شوف تشوف

الرئيسيةتقاريرثقافة وفن

الأدب العربي والأدب اليهودي في ميزان الترجمة

تطوير المعرفة بالعرب هو الهدف من قراءة المثقفين والأدباء الإسرائيليين لترجمات من الأدب العربي إلى العبرية

مقالات ذات صلة

أنطوان شلحت باحث في الشؤون الإسرائيلية، ناقد أدبي أنجز مجموعة كتب في مجال النقد الأدبي، كما ترجم عن العبرية عدة كتب، بينها أعمال لكُتَّاب وأدباء إسرائيليين. مدير وحدة «المشهد الإسرائيلي» ووحدة الترجمة في «مدار». هنا حوار معه:

 

حاوره: محمود عبد الغني

 

 

– نريد من الأستاذ أنطوان تقديم نفسه كمترجم للأدب العبري إلى العربية..

+ أولًا شكرًا لكم الأستاذ والصديق العزيز محمود. بطبيعة الحال بدأ أول اهتمام لي بترجمة نماذج من الأدب العبري إلى العربية بعد الحرب الإسرائيلية على منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان عام 1982، والتي لاحظت كما لاحظ غيري أنها تسببت بتعميق ما يمكن توصيفه بأنه «أدب مناهضة الحرب» في الثقافة العبرية، والذي بدأ يأخذ منحًى قويًّا بعد حرب أكتوبر 1973، وإن بدأت أول إرهاصاته بعد حرب يونيو 1967. وكانت أول ترجمة لي رواية «الطريق إلى عين حارود» للكاتب الروائي الإسرائيلي عاموس كينان. وهي رواية تنتمي إلى ما اصطلحت على تسميته بـ «أدب النهايات» وكذلك إلى أدب الديستوبيا، بل ومن المؤشرات الأولى إلى هذا الأدب الأخير في الثقافة العبرية. وتنطوي هذه الرواية على تسجيل دقيق لكابوس الفوضى والانقلابات العسكرية المتعاقبة التي تنتظرها إسرائيل، حيث تجرى عمليات التصفية الجسدية وإلغاء الصحافة وذبح من يتم ذبحه من السكان العرب، وطرد من تكتب له السلامة إلى مكة، وسقوط الإنسان في الإنسان، والانحطاط إلى درك الخنازير وما شابه ذلك من العذابات والهلاك والفساد والتلاشي. وفي غمرة الفوضى والتسيّب فإن «جمهورية فايمار» جديدة تنشأ في بقعة تُسمّى «عين حارود الحرة»، وتتحول هذه البقعة السليمة من الجسد المتعفن إلى حلم الناس الأحرار الذين يتكبدون وعثاء اللجوء ومخاطر الدفاع عن كيانهم الإنساني المجرد، من أجل بلوغ رأس النبع – الحلم – الأمل، الملاذ الأخير.

بعد «الطريق إلى عين حارود» توالت الترجمات وتنوعت بحيث شملت روايات أخرى ومسرحيات وقصائد وكتبًا بحثية.. إلخ.

 

– ما أهم الأعمال التي ترجمتها؟ ولماذا وقع عليها الاختيار؟

ج: الأعمال التي ترجمتها هي:

(*) الطريق إلى عين حارود- عاموس كينان، رواية، 1983.

(*) المواجهة- كاتستنك، رواية، 1991.

(*) فضيّة، السمكة الصغيرة- باول كور، قصة للأطفال، 1999.

(*) ملكة الحمّام- حانوخ  ليفين، مسرحية، 2000.

(*) غيتو- يهوشواع  سوبول، مسرحية، 2000.

(*) ذاكرة، دولة وهوية (دراسات انتقادية حول الصهيونية وإسرائيل)- مجموعة من المؤلفين (أوري رام، غرشون شفير، إيلان بابيه، يتسحاق لاؤور، يشعياهو ليبوفيتش، شلومو سبيرسكي)، 2002.

(*) تصحيح خطأ- بيني موريس، مقالات ودراسات تاريخية، 2003.

(*) مختارات من أعمال حانوخ ليفين، مسرحيات «أنت، أنا والحرب القادمة» و«كتشاب» و«ملكة الحمّام»، 2007. (ضمن كتاب من تأليفي بعنوان: «خداع الذات- المسرح الإسرائيلي وحرب حزيران 1967»).

(*) اختراع أرض إسرائيل- شلومو ساند، 2013.

(*) لماذا لم أعد يهوديًّا- شلومو ساند، 2014.

(*) نُقطة ونُقيْطة- سامي ميخائيل، قصة للفتيان، 2015.

(*) أوجه الشبه بين الكولونيالية الصهيونية والكولونيالية الأوروبية- غرشون شفير، 2020.

بالإضافة إلى ما يلي: إعداد وترجمة وتقديم مجموعة كراسات صدرت ضمن سلسلة «أوراق إسرائيلية» عن المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية- «مدار»، رام الله. ومنها:

– اندماج بمفهوم الفصل- حول «المدن المختلطة» في إسرائيل؛

– وثيقة مؤتمر هرتسليا الأول حول ميزان المناعة والأمن القومي الإسرائيلي؛

– الانزياح نحو اليمين- 2003 وما بعدها؛

– إسرائيل ديمقراطية شكلية- مؤشر الديمقراطية الإسرائيلية 2003؛

– الكنيست الـ16- ملامح واتجاهات؛

– ما بعد الصهيونية- بين الحياة والموت؛

– التزييف كأداة استخبارية- الانتفاضة، العملية السلمية وتقديرات الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية؛

