الأخطاء الكروموسومية في جسد الإنسانية
بقلم: خالص جلبي
(مع فجر الحضارة الإنسانية حصل خطأ كروموسومي في تركيبة الحضارة الإنسانية، متمثل في ظاهرة الحرب، ولكي يحل الإنسان مشاكله مع أخيه الإنسان عن طريق العنف كان لابد من تطوير أداة الحرب وصورتها).
جيلنا شهد وعاصر قصة مروعة لولادة أفظع سلاح فاق في حدوده خيال الإنسان، لأنه وضع تحت يده الوقود الذي تعيش به النجوم أعني السلاح النووي.
هذا السلاح حقق قفزة نوعية، وانعطافا خطيرا في علاقة الإنسان بأخيه الإنسان من منظور القوة، لأنه وللمرة الأولى في تاريخ الجنس البشري سجلت ظاهرة الحرب قمة العنف الذي يفوق كل تصور إنساني، كما سجلت في الوقت نفسه تناقضا عجيبا، ففي نهاية الرحلة أبطلت القوة القوة.
استمر الإنسان في تطوير أسلحة القتل والدمار، وكانت الحرب في كل جولة أشد هولا في إيقاعها من التي سبقتها، حتى إذا وصلت تكنولوجيا التسلح إلى مداها الأقصى، وقفت البشرية على حافة الهاوية الغامضة التي سوف تبتلعها، فالسلاح هذه المرة لا يقضي على الخصم فقط، بل على كل أطراف النزاع، بل وحتى غير المشتركة في النزاع. وأصبح الكوكب الأرضي برمته مع الحياة المتطورة فيه معرضا للفناء، وبذلك تغير تعريف كلمة الحرب تلك التي طورها المفكر العسكري الألماني كلاوس فيتز في كتابه المشهور «عن الحرب»، من أن الحرب هي استمرار للسياسة بوسائل أخرى، لأنه لن يبقى بعد الحرب النووية لا سياسة ولا سياسيون.
وإذا كانت علاقات الدول بعضها ببعض وصلت إلى هذا المدى، وهذه هي روح العصر؛ كان على إنسان المنطقة استيعاب هذه الحقيقة، وفهم حقيقة أخرى تتضمنها الأولى وهي أن وقت الحروب قد مضى، وأن الإنسان يستقبل حقبة جديدة، وأن حل المشاكل لا يتم بالقوة والنزاع، ومنها حل المشاكل بين أبناء الأمة الواحدة.
لقد أردت من وضع قصة ولادة وتطور أعظم سلاح عرفه الجنس البشري أن أضع القارئ في مستوى العصر الذي نعيش فيه، لأصل إلى تقرير حقيقة مفادها أن طريق القوة مسدود.
يقول الجنرال فيكتور فيرنر في كتابه «الحرب العالمية الثالثة – الخوف الكبير» ما يلي: «إننا نقف اليوم أمام ظاهرة جديدة لم يعرفها العالم من قبل، ذلك أن حجم التدمير وسرعته، اللذين يمكن أن يحدثا لن يغيرا أبعاد الحرب فقط، وعندما سيؤديان إلى تغيير في جوهر الحرب، فإذا كان هناك إنسان طوله متران ونصف المتر ووزنه 200 كلغ، فإنه يبقى إنسانا بالرغم من أنه غير عادي، ولكن هل يمكن أن نعتبره كائنا بشريا، إذا بلغ طوله مائتي متر ووزنه أطنان؟ إن هذا ينطبق على الحرب العالمية الثالثة، إذ لم يعد هناك أي شبه أو علاقة بينها وبين الحروب الماضية، فقد أصبحت الحرب ظاهرة جديدة كل الجدة، خاصة حين غيرت طبيعتها».
إن هذا الانعطاف النوعي في مفهوم القوة على طول تاريخ الجنس البشري، حدث في الساعة الخامسة والنصف من صباح يوم 16 يوليوز لعام 1945، حين جربت أول قنبلة بلوتونيوم في منطقة (آلامو جوردو)، بعد أن تم تركيب القنبلة الأولى في أول مختبر من نوعه للتسلح النووي في العالم، بل وفي تاريخ الجنس البشري، في قرية (لوس ألاموس)، وكانت قوة التفجير في ما يزيد على 15 كيلو طنا من مادة التفجير «ت. ن. ت».
هذه التجربة طبقت على المدن والبشر بعد ذلك بفترة قصيرة، حيث ألقيت قنبلة اليورانيوم المكثف الأولى (الوزن الذري 235)، وبدون تجريب سابق، في 6 غشت على مدينة (هيروشيما) اليابانية، فقضت على ما يزيد على 250000 نسمة، وألقيت القنبلة الثانية قنبلة البلوتونيوم – المجربة سابقا كما ذكرنا – على مدينة ناغازاكي اليابانية في صباح يوم 9 غشت 1945، أي بعد ثلاثة أيام من إلقاء الأولى، وكان عدد الضحايا أقل بسبب توزعها بين الجبال المحيطة، فأهرع إلى الموت من أهل المدينة ما يزيد على 150000 شخص. وباب جهنم هذا الذي فتح يقول هل من مزيد، لأن قنبلة هيروشيما هذه أصبحت في ما بعد ليس أكثر من عود ثقاب لإشعال قنبلة الميجاطن، وما أدراك ما هي. إن قنبلة الميجاطن هي قدرة التفجير المعادلة لمليون طن من مادة «ت. ن. ت»، ورائدها هو إدوارد تيلر، الذي اشترك مع روبرت أوبنهايمر في لوس ألاموس في تطوير مشروع القنبلة الانشطارية، أي القنبلة الذرية الأولى. إن إدوارد تيلر كان يضحك من مشروع القنبلة الانشطارية – الجيل الأول من القنابل الذرية اليورانيوم المكثف 235، والبلوتونيوم 239 وكلاهما مستخلص من اليورانيوم 238- لأنه كان يرى القوة التفجيرية في حدود بسيطة. إن قنبلة البلوتونيوم 239 الأولى كانت من قوة كيلو طن (قنبلة هيروشيما 15000 طن من «ت. ن. ت» = 15 كيلو طنا) وكان يراها تشبه الألعاب النارية التي تطلق في الأعياد!
وفعلا فلقد استخدمها في ما بعد كعود ثقاب لإشعال القنبلة الذرية الالتحامية (الجيل الثاني من القنابل، أي القنبلة الهيدروجينية أو القنبلة النووية) والتي وصلت أقصى مداها إلى ستين ميجاطن على يد السوفيات كقوة تدميرية، وهي قنبلة الجروباتز التي فجرت عام 1960 (أقوى من قنبلة هيروشيما بـ3000 مرة). وكان بداية السباق في الحرب الباردة التي تسابق فيها كل من الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة، واستنزفت كلا البلدين وأوصلتهما إلى حافة الانهيار. فأما الأول فقد انهار فعلا أعني الاتحاد السوفياتي، وأما الثاني أي الولايات المتحدة فقد تكاثرت التنبؤات على بداية الانهيار، منهم شاهد مؤرخ أمريكي (وشهد شاهد من أهلها) سطر ذلك في كتاب ضخم للغاية درس فيه صعود وسقوط القوى العظمى في مدى الـ500 عام الفائتة، والذي تكلل في النهاية بسقوط بريطانيا العظمى التي لم تكن تغيب عنها الشمس. والكتاب بعنوان «صعود وسقوط القوى العظمى».