الأرض الملعونة
جهاد بريكي
لم يكن ممكنا أن نتحمل كل مآسينا دون البحث عن شماعة نعلق عليها كل شيء، ابتداء بعقد الطفولة وانتهاء بخرف الشيخوخة. من السبب وراء ما وقع وما سيقع!؟ من المسؤول عن ضعفنا وخوفنا وفشلنا وانهزامنا!؟ من الذي خطط وتآمر علينا لنسقط!؟ نقضي الأيام نهارها وليلها نفكر في المتهم الذي تجب محاكمته.
أحيانا كثيرة نحمل والدينا كل أسباب تعاستنا، تهاونهم في الاهتمام بنا يصبح سببا مقنعا لانسحابنا من معركة الحياة. نهمس مرتاحين أن خوفهم علينا وتقاعسهم في الاقتناع بأحلامنا كانا كافيين ليحولانا لكائنات مهتزة، متكاسلة. نوبخهم لأنهم جاؤوا بنا دون أن يتعلموا فنون الإقناع وتقنيات التواصل. نلوم عدم تمكنهم من ولوج المدارس والمعاهد العليا وقلة مواردهم وانعدام ميراثهم. ونجلس في مقهى الحي الغاص بأشباهنا نحتسي القهوة والعتاب. هذا العتاب هو المهرب الوحيد الذي نجده سهلا أمامنا لنسكت الوعي المختنق بصراخه.
نفشل في الحب ونرمي بثقل التجربة المريرة على الطرف الثاني، كيف أنه تهاون في الحفاظ على هذا الحب الكبير، وكيف فرط في الود الذي كان، وأنه من تغير وغير العالم من حولنا وأوصلنا لحافة الانهيار. نرمي الفشل والبكاء واللوم والسباب عليه لأنه لم يلتزم بوعده. ولم يفعل المستحيل لاستمرار الحياة بيننا. تريحنا هذه الاعتقادات وتسمح لنا بتحمل أنفسنا وكوارثنا والإيمان ببراءتنا من كل خطيئة. تحفظ لنا راحة الضمير، وهدوء النفس والقدرة على مواصلة العبث.
تعليق أخطائنا على شماعة ما، الظروف والطقس والقطار ونادل الحانة، وبائعة الكبريت. منجاتنا التي نهرع إليها كقطط جائعة نحو علبة تونة شهية. نحن نرفض رفضا تاما رؤية المرآة، نكره المرايا كما نكره تقبل الضعف، الفشل، الخيبة، الجبن والمسؤولية. تقتلنا الفكرة التي مفادها أننا المسؤولون الأساسيون عما يحصل، وأننا لسنا دمى تمت برمجتها ودفعها دفعا نحو القاع، نحن القاع الذي ابتلع الحلم والحالمين.
وأنا طفلة ينبت الغرور معي كظلي، كلما ارتطمت بالأرض جاءت أمي وضربت بقبضة يدها الأرض لأنها فشلت في تجنبي وكانت سببا في جرحي الصغير. وكنت أصمت عن البكاء وأرتاح لأن الأرض الملعونة أخذت عقابها. ثم كبرت وصرت أبحث عن الأرض الملعونة دائما أمام كل خيباتي وانكساراتي. الأرض كانت قطارا انطلق قبل وصولي، أو أستاذا احترم مقرر الامتحان دون طلب رأيي، أو حبيبا انتفض في وجه عجرفتي، أو صديقة لم تعد تتحمل سخريتي. أو حلما لم يمنحني فرصة تحقيقه. كنت أجد الأرض الملعونة التي تتسبب في حزني، وأسدد نحوها لكمات اللوم والعتاب والتجريح والجلد. وأنتشي بمظلوميتي وبراءتي، أشرعن لدموعي وأعطي لحزني الحق الكامل في الاستيطان .
نتلهف لخطب الوعاظ والمصلحين والمعالجين، نسمع منهم كيف يكون الفاشل والضعيف، السام والمستغل. ونربط الأوصاف بكل من مر ببالنا، هذا فلان وهذه علانة. الآخرون هم المعنيون بكل هذه الخطب وهم المتهمون في كل هذه القضايا، ونحن شهود عيان نكتفي بوضع الشخص المناسب في الخانة المناسبة. ولا خانة لنا. نحن آباء الخانات المؤسسون، الرائعون الوادعون، اللطفاء غاية اللطف، والبسطاء غاية الرقة.
يومها سمعت شخصا متخصصا في علم السلوك يصف نوعية شخصية ما، يحلل عيوبها ويفكك عقدها ويفتك بأسرارها، في بادئ الأمر كنت أطرق السمع علي أستعين بمعلومة قيمة ألصقها في مقالة ما لإعطائها صبغة علمية محترمة. ثم سرعان ما تعرفت في التحليل على شخص ما، أعرفه جيدا، والمختص ينطلق في براهينه كصاروخ إيراني لا يخشى العقوبات، وضعت قلمي وأمسكت رأسي وتمعنت فيه وفي وجهه وكلامه. وسألته بحنق: من أين تعرفني!؟
كنت أنا التي أراني في مرآة خطابه، أنا ولا أحد غيري. كان يصفني كما لم أستطع يوما وصف نفسي، خوفي، هلعي، ضعفي، قوتي، نرجسيتي، سلطويتي، غروري وهشاشتي، الغيرة التي تمزقني والفخر الذي يتملكني. أنا في الحب، وأنا في الفشل، وأنا في الكره. هو يحكي وأنا أبكي، كنت عارية أمامه، أنظر إليَّ في كلماته، وأتحسس وجهي في حروفه وجمله. كان مرآة اعترضت طريقي دون خجل، رأيت فيها السبب والمسببات، وتكسر على ملمسها وهم الأرض الملعونة، واكتشفت المسؤول الأول والأخير، للأسف لم تكن أمي على صواب هذه المرة كما كانت دائما. كنت أنا السبب، لا الأرض.