– حضور الغياب- ياسر عرفات بأقلام إسرائيلية؛

– وقائع الانتقال من تسوية النزاع إلى إدارته.. المواجهة العنيفة الإسرائيلية- الفلسطينية 2000 – 2004؛

– ما بعد فك الارتباط (2005)- سيناريوهات إسرائيلية؛

– إعلام في مهب الريح- وقائع ومعطيات جديدة حول أداء وواقع الإعلام الإسرائيلي؛

– الفشل الإسرائيلي في لبنان (2006)- آراء إسرائيلية حول الأداء العسكري؛

– استنتاجات لجنة فينوغراد- تشخيص الفشل الإسرائيلي في لبنان؛

– الحرب أولًا ودائمًا- الخطة الخماسية للجيش الإسرائيلي- «تيفن 2012»؛

– شاعر الأوديسا الفلسطينية- محمود درويش في مرآة الإعلام الإسرائيلي؛

– مـاذا تمخّـض عــن حملـة «الرصاص المصبـوب»؟ (آراء إسرائيلية حول الحرب على غزة)؛

– ديفيد بن غوريون.. بنظرة راهنة؛

– خزينة الدولة الإسرائيلية- الحاضنة الحقيقية للاستيطان والاحتلال!

– هرتسل، الصهيونية والدولة اليهوديّة؛

– اليهود الحريديم في إسرائيل.. دوافع التحالف مع اليمين؛

– «اليسار» الإسرائيلي وعملية السلام.

بخصوص الاختيار فهو راجع إلى عامل حاسم وحيد هو تقديم ما يجري في إسرائيل من حيث الوقائع وليس الرغائب بغية تعميق المعرفة المطلوبة. ويسعدني أكثر حين يكون الاختيار غير فرديّ، بمعنى وجود مشاركة فيه وهو ما حدث منذ أول عهدي بالترجمة، إذ كان اختيار رواية «الطريق إلى عين حارود» قرارًا شارك فيه أيضًا الشاعران الفلسطينيان الراحلان محمود درويش وسميح القاسم (الأول تولى نشرها في المجلة الفصلية التي ترأس تحريرها- مجلة «الكرمل»؛ والثاني أشرف على مراجعة الترجمة وتقديم الرواية). وهذه المشاركة تنسحب على سائر الترجمات. وأقصد أن كل ترجماتي كانت نتاج جهود جماعية تركّز همّها في الاستفادة من «الوثيقة الأدبية العبرية» من أجل زيادة المعرفة حيال إسرائيل واستخدام هذه المعرفة سلاحًا في سبيل مواجهة خطرها على الفلسطينيين والعرب.

لقد سبق لي أن طرحت كثيرًا السؤال، أو التساؤل: لماذا نترجم عن العبرية أصلًا؟ وإنه، بطبيعة الحال، تساؤل شديد الخصوصية، بالنسبة لنا كفلسطينيين وعرب، وقد لا يتقاطع قطّ مع تساؤل لا يحتاج إلى تسويغ بشأن الترجمة من اللغات عامة إلى اللغة العربية خاصة، إلى ناحية كونها وسيلة مهمة من وسائل التلاقح الحضاريّ والتثاقف وما إلى ذلك. كما أن بالإمكان أن يطول هذا التساؤل الترجمة عن العبرية بصورة عامة، لا الترجمات الأدبية فقط، لأسباب وجيهة تحيل إلى الصراع مع إسرائيل ومع الحركة الصهيونية، وإلى أدواته ومُستلزماته التي لا تُخفى على أحد. في واقع الأمر طرح هذا التساؤل في العديد من المناسبات وسيظل يُطرح.

وكي لا أطيل سأتلو على حضرتكم بعض الأسباب الواقفة وراء الاختيارات:

  • تنويع الترجمات، من حيث الأنواع الأدبية [شعر، قصة قصيرة، مسرح ودراسات]، ومن حيث الموضوعات وانتماء المبدعين وفئاتهم العمرية. وما من شكّ في أن هذا التنويع نأى بنا عن الاحتكام إلى غاية سياسية أو عقائدية أريد إسقاطها على النصوص المترجمة، ولذا اتسم بعدم التبرّم من نصوص ليست احتجاجية بامتياز.
  • الامتناع عن وضع الرغبة بديلًا من الواقع، فإن من الأهمية بمكان التعرّف على طريقة من يقف في مواجهتنا في التفكير، بهدف توقّع ما يمكن أن تكون حالته تجاه ما يستجد، حتى يكون الاستعداد لمواجهة هذه الحالة كما يستلزم، ولا يتم الوقوع في شيء من الأوهام التي يحكمها منطق لا يمكن تطبيقه على الحالة الثقافية في إسرائيل.
  • محاولة متابعة ما يستجد على المشهد الأدبي والثقافي في إسرائيل من نصوص ورؤى.
  • الوثوق في وعي القارئ، فقد بقيت كل كلمة كتبها أصحابها كما هي في الأصل، حتى يتم التعرّف عليهم كما هم، وفي ذهننا قدرة القارئ العربي على كشف الدعاوى، وفهم دوافعها الظاهرة حينًا، والخفيّة في كثير من الأحيان.

 

– ما خصوصية الرواية العبرية، من حيث اللغة والموضوعات؟

+ الإجابة عن هذا السؤال تحتاج إلى وقفة طويلة، إذا سنحت في المستقبل فقد نُقدم عليها. حاليًا فإن ما يميز الكتابة الروائية الإسرائيلية ربما أكثر من أي شيء آخر، اتجاهان: الأول، ما يمكن توصيفه بأنه «طابع مدني». تمشيًا مع التركيز على الجانب الاقتصادي في الوجود الإسرائيلي، نتيجة حملة الاحتجاج الشعبي في عام 2011، وإزالة الصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني عن جدول الأعمال الإسرائيلي إبان حكم بنيامين نتنياهو المتواصل (ولهذا ثمة أسباب خاصة به وهو ليس بجريرة الجانب الإسرائيلي فقط)، عالجت مجموعة من النتاجات الأدبية الأبرز في إسرائيل خلال العقد الأخير قضايا طبقية وتوترات اجتماعية. وكان أبرز أدباء هذا الجيل مختلفين جدًا عن أسلافهم الذين كان يمثلهم جيدًا الثلاثي المعروف عاموس عوز، أ. ب. يهوشع وديفيد غروسمان، الذين كان الصراع يشغلهم، سواء في نتاجهم الأدبي أو في نشاطهم الجماهيري المكمل له.

أما الاتجاه الثاني فهو الذي ساد خلال أعوام العقد الممتد بين الأعوام 2005-2015 حيث أنتج الأدب الإسرائيلي موجة من الأعمال القيامية (التي تنتمي بالأصح إلى جانر الديستوبيا) بعضها جيد وبعضها أقلّ جودة. ويبدو أن الدافع الرئيسي الواقف وراء ازدهار هذا الجنس من الأدب، فحواه أن هناك أمرًا ما في الواقع الإسرائيلي الآني، وليس فقط ذاكرة الماضي، يثير الخوف والرعب والرؤى المروّعة حيال المستقبل. وبحسب بعض النقاد فإن هذا الصنف من الأدب يعلمنا ليس فقط أنّ إسرائيل تنحو نحو التطرّف وتصبح أكثر تديّنًا بل وأيضًا أنها أصبحت أكثر تأمرُكًا (حيث أن هذه الكتابة هي جنس أدبيّ مزدهر في الثقافة الشعبية الأمريكية وبالأساس في السينما كونها تتيح عرض تأثيرات مميّزة) كما أضحت أكثر لهاثًا وراء متعة الترفيه. ويأخذ نقاد إسرائيليون على كُتّـاب هذه الموجة من الأدب أنهم ينتمون كلهم إلى الطيف اليساري من الخارطة السياسية، مع أنهم لا يسقطون ضرورة الإصغاء إلى النبوءات السوداء الخاصة بهذا الأدب «ولو من باب الحذر والحفاظ على الذات».

 

– كيف تنظر إلى وتيرة ترجمة الأدب العبري إلى العربية؟

+ وتيرة بطيئة جدا، تكاد لا تذكر قياسًا بما صدر ويصدر من أدب عبري. ولهذا أسباب موضوعية وذاتية طبعًا. أعتقد أن هناك سببًا آخر هو وجود نقص في دراسة الأدب العبري وخصوصًا في الحاضر، ذلك أن مثل هذه الدراسة من شأنها أن تسلط الضوء على نتاجات جديدة وجديرة من الأدب العبري ما قد يشكّل محفزًا لترجمتها. كل هذا فضلًا عن افتقارنا إلى مشروعات جماعية ممنهجة بهذا الشأن.


ووتيرة ترجمة الأدب العربي إلى العبرية؟

ج: أيضًا وتيرة بطيئة جدًا وتكاد لا تذكر. وهنا يتعيّن عليّ أن أشير إلى أن معظم مشروعات ترجمة الأدب العربي إلى العبرية في الأعوام الأخيرة يقف وراءها كتّاب وأدباء متفهمون لقضية الشعب العربيّ الفلسطيني ومتعاطفون معها، وقد جسدوا مواقفهم تلك في نتاجهم الإبداعي أيضًا، وهم محطّ استهداف دائم من اليهود المتطرفين ومن الأحزاب اليمينية في إسرائيل.

– هل يقرأ المثقفون والأدباء الإسرائيليون الأدب العربي؟

+ بموجب الإحصاءات التي تنشرها الهيئات الإسرائيلية المختصة بهذا الشأن فإن النسبة ما زالت ضئيلة جدًا، ولكنها في ازدياد من عام إلى آخر. بالرغم من ذلك، فما أود التنويه به خصوصًا هو أن قراءة المثقفين والأدباء الإسرائيليين لترجمات من الأدب العربي إلى العبرية، وهذا في حال أنها تتم بهدف تطوير المعرفة، قد تنطوي في المدى البعيد على فائدة مضاعفة، نظرًا إلى التقدير بأن تأثيرها من شأنه أن ينعكس على نتاجهم، كما أن نتاجهم يؤثر في الرأي العام الإسرائيلي عمومًا.

 

– هل تهيئ عملا جديدا للترجمة؟

+ الصحيح أني في الفترة الأخيرة مهتم أكثر من القيام بترجمات جديدة من العبرية، بمراجعة ترجمات لجيل جديد من الكتاب والمترجمين الفلسطينيين عندنا لديهم اهتمام بالترجمة من الأدب العبري. وقررت أن أفعل ذلك، أولا وقبل أي شيء، بهدف محاولة نقل تجربة جيلنا إلى هذا الجيل الجديد وزيادة تأهيله. ومن آخر ما راجعته في هذا الشأن ترجمة لإحدى أحدث روايات الديستوبيا الإسرائيلية وهي بعنوان «الثالث» للكاتب يشاي سريد، وترجمة كتاب مختارات مما يمكن اعتباره «الأدب العبري المؤسّس». كما يتركز اهتمامي في مجال الترجمة عن العبرية في الآونة الأخيرة في ترجمة وثائق تفضح جوانب من الماضي المظلم للحركة الصهيونية ولا سيما في ما يتعلق بفلسطين وشعبها وأرضها. وسبب هذا التركيز يعود إلى أهمية هذا الماضي في فهم الحاضر، وكذلك في التطلع إلى المستقبل.

 

– هل من نصيحة للعرب الذين يتخذون موقفا من الأدب العبري؟

+ لا أحب إسداء النصائح الذي قد يشي بنوع من الربوبية. ولذا سأدلي برأي. أنا أتوقع أنك تقصد العرب الذين يتخذون موقفًا رافضًا لأي صلة أو اطلاع على الأدب العبري. أظن أن موقفهم هذا غير مبرّر، كون الأدب عمومًا هو بمثابة وثيقة اجتماعية تسعف في أمور عديدة وكذلك في المواجهة. وهذا ينسحب على الأدب العبري، سواء إلى ناحية السلب أو الإيجاب من جهتنا. ويهمني أن أشدّد على أنني لا أشكّك في نيات الذين يتخذون هذا الموقف ولكنهم يأخذون هذه النيات إلى مناحٍ لا تخدم أهدافهم السامية. كما أشدّد على أنني أحترم هذا الموقف ولكنني لا أتفق معه أبدًا. أخيرًا، أعتقد أن المواجهة مع إسرائيل هي مواجهة ثقافية أيضًا ولكي يكون أداؤنا فيها عالي المستوى لا بد من معرفة الثقافة العبرية وفي صلبها الأدب. كما أن الاطلاع على الأدب يتيح لنا إمكان إيجاد صلة بين السياسات والمعرفة وهي عملية لا تسقط الحاجة إليها أبدًا. كذلك فإن الترجمة هي عملية إيصال وتبليغ ثقافية، ضمن سياق معرفي، فهل نحن نخشى من هذا التبليغ ذاته أو نخشى من تبعاته؟

حوار مع الشاعر العراقي اليهودي روني سوميك

 

أنا لا أبحث عن جذوري لأني لم أفقدها يوماً

 

حاوره: بشير شلش وريم غنايم

في «المَعبراه» لم أكن أعرف أصلا أنّ هناك لغة اسمها «العبريّة»، ذاكرتي العراقية المستعملة أقوى من ذاكرتي الحقيقيّة، أم كلثوم كانت جزءًا من لغتي الأولى، العدالة التاريخية والعدالة الشعرية سوف تتحقّقان في الحالة الفلسطينيّة، لا يمكنك أن تسيطر. أنت مُحتل. وهذا بحد ذاته دليل إدانة وأنا لا أريدُ أن أكونَ محتلا، فلا تطلقوا النار عليّ لأني عازف البيانو ليس إلا.

روني عبد الله سوميك، شاعر يهوديّ من أصول عراقيّة. وُلِدَ سوميك في بغداد عام 1951 وقدِم إلى فلسطين عام 1953. يُعتبر أهمّ شعراء المشهد الشعريّ الإسرائيلي اليوم والأكثر شعبيّة، وقد حظيت قصائده بشهرة واسعة النّطاق منذ أن بدأ بكتابة الشعر في منتصف السبعينات. تُرجِمت أعماله إلى لغات عديدة ونشُرت قصائده في أنتولوجيات شعريّة في أوروبا وأمريكا.

تصدر قريبا عن منشورات راية الفلسطينيّة أول ترجمة عربيّة لمنتخبات شعريّة شاملة لأشعار سوميك، ومعه كان هذا الحوار.

 

دعنا نعود بك عقودا إلى الخلف. في عام 1953 وصلت مع عائلتك إلى فلسطين قادمين من بغداد. كانت آثار العام 1948 ما زالت حاضرة بندوبها بقوّة. كيف تعاملت طفلا مع هذا المشهد بصفتك أيضًا «لاجئًا» اقتُلِع من وطنه؟

عشتُ طفولة غريبة. من جهة، طفولتي في «المعبراه». واصلتُ طفولتي التي عشتها في بغداد، لأن جدّي وجدّتي تحدّثا إليّ بالعربية. عوض أن أكون في روضة أطفال، ارتدتُ مع جدّي المقاهي، هناك استمعنا إلى الموسيقى العربية. كل الأمثال التي روياها لي كانت أمثالا بالعربية. من جهة ثانية، كانت المعبراه التي نشأتُ فيها أشبه ببرج بابل، لأنّ الجميع تحدّث فيها بكلّ لغات العالم، ولم أكن أعرف أصلا أنّ هناك لغة اسمها «العبريّة».

لا أمتلك ذكريات شخصيّة من بغداد، لكن لديّ أروع ذكريات «مستعملة» وصلتني عبر وسيط. كنت أطرح على من هم حولي أسئلة عن بغداد وعن المكان الذي ولدتُ فيه إلى أن صرتُ خبيرًا في المكان أكثر من أشخاص عديدين ولدوا وترعرعوا هناك. أحيانًا تكون الذاكرة المستعملة أقوى من الذاكرة الحقيقية، لأنك ترغب في معرفة تفاصيل لا يمكنك أن تنساها لاحقًا. عندما وصلت إلى الصف الأول في يومي الأول، سألت المعلمة كل طالب عن مكان ولادته، لم أعرف كيف يقولون بچداد فقلت بغداد (لفظ الغاء)، وبدوت للأطفال ليس مجرد طفل مهاجر، وإنما مهاجرا غريب الأطوار: طفل يرتدي بذلة بربطة عنق وقلم باركر 51، يقول إنه وُلدَ في بغداد، والجميع ينظر إليه نظرة غريبة وكأنه آتٍ من عالم آخر. عندما طلبوا أن أغني، غنيتُ لأم كلثوم.

في نهاية اليوم قالوا لأمي إنّي تصرفت بشكل رائع، لكن هنا مدرسة وليس عرسًا، اذهبي واشتري لطفلك قميصًا وبنطلونًا قصيرًا وصندلاً، لا بذلات ولا جاكيتات، وهكذا شعرت أنّهم أزالوا عني بغداد، قشّروها عني. هذا ما شعرت به في المدرسة. لكن الحياة في البيت ظلت تواصل الحياة في بغداد، لم تشعر عائلتي بالخجل. هناك أصدقاء لي طلبوا من ذويهم أن لا يتكلموا العربية وأن لا يستمعوا إلى الموسيقى العربية بصوت عال. أما أنا فالعكس. الاستماع إلى حفلة أم كلثوم كان جزءًا من لغتي الأولى التي ولدت بها. لم أفهم اللغة لكنّها كانت سلّمي الموسيقيّ، وكل ما جاء بعدها كان عبارة عن طوابق أخرى شيّدتها على هذا الطابق الأساس.

وأنا في العاشرة من عمري، حضرت إلى فلسطين عماتي رفقة جدّي، وبين جملة وأخرى تأتي المقارنة بما كان في بغداد. كن يذهبنَ إلى السوق ليشترين التمور فيقُلن إنها ليست كتمور بغداد، تناولنَ البطيخ وقلن ليس كبطيخ بغداد، كل الوقت عشنا في ما يشبه المقارنة بين المكان المتطّور الذي عشنا فيه وبين حقيقة أنّه ليس كبغداد. ثم أردتُ أن أعرف أكثر عن المكان الذي ولدتُ فيه، وحتى اليوم، عندما أسمع بوجود سيارة مُفخّخة في بغداد أتصل لأطمئن على حال الشخصين اللذيْن أعرفهُما هناك، وللتأكد من أنّ أضرارًا جسيمة لم تحدث لبغداد.

-«يالله، صيروا دولة». تقول في قصيدتك «علم فلسطين» متوجها للفلسطينيين. ألا يبدو لك الأمر خارجًا عن المنطق اليوم ونحن في ظل أوضاع سياسية بائسة: الاحتلال، الفوضى في النظام السياسي الداخلي، المستوطنات وغيرها. هل ما زلت تؤمن بأن هناك بصيصا من أمل أن يتحقق وجود الدولة الفلسطينية؟

أنا متفائل ولا يمكن ردّي عن ذلك. يجب أن يكون هنا دولتان لشعبين. في هذا الشأن، أنا على يقين أنّ هذا ما يجب أن يكون، لأني لو لم أكن أؤمن بذلك لكنت عنونتُ القصيدة «أهلا وسهلا بكم في الجحيم»، وأنا لا أؤمن بالجحيم.

يجب أن يتحقق ذلك. هناك عدالة شعرية وهناك أيضا عدالة تاريخية، وفي الحالة الفلسطينية، العدالة الشعرية والعدالة التاريخية ترقصان رقصة التانجو معا وستتحقق الدولة.

 

– نحن على أبواب انتخابات. دولة مخيفة بكل المقاييس في مستقبلها. كيف سيتحقق التوازن؟

على الرغم من كل ما تقولانه، أؤمن بأن التوازن سيحدث. قد أبدو إنسانا يهذي لكنني أراهن على ذلك. صحيح أن هذا يبدو ضربًا من الهذيان، لكني أومن أيضا بالهذيان أحيانا. لأن الوضع اليوم.. هذه الرغبة في تحويل الوضع هنا إلى وضع مشابه لجنوب أفريقيا، وتحويل الناس إلى أشخاص ليست لديهم خيارات هو أمرٌ «غريب عجيب».

وُلدتُ إنسانًا يسعى من أجل السلام ويطالبُ به. يحزّ في قلبي سقوط ضحايا من الجانبين، وأنتظر اليوم الذي يتصافحُ فيه شعبان يؤمنان بالسلام ويسعيان إليه.

 

– لكن بشكل عملي، كيف يمكن تنفيذ ذلك فعليًا؟ خصوصًا مع وضع المستوطنات التي تنخُل الأراضي التي يفترض أن تقوم الدولة الفلسطينية العتيدة عليها؟

أولا أعتقد أن قسمًا من المستوطنات يمكن أن يظل تحت السيادة الفلسطينية. ربما تتم أيضًا عملية تبادل أراضٍ. لا أعرف كيف يمكن فعل ذلك لكن الوضع القائم حاليًا هو وضع غير ممكن وغير معقول.

لا يمكنك أن تسيطر. أنت مُحتل. وهذا بحد ذاته دليل إدانة. وفي الحقيقة فإنه في العالم «المتنوّر» حتى الدول ذات الماضي الاستعماري اضطرت في مرحلة معينة أن تنسحب وتغادر. أذكر هنا الفرنسيين الذين اضطروا للانسحاب من الجزائر. حتى الانجليز اضطروا أيضًا للانسحاب من كل مستعمراتهم.

الاحتلال بنظري كلمة قاسية، كلمة يجب محوها من القاموس حتى ولو بسكّين لأنه دون ذلك فأنت فعليًا تعلن عن قيام وضع فيه مُحتل وطرف آخر تحت الاحتلال.. وأنا لا أريد أن أكون محتلاً. بالنسبة لي ليس مريحًا أبدًا أن أجلس هنا في رمات جان وأنا أعرف أن أناسًا يعانون في مكان قريب مني.. لكن الأشدّ إزعاجًا بالنسبة لي أن السياسيين في إسرائيل يشعرون بأن وضع الاحتلال وضع طبيعي وعادي.

