شوف تشوف

الرأي

الأساس الأخلاقي لفكرة اللاعنف

بقلم: خالص جلبي

 

مقالات ذات صلة

 

 

استطاع غاندي إنهاء الاحتلال البريطاني من الهند، دون أن يموت خمسة ملايين كما حدث في فيتنام. ليس هذا فقط، بل باحترام الخصم وامتلاء القلب إعجابا بهذا الرجل بتطويره طريقة عجيبة ذات محتوى أخلاقي، أن الخصم يمكن هزيمته من داخل ضميره أكثر من قتله في ساحات القتال. بل كسبه قبل هزيمته، في الوقت الذي مات من الأفغان أكثر من مليون وتشرد الملايين، وفي النهاية انتقلوا من يد الروس إلى يد الأمريكان فلم يحصدوا إلا دمارا واستعمارا. ومات في البوسنة مئات الآلاف من كل الملل في تفكك يوغسلافيا. في الوقت الذي تفككت تشيكوسلوفاكيا إلى جمهوريتين، بدون أن يقتل جندي واحد. واليوم تمشيان في طريق الوحدة من جديد، تحت راية الوحدة الأوروبية. ومع نهاية عام 2002م تم الاحتفال بارتفاع رقم دول الوحدة الأوروبية إلى خمس وعشرين، بدون مدافع نابليون أو دبابات هتلر وحروب بوش. وليس تحت شعار ألمانيا فوق الجميع، بل ألمانيا مثل الجميع. وهي تذكر بكلمة السواء التي أطلقها النبي صلى الله عليه وسلم إلى ملوك الأرض، «تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله». وفي يوم زحفت تركيا ثلاث مرات على قلب أوروبا لقهر الكافرين بسيف السلطان، واليوم تتقدم تركيا بكل توسل إلى أوروبا أن تفتحها، فتقبل انضمامها إلى عضوية الوحدة الأوروبية.

 إن اللاعنف طريقة جديرة بالتأمل فهي تقوم على محتوى أخلاقي ومبدأ اقتصادي في تحسين أفضل مردود بأقل التكاليف، ويمكن اختصارها بحزمة من الأفكار التأسيسية:

أولا: العنف هو سعي إلى مصادرة حق الآخر في الوجود كذات مادية، وهذا هو العنف المادي. أو كذات فكرية وهو العنف الرمزي، سواء كان فعلا مباشرا، أو رد فعل على عنف الآخر.

ثانيا: العنف يبدأ فكرة في الذهن أو شعورا في القلب، من تحقير الآخر والانتقاص منه والاستخفاف به، واعتباره الأدنى الذي يجب تطهير الأرض من دنسه، وينتهي دماء على الأرض وفسادا في البر والبحر.

ثالثا: العنف لا يحل المشاكل إلا بتعقيدها أكثر وتوليد المزيد منها، ولا يقود إلا للمزيد من العنف، ولو على المستوى الزمني البعيد. وفي قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا. والسلم لا يؤدي إلا إلى مزيد من السلم، ولو على المستوى الزمني البعيد. ويعلمنا القرآن قاعدة ذهبية في التعامل، إن استطعنا أن نصعد إلى مستواها فنحول العدو إلى صديق حميم «ادفع بالتي هي أحسن، فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم». ولكن ما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم.

رابعا: في عالم الطفل قد نستطيع ردعه كطريقة تربوية فاشلة بضربه، فيتوقف عن ممارسة بعض السلوكيات، ولكنه داخل نفسه لن يتوقف عن ممارستها، ما لم يقتنع بذلك ويعود إلى السلوك نفسه، بمجرد زوال التهديد والعقاب، ويذكر القرآن بهذه السيكولوجية «ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه»، أي أن المنعكس الشرطي النفسي قائم. وبمجرد زوال الردع ترجع النفس إلى الممارسة السلوكية السابقة. وهذا يعني في حقل التغيير أن العنف لا يغير، لأنه لا يلامس الوتر الذي يجب أن يعزف عليه أهل الإصلاح والتجديد، وهو وتر تغيير ما بالأنفس. بكلمة ثانية تشبه القانون الرياضي: هناك عنف ليس هناك تغيير. هناك سلم واقتناع هناك تغيير في السلوك.

خامسا: هناك علاقة تلازمية بين العلم والسلم، فكلما ازداد الإنسان نضجا ورشدا وتسلح بالعلم مال إلى حل المشاكل سلميا، والعكس بالعكس. وهذا يعني أننا نأخذ بالإقناع أفضل ما عند الإنسان، وبالإكراه أسوأ ما عنده. ولا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي. ولكن تاريخنا كله كان غيا قام على السيف والإكراه وما زال. ولم نشم رائحة الشورى بعد الحياة الراشدية لحظة من نهار، حتى انقلبت محاور الأرض فأشرقت الشمس من مغربها خلف بحر الظلمات، فسمعنا عن الديموقراطية. واليوم يتمسح الجميع بهذا الكائن، مثل الأصم الذي يريد التحدث نيابة عن آخر مهمته الكلام.

سادسا: وصل عالم الكبار إلى إدراك هذه الحقيقة مرغما وبمعاناة شديدة، وبكلفة مريعة من الضحايا والدماء، ولكنه ما زال متخلفا أخلاقيا، ويبيع السلاح إلى الدول الفقيرة أو الجاهلة، مع معرفته الأكيدة أنها عتاد ميت، وهكذا فإن الحرب توقفت ولا تستخدم بين الأقوياء في الشمال، بل هي أسلوب المتخلفين أو لتأديب المتخلفين. ولكن الوهم ما زال قائما أنه يمكن الاستمرار في حل المشاكل بالحرب، كما ظن ميلوسوفيتش وبوش.

سابعا: الحرب تهدف إلى كسر إرادة الخصم، أي إلغاء الآخر، وبالتالي فإن نهاية الحرب هي تحطم إرادة وبقاء إرادة وحيدة تملي القرار في الساحة، وهذا خطر على الطرفين، فوسط من هذا النوع يولد كائنين مريضين، مستكبر ومستضعف. وهذا يفتح دورة الصراع من جديد، وهي أم المشكلات الإنسانية، ومن أجلها جاء الأنبياء. فهذه سبع أفكار تأسيسية في المغزى الأخلاقي العميق لفكرة اللاعنف.  

 

نافذة:

العنف لا يحل المشاكل إلا بتعقيدها أكثر وتوليد المزيد منها ولا يقود إلا للمزيد من العنف ولو على المستوى الزمني البعيد وفي قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا والسلم لا يؤدي إلا إلى مزيد من السلم ولو على المستوى الزمني البعيد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى