع أو يستفيد في غابة يحكمها الأقوياء ويسودها الجنون. وحينما يصاب المريض بارتفاع حرارة بسبب الملاريا، قد تنفعه حبة الأسبرين، وقد تثقب أمعاءه، ولكن الحرارة سوف تعود، ما لم يأخذ الدواء النوعي مثل (الكينين). والعالم اليوم لم يعد كما كان من قبل، فكما أدخلت أمريكا الرعب على كل الناس؛ فقد أصيبت بالداء نفسه، فلم تعد أمريكا التي نعرف. وتراجعت الحريات، ويتعلم الأمن الأمريكي دروسا من المخابرات السورية. ويبقى العدل أرخص من كلفة ديناصورات الأمن.
جاء في كتاب «أفضل الخرافات» لـ(جان لا فونتين 1621 ـ 1695م) عن اعترافات الأسد والحمار عندما ضرب الطاعون الغابة، بأن الجميع وقف يتضرع إلى الله أن يرفع عنهم البلاء. فقال الأسد: يجب أن نقوم بالاعتراف بذنوبنا فنقدم الأضاحي. وسأكون أول المعترفين: أعترف لكم بأنني لم أقاوم شهيتي، فأكلت الكثير من الخرفان. مع أنها لم تؤذني قط، بل لقد عرف عني أنني كنت أتذوق لحوم الرعاة، وكأنها فطيرة محشوة؛ فإذا دعت الحاجة فأنا مستعد للموت، ولكنني أظن أن على الآخرين أيضا أن يعترفوا بذنوبهم. همهم الجميع: نعم .. نعم. قفز الثعلب وقال: كيف تقول ذلك يا ملك الغابة. إنك يا سيدي ملك جيد، وإن وساوسك هذه لمرهفة الإحساس، أكثر مما ينبغي، ولعمري إن الخراف قطعان نجسة فظة، تستحق أن تفترسهم ومعهم الرعيان. هكذا تكلم الثعلب، فضجت الغابة بالهتافات بحياة ملك الغابة. ولم يجرؤ أحد على مراجعة ذنوب النمر والدب والتنين والثعلب والضباع، فقد اتفق الجميع أن كلا منها قديس لا يلمس. وهنا وقف الحمار فقال: يا قوم أريد أن أعترف: لقد مررت بجانب دير فأعجبني اخضرار العشب؛ فقضمت منه قضمة، بعرض لساني وملء فمي، وكذلك سولت لي نفسي .. بصراحة .. وهنا ارتفعت أصوات الاستهجان، تندد بالحمار المجرم، وشهد (ذئب) و(ثعلب) عندهما علم من الكتاب عليه: أيها الحمار اللعين؛ لا تتابع فقد عرفنا مصدر البلاء. وشهدت بقية حيوانات الغابة أن الحمار فعلا منكر الصوت، قبيح الرائحة، متقرح الجلد، فظ الأخلاق، بليد الطباع، لا يحسن التصرف؛ فحكموا عليه أنه لا يصلح لشيء سوى أن يكون طعاما للمشنقة. فكم هو بغيض الاستيلاء على عشب الآخرين. ولن يكفر عن هذا الجرم الشنيع سوى موته، فاقتيد الحمار إلى الموت، وهو ينهق بأعلى صوته. ثم إن حيوانات الغابة وقفت إجلالا للأسد دقيقة صمت، فقد حلت المشكلة.