 

– لماذا صار الحنين ظاهرة في كتابات الأدباء ذوي الأصول العراقية؟ كلنا نعلم أن اسرائيل بالنهاية أنشئت من مجموعات مهاجرة مختلفة، ثمة المغاربة، والروس والبولنديون، لكن ظاهرة الحنين إلى المكان الأول طبعت بشكل واضح نتاج الأدباء الآتين من العراق، وكيف ترتبط هذه الظاهرة بـ«تاريخ الحزن العراقي» – الذي يطبع الموسيقى والروح العراقية منذ كربلاء الحسين إلى اليوم.

قلتُ شيئًا مشابهًا ذات يوم لساسون سوميخ. قلت له، كان لنا بيت، هو العراق، وقد هدموا هذا البيت، فقدمنا إلى اسرائيل، – أنتم على وجه الخصوص، قلتُ له- لأن جيل ساسون سوميخ وصل إلى البلاد وهم في العشرينات من أعمارهم وليس كحالي أنا، إذ كنت ابن عامين فقط حين وصولنا، والذي حدث لنا- وأسمح لنفسي أن أنضم بتواضع إلى قائمة الكبار التي ذكرتها- أننا أصبحنا «مقاولي ترميمات» لذلك البيت المهدوم. تحولنا إلى أولئك الذين يقولون إننا لن نبدأ الآن شيئًا جديدا. أحد الأمور التي أسعدني فشلها بوتقة الصهر الصهيونية التي حاول بن غوريون والمشروع الصهيوني تعميمها. أراد بن غوريون أن يحوّل اليهود المختلفين الذين وصلوا البلاد من مشارب مختلفة إلى شعب مع زي موحّد، «شو عدا ما بدا»، أمي ستواصل رغم سياسة بن غوريون الحديث باللغة العربية وستواصل تحضير الطعام العراقي، حتى زوجتي الرومانية تعلمت أسرار المطبخ العراقي من أمي وستواصل طبخ الأطباق العراقية الشهيرة، وأنا سأواصل الاستماع إلى الموسيقى العراقية.. الخ.. لكني أعتقد أن تأثير اليهود في العراق- كانت هناك جوقة من قرابة أربعين عازفا ومؤديًا، كان غالبيتهم من اليهود، كذلك الكتاب والأدباء كان بعض أبرزهم يهودا- كان راسخًا لدرجة أن إجراء سحب جواز السفر العراقي من هؤلاء وتسفيرهم بـ «روحة بلا رجعة» من العراق، كان مجرد إجراء تقني، غالبيتهم وصلوا إلى البلاد وواصلوا الحفاظ على نوع من نمط الحياة الروحاني المرتبط بشكل أو بآخر ببغداد التي غادروها. يمكن تفهّم أن اليهودي الألماني الذي عاش في برلين، مثلا، إلى أن وصلت النازية إلى الحكم وفجأة صار عدوا وانقلبت الدنيا به، هذا اليهودي استطاع بسبب الهولوكوست وكل المعاناة التي مر بها أن يتحرر من علاقته بمجتمعه الأول، لكن غالبية اليهود الذين هاجروا من العراق احتفظوا بالحنين، وهم يتحدثون عن العراق بكثير من الحب، لدرجة أن ثمة من يقولون إن القنابل التي وضعت في المقاهي والكنس اليهودية في العراق لإجبار اليهود على الهجرة إلى اسرائيل كانت لأنهم لم يرغبوا في ترك العراق.

 

– لكن هذه القنابل وضعها الموساد، واليوم هناك حديث ولغط حول هذا الموضوع.

– لم يرغب يهود العراق بالهجرة إلى البلاد، خذوا، مثلا، عماتي وجدة أمي وآخرين من عائلتنا أتوا إلى البلاد بعدنا بعقد كامل مطلع سنوات الستينات.. بقوا لأن العراق وطنهم ولم يرغبوا أن يهاجروا منه ويتركوه. أمي تحكي كيف أنها عندما عادت من المستشفى بعد ولادتي في بغداد وكانت عائلتها قد هاجرت إلى البلاد، وكان مألوفًا وقتها أن تتساعد النسوة الجارات في الاهتمام بالمولود الجديد، كانت تحملني طفلا بين يديها وتقول لجارتها المسلمة: لدي مولود جديد، من يعلّمني كيف أربّيه؟ لكن الجارة ردّت عليها: هو سيعلمك كيف تقومين بتربيته. لذلك عندما أتيت وقلت لأمي وهي ابنة 92 سنة إن الكنيس الذي كانت تصلي فيه ببغداد هدم وتحوّل إلى مسجد، قالت لي: «وشو يعني؟ مسجد، كنيس.. كلها بيوت عبادة، ألا يُصلّى لنفس الرب في الكنيس والمسجد؟». ليس هناك أي إحساس بالعداوة، بالعكس، أبي يحكي عن الاضطرابات التي وقعت في العراق مطلع سنوات الأربعين، في فترة ثورة الفرهود، كيف أن الجيران المسلمين هم الذين وقفوا على رأس الشارع ومنعوا الجموع الهائجة المتأثرة بالنازية أن تدخل شارعنا في بغداد وتعتدي على بيوت اليهود. كانت بالطبع أحداث قتل فيها بعض اليهود بسبب كونهم يهودا، لكن ذلك لم يحدث لنا ولا في حيّنا أو المنطقة التي عشنا بها، في بغداد.

 

– نعيدكَ إلى الشّعر، وإلى أشمل ترجمة عربيّة لمنتخبات من مجاميعك الشعرية والتي تصدر قريبا. كان الشّعر يومًا جزءًا من الأنرغراوند الثوريّ العالميّ الذي رفع وأسقط حكومات، وغيّر في وجه العالم. الشّعر: ما الذي يفعله اليوم في زماننا هذا؟

الشاعر يشبه عازف البيانو الذي كنا نشاهده في أفلام الغرب الأمريكي. هناك كانت دائما لحظة يجلس فيها عازف بيانو في الحانة في ركن لا يراه منه أحد ويعزف. تساءلت في نفسي لماذا لا يؤدي هذا العازف عزفه في كونسيرت، لماذا يجلس في حانة ويعزف بينما لا يصغي إليه أحد. ثم أدركتُ حكمته. ليس الجميع يصغي إليه، صحيح، لكن حتما سيكون هناك شخص واحد سوف يستمع إليه ويهديه كأس ويسكي على شرف عزفه. في أحد الأفلام، علّق هذا العازف شارة على البيانو كتب عليها «لا تطلقوا النار عليّ، فأنا مجرّد عازف بيانو»، وهذا دور الشاعر، أن لا يضع البيانو المجازي خاصته ويعزف في الأماكن الفخمة، إنما في الشارع.

 

رسالة من أدونيس إلى روني سومك

 

تجربتُكَ الشعريّة، يا صديقي، هي في هذا السّياق وعلى هذا المستوى، أفقٌ ومثال. خصوصاً عندما ننظرُ إليها بعين الواقع في هذه البلاد التي نعيشُ في أحضانها المُمزّقةِ الدّامية  – بلادِ النّبُوّاتِ والظُّلمات مرصوصةً في ثوبٍ واحد. وماذا نقولُ للشعراءِ وأصدقائهم- الأطفال والخلاقين في جميع الميادين؟ وكيف نُخاطبُ الفضاءات والينابيعَ، الحقولَ والغابات، الشّجرَ والحجَرَ، المطرَ والعشبَ والغيوم، أمسِ، الآنَ، غداً، في هذا الحصار القاتل الذي يُقيمُهُ القُبحُ في مختلف أشكاله، وفي جميع الجهات في ذلك الغرب، :غربنا” الذي يكادُ الاسمُ فيه أن يلتهمَ المُسمّى وما ينطوي عليه، خارجاً وداخلاً، فيما تفترسُ سماواتُ هذا القُبح، بعضُها بعضاً.

لكن، لكن… ها هم شعراء، وخلّاقون أصدقاء، يعملون معاً، ويفكرون، ويكتبون، من أجل انفجارٍ جماليٍّ يجيُ كمثل طوفانٍ من الشّعرِ والحُبّ، من الحرية والعدالة، يمحو قُبحَ ذلك التاريخ.

ريم غنايم

 

مترجمة وباحثة فلسطينية ترجمت العديد من الأعمال الأدبية من اللغة العبرية والإنجليزية إلى اللغة العربية

 

 

(من مقدّمة حول الشاعر الإسرائيلي العراقي روني سوميك)

وُلِدَ روني سوميك في بغداد عام 1951 وقدِم إلى البلاد عام 1953. درس الرّسم والأدب والفلسفة اليهوديّة، ويدرّس الأدب والكتابة الإبداعيّة في السنوات الأخيرة.

يُعتبر سوميك أحدّ أهمّ شعراء المشهد الشعريّ الإسرائيلي اليوم، والأكثر شعبيّة، إذ حظيت قصائده بشهرة واسعة النّطاق منذ أن بدأ بكتابة الشعر في منتصف السبعينات. تُرجِمت أعماله إلى لغات عديدة ونُشرت قصائه في أنتولوجيات شعريّة في أوروبا وأمريكا.

في عام 1995، صدرت أنتولوجيا «ياسمين»، منتخبات من أشعار سوميك ترجمها الشاعر الفلسطيني الراحل سميح القاسم إلى العربيّة.

تنطلق خصوصية الشعر عند سوميك من كونه شعرًا متمردًا ثائرًا في الجانب الاجتماعي، وفي قدرته على طرح القضايا المسكوت عنها بجرأة عريضة في الشعر الإسرائيلي: القضية الفلسطينية التي أفل نجمُها في المستوى الأدبيّ في المشهد الثقافيّ الإسرائيليّ في السنوات الأخيرة.

يتمدّد هذا الشعر المُقاوم للرؤية الرائجة في كافّة مستويات الشعريّة عند سوميك، لكنّه يقومُ بفعلِ المقاومة من خلال تكنيك الولوج إلى المستوي الشعبيّ الشعريّ، وذلك بطريقة انزياح رياضية ترتكز على ترجمة عناصر من الثقافة العالية إلى ثقافة شعبية والزج بالشعر إلى هامش الأدب العبري الرسمي. من هنا، تصبحُ الكتابة (على طريقة ريموند كارفر، وتشارلز بوكوفسكي وألن غينسبرغ وغيرهم من شعراء الهامش الّذين ضخّوا ثورة لغويّة وتيماتيّة في الشعر الأمريكيّ)، شكلا من أشكال الكتابة وفق معايير «السوق»، هذه الكتابة التي يشترط نجاحها تبنّي أساليب مناورة قوامها «الحطّ» المتعمّد الذي يستوعبه الوعي الكاذب لمستهلكيها. من هنا، يلعب الشّاعر في حقلٍ مناور وثريّ بعناصر توزيع وتشبيك من جهة، مع الميل نحو النّهل من ثقافة نخبويّة عالية وصبّها في حضن ثقافة شعبيّة لينتِجَ نصًا فتيًّا قادرًا على إقامة حوار وصراع قلِق ومقلق بين الثقافة الشعبيّة والثقافة العالمة.

«في بغداد العراق وُلدتُ. اسمي مدوّنٌ بالعربيّة على بطاقة ميلادي، وعلى ظهر أول جواز سفرٍ لي. شعر أبي وأمّي بالفخر والاعتزاز بالعِراق الذي وُلدا فيه، لكنهما لم يعلّماني يومًا أن أكتب وأقرأ بلغة أمّي».

هذا ما يفعله الشّاعر الذي عادَ إلى بغداد في مجازه، وحضن العربيّة في لغته العبريّة، ورفع هويّاته إلى مصافّ العالميّة.

 

عبد السلام الموساوي السوريالي

 

(في العدد المخصص لإصدارات بيت الشعر بالمغرب، في الملحق الثقافي قبل أسبوعين، صدر مقال عن الشاعر المغربي عبد السلام الموساوي، لكن وردت صورة بالخطأ مع المقال وهي لا تخص الموضوع المعني، لذا نعتذر للقراء ولصاحبي الصورة والمقال، وهنا نعيد نشر المقال بالصورة الصحيحة).

«ظلال ضاحكة في شارع سوريالي» هو عنوان المجموعة الشعرية للشاعر والباحث المغربي عبد السلام الموساوي، التي خرجت إلى الوجود منذ أسبوع ضمن منشورات البيت. ورغم المفهوم الخطير على غلاف المجموعة، إلا أن المجموعة تميل نحو غنائية واضحة، تبدأ مع القصيدة الأولى «أدريانا..». وما أن ننتقل إلى القصائد التي تليها نجد الغنائية وقد تفرّعت وتعمّقت بمعجم غنائي يعود إلى قصائد سابقة كتبها الموساوي على طول مسيرته. بل ويتعمق المعجم التقليدي، هنا نقف عند عدة مفردات قديمة لم تعد تستعمل مثل «أنخل» في:

أرتبك فوق مائدة الزّهر

وأنخَل الأوراق..

ف «نخَل الشيء»: غربله وصفّاه واختار لبابه.. وحين تستعمل الكلمة في سياق آخر تعني الفحص والتدقيق.

عبد السلام الموساوي شاعر أثبت نفسه في الإطار الشعري المغربي من خلال عراقة لغته وغنائية قصائده. وعلى قُراء هذه المجموعة الشفّافة أن يزودوا ذاكرتهم بمعجم مزدوج: حديث وقديم.

هذا إضافة إلى وجود بلاغة كلية تصوغ مجمل قصائد المجموعة. بلغة تتأرجح بين وضوح الصورة وانغلاقها. وقد تضافر هذا النمط من البلاغة في: خاصر الريح.. وطر في العاصفة، يقودني العطر إليك (وهي قصيدة من ثمانية مقاطع محكومة البناء واللغة)، كأن يداً أمسكت بخطوهم (من أجمل قصائد المجموعة)، ليوم ما.. وللحقيقة (القصيدة الحزينة)…

يخلق المساوي أسلوب الوصف في هذه المجموعة. يصف المشاهد والناس والمواقف والمشاعر. وهذا الوصف يجعل من القصائد نصوصا مرئية؛ مشاهد تُرى، مواقف تُشاهد.

أحمد شحلان

 

محمود عبد الغني

ولد الأستاذ أحمد شحلان سنة 1944 بمدينة مراكش، هو مؤرخ مغربي مختص في مقارنة الأديان وأستاذ اللغة العبرية والدراسات الشرقية. أستاذ زائر بالمدرسة التطبيقية للدراسات العليا وبجامعة السوربون سنة 2004. ولقوة معارفه في هذا المجال استدعته أكاديمية المملكة المغربية، في شهر شتنبر الماضي، لإلقاء محاضرة بعنوان «ترجمة المعارف العربية الإسلامية إلى العبرية واللاتينية.. آفاق المنافع وانعكاس الأضرار». هذا إضافة إلى إسهامه الغني في التأليف، يقف في مقدمته ترجمة ابن رشد من اللغة العبرية إلى العربية.

من مؤلفاته: قضايا.. من أصول موسى إلى البابا بنديكت السادس عشر، المدخل إلى اللغة العبرية، ألف عام من حياة اليهود بالمغرب، ابن رشد والفكر العبري.. فعل الثقافة العربية الإسلامية في الفكر العبري الوسيط، يهود الأندلس والمغرب، لغات الرسل وأصول الرسالات، التوراة والشرعية الفلسطينية، التراث العبري اليهودي في الغرب الإسلامي (التسامح الحق )، مجمع البحرين.. من الفينيقية إلى العربية، دراسة مقارنة في المعجم واللغات القديمة، يهود المغرب من منبت الأصول إلى رياح الفرقة، الهداية إلى فرائض القلوب، ترجمة شرح كتاب أرسطو، أخلاق نيقوماخيا لابن رشد، من العبرية إلى العربية، المحاضرة والمذاكرة لموسى بن عزراء، الضروري في السياسة (مختصر سياسة أفلاطون لابن رشد)، كتابات شرقية في الأخلاق والتصوف والأديان، اليهود المغاربة من منبت الأصول إلى رياح الفرقة، حضارة الشرق القديم بين علم الآثار وحفريات الإبداع، الوحدة والتنوع في اللهجات العروبية القديمة، آداب الشرق القديم وتلاقح الحضارات، تراث الشرق القديم.. المواقع والنقوش والكتابات وسائط للتواصل المعرفي والحضاري.

إن هذه الذخيرة من الأعمال والترجمات هي حفرٌ عميقٌ في ذاكرة ثقافتين من أعرق وأقدم الثقافات واللغات في العالم. لذلك فالأستاذ أحمد شحلان استحقّ عليها درجات علمية واعترافا دوليا كبيرا وواسعا.

 

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى