الأخطاء الدستورية الكبرى لمشروعي قانوني «السلطة القضائية»
7 – تقييم وزارة العدل للمسؤولين القضائيين وتبعيتهم لوزارة العدل
نصت المادة 72 من مشروع القانون التنظيمي للنظام الأساسي للقضاة على أنه يراعي المجلس كذلك التقارير التي يعدها وزير العدل على مستوى أداء المسؤولين القضائيين بشأن الإشراف على التدبير والتسيير الإداري للمحاكم، مما يعني ضربا لاستقلالية السلطة القضائية عن السلطة التنفيذية، قد ينتج عنه مع توالي الأيام تأثير لها على القرار القاضي من خلال منفذ المسؤولين القضائيين بالمحاكم، كما أن جعل تقييم المسؤولين من طرف وزارة العدل يعزز منافذ التأثير والتحكم على القضاة ويمس باستقلال القضاء والقضاة من خلال بوابة التعليمات والتدخل في القضايا أمام المحاكم، والمتابعات التأديبية الموجهة، فضلا عن مساسه بالاختصاص الحصري لاختصاص المجلس وتدخلا غير مقبول في مهامه في تناقض تام مع الدستور، وهذه العلة وحدها كافية لهدم مقومات السلطة القضائية التي أصبحت بمقتضى المشروعين تحت وصاية وزارة العدل، مما يجعل أي حديث عن هذه السلطة القضائية الموعودة وهم كبير لم يتحقق، لأن التقاطعات مع وزارة العدل تجعل السياسي يتحكم في القضائي، وفصل السلط وتوازنها غائب تماما في المعادلة، فإما استقلالية كاملة طبقا للدستور أو التبعية كما نعيشها الآن، فلا توجد سلطة داخلة في سلطة أخرى، فأخطر ما نواجهه حاليا في المشاريع هو التراجع عن مقتضيات الدستور عوض التنزيل الديمقراطي له وفقا لروحه، بتعبير السيد الرئيس الأول لمحكمة النقض.
8 – تقييد النيابة العامة بالأوامر غير القانونية
إن اعتبار النيابة العامة في التنظيم القضائي المغربي هيئة قضائية شأنها شأن القضاء الجالس، تسهر على حماية حقوق المجتمع ورعاية الصالح العام وصيانة حقوق وحريات المواطنين وأمنهم القضائي، لا ينفي عنها خصوصيتها النابعة من الطابع الإداري والقضائي المزدوج لها بحكم قاعدة التسلسل الرئاسي التي تخضع لها، من هذه الزاوية فإن اعتبارها قضاء التعليمات مسألة قانونية لا جدال فيها، وإذا كان هذا حال النيابة العامة اليوم فإن الدستور المغربي الجديد لسنة 2011 ارتقى بعمل النيابة العامة إلى إضفاء الطابع القضائي عليها، وبيان خصوصيته، وتحديد نطاق الالتزام بقاعدة التعليمات، بحيث نصت الفقرة 2 من الفصل 110 منه على أنه يجب على قضاة النيابة العامة تطبيق القانون،
كما يتعين عليهم الالتزام بالتعليمات الكتابية القانونية الصادرة عن السلطة التي يتبعون لها. لكن مشروع القانون التنظيمي للنظام الأساسي للقضاة عوض أن يحدد مجال التعليمات وحدودها وحماية ممثل النيابة العامة المعترض على التعليمات غير القانونية بحماية استقلاله، اعتبر التعليمات أوامر يتعين الالتزام بها، وكأننا إزاء نظام عسكري يعرف نظام الطاعة العمياء، مما جرد المقتضى الدستوري من كل فعالية لعدم تقيده بقيدي التعليمات الكتابية وقانونيتها، كشرطين لازمين لا غنى لأحدهما عن الآخر في المادة 43 من مشروع القانون التنظيمي للمجلس الأعلى للسلطة القضائية.
9 – إحداث منصب المستشار المساعد بمحكمة النقض والمساس باستقلالية القضاء
ابتدع مشروع القانون التنظيمي للنظام الأساسي للقضاء، أثناء المصادقة على القانون بالجلسة العامة بمجلس النواب، مصطلحا جديدا في هيكل بنية التصنيف القضائي يطلق عليه «المستشار المساعد بمحكمة النقض»؛ فهل انتقلت عدوى مؤسسة القاضي النائب الملغاة إلى محكمة النقض؟ ألا يشكل المصطلح المذكور تحقيرا وإهانة لهذا الصنف من القضاة، ومحاولة للمس باستقلاليتهم واعتبارهم تابعين فقط للمستشارين، أو رؤساء الغرف؟ وهل سيطمئن المتقاضون لقضاء يوجد في أعلى هرمه أصلي وتابع مساعد؟
10 – عدم إحداث مجلس الدولة خرق للفصل 114 من الدستور وانتهاك للإدارة الملكية
تتجه أنظار الحقوقيين، ولاسيما المهتمين بالقضاء الإداري إلى قبة مجلس المستشارين، حيث يوجد أحد أطراف السلطة التشريعية لاختبار وقياس آلام المواطنين وآمالهم، معاناتهم ومطالبهم الآنية والمستعجلة بإحداث مجلس الدولة يدعم وجود قضاء إداري كفء وقوي ومستقل عن القضاء العادي، فهل سينجح مجلس المستشارين في ما أخفق فيه مجلس النواب، ويوفق في اختياره؟ ذلك ما سنعرفه في الأيام المقبلة.
وهكذا وتفعيلا للفصل 114 من الدستور وتنزيلا لما أكد عليه صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله، في نص الكلمة السامية والتاريخية بمناسبة افتتاح أشغال المجلس الأعلى للقضاء، بتاريخ 15 دجنبر 1999، حيث قال حفظه الله إن: «إنشاء مجلس للدولة سيتوج الهرم القضائي والإداري لبلادنا حتى تتسنى مواجهة كل أشكال الشطط، وحتى يتاح ضمان سيادة الشرعية ودعم الإنصاف بين المتقاضين» .
ومما لا شك فيه فإن التفكير الحقوقي الجمعي أضحى متجها نحو المطالبة الملحة بإحداث مجلس للدولة بقصد استكمال الهياكل المؤسساتية لقضاء إداري فعال، وذلك في اتجاه بلورة تصور شامل لمؤسسة قضائية عليا قادرة على تشكيل لبنة أخرى في مسار بناء دولة الحق القائمة على احترام مبدأ المشروعية، وسيادة القانون، ورفع الشطط بحق المواطنين على نحو يصون الحقوق ويحمي الحريات.
ذلك أن إحداث مؤسسة مجلس الدولة من شأنه أن يسهم لا محالة في استكمال مسلسل إرساء قواعد الشرعية القانونية التي تقوم عليها الدولة الديمقراطية الحداثية، من خلال ما ستكرسه من قواعد قضائية في قراراتها كدرجة نقض.
ومما لا شك فيه فإن الإبقاء على الغرفة الإدارية بمحكمة النقض كجهة للطعن في قرارات المجلس الأعلى للسلطة القضائية مقترح غير دستوري وغير منصف، ويخالف مبادئ الحياد والعدالة التي تقتضي تولي جهة قضائية حيادية لا ينتمي أعضاؤها أو رؤساؤها إلى المجلس، فكيف ستراقب الغرفة قرارات رئيسها المنتدب؟ فتحقيق ضمانة مراقبة مشروعية وملاءمة القرارات التأديبية بصفة جدية وناجعة يستلزم إحداث مجلس الدولة، لأن القاضي في حاجة إلى قاضيه الطبيعي وهو القاضي الإداري على مستوى الدرجة العليا لإحقاق الحقوق ورفع المظالم ورد الشطط، لرفع استشعار الحرج عن قضاة النقض وحماية حقوق القضاة في نفس الوقت وبث الطمأنينة والأمان على مصائرهم، فضلا عن أن المواطن يحتاج إلى قضاء كفء مستقل ومحايد يتميز بالتخصص والاحترافية على جميع مستويات التقاضي.
11 – التقييدات على الأنشطة العلمية للقضاة
نعم، فقد نصت المادة 47 من مشروع القانون التنظيمي للنظام الأساسي للقضاة على أنه لا يجوز للقضاة أن يذكروا صفاتهم في مصنفاتهم العلمية أو الأدبية أو الفنية إلا بإذن من الرئيس المنتدب للمجلس، كما أن التدريس أو البحث العلمي يتوقف على قرار من الرئيس المنتدب أيضا، ويمكن للقضاة المشاركة في الأنشطة والندوات العلمية، شريطة أن لا يؤثر ذلك على أدائهم المهني .
من خلال هذا المقتضى يبرز التعاطي التحجيري مع حق القضاة في التعليم والتكوين والتدريس والبحث العلمي كحقوق مضمونة دستوريا، فالصفة القضائية لا يمنحها الرئيس المنتدب وإنما ظهير التعيين، فضلا عن أن هذه القيود الغرض منها التضييق على القضاة في نشاطهم الجمعوي والمهني وحراكهم الحقوقي والقضائي بمبررات غير مقبولة، فالأنشطة العلمية تفيد القضاة ولا تؤثر على أدائهم المهني إلا إيجابيا، وليس سلبا، لأن العلم وسيلة لترقية الفكر والأداء القضائي ولم يكن يوما يتصور إقامة حواجز عليه، كما أن تقييد البحث العلمي بإذن أو رخصة يبدو مثيرا للسخرية، لأن التفكير لا يخضع للرقابة، فعملية التفكير والبحث مضمونة، فشتان بين البحث العلمي كمنهج وفكر ومنشوراته كنتاج وتحصيل العملية الذهنية.
12 – حظر التعليق على الأحكام القضائية
لقد حظرت المادة 49 من مشروع القانون التنظيمي للنظام الأساسي للقضاة على القضاة إبداء الرأي في أي قضية معروضة على القضاء، مما يستشف منه أن القضاة ممنوع عليهم التعليق على الأحكام القضائية لغرض علمي، والحال أن نطاق الحظر يقتصر على إبداء الرأي في قضية معروضة على القاضي نفسه، مما يظهر أن نية إقصاء القضاة من المشهد العلمي حاضرة وبقوة، وشبه كره شديد وغير مبرر للبحث العلمي للقضاة، لأن ارتفاع منسوب الوعي القضائي شكل مصدر إزعاج وقلق بالغين لواضعي المشروعين، فعوض محاصرة الجهل والفساد تم محاصرة فكر التنوير والتخليق، وخنق حرية القضاة في التعبير والتنظيم .
13 – تقييد حق القضاة في الترقية
المشروع يسجل إلحاق حيف كبير بالقضاة المرتبين حاليا في الدرجة الثالثة، الذين جعلهم مشروع النظام الأساسي للقضاة خاضعين لنسق الترقي المنصوص عليه في ظهير 1974، قصد حرمانهم من حقهم في الاستفادة من المقتضيات الجديدة التي تقلص المدة نسبيا، فضلا عن أنه لا يعقل أن يظل قضاة الدرجة الاستثنائية أكثر من ثلاثين سنة في درجة واحدة، مما يضعف الفعالية والتحفيز، الأمر الذي يحتم إحداث درجات جديدة، مع ما صاحب ذلك من استباق الحوار الوطني حول ملف التقاعد بشكل مثير للريبة بإخضاع القضاة كحقل للتجربة لسن 65 سنة، مما سيحول المحاكم من قاعات للجلسات إلى قاعات مآتم وجنازات، فالمطلوب هو تجديد النخب القضائية لا تأبيد مدة الخدمة القضائية ضدا على صحة وسلامة القضاة نفسيا واجتماعيا وماديا، وما يتبعه من تأثير على حقوق المواطن المستفيد من الخدمة.
14 – انتداب القضاة والمس بقاعدة عدم جواز نقل القضاة
تفاديا للتأثير في استقلالية القضاة أثناء أدائهم لمهامهم عن طريق آلية النقل، نصت مختلف المواثيق الحقوقية الدولية على ضمانة عدم قابلية القضاة للنقل، ومن ذلك البند الحادي عشر من المبادئ الأساسية لاستقلال السلطة القضائية الصادرة عن الأمم المتحدة بتاريخ 13 دجنبر 1985، وهو ما سار عليه الدستور المغربي من خلال المادة 108، على اعتبار أن الضمانة المذكورة تشكل ركيزة من ركائز السلطة القضائية المستقلة، إلا أن المشروع المعروض على أنظار البرلمان أسس لمنحى مغاير لهذه الضمانة، وذلك من خلال إتاحته للمسؤولين القضائيين صلاحية الانتداب عن طريق نقل القضاة من المحكمة التي يشتغلون بها إلى محاكم أخرى، وهو ما يشكل مسا بالاستقرار الاجتماعي للقاضي، ويتحول في كثير من الأحيان إلى وسيلة لفرض التعليمات والتدخل في مسار القضايا تحت وطأة التهديد بالانتداب، ونفس الأمر ينطبق على مؤسسة النقل التلقائي للقضاة إثر ترقيتهم، لذلك ما فتئ نادي قضاة المغرب يطالب بضرورة وضع ضوابط قانونية ضامنة لاستقلالية القاضي عند ممارسته لمهامه القضائية، وذلك بتجنب تضمين مشاريع القوانين لوسائل تتيح المس باستقلال القضاة في عملهم، بعيدا عن التأويل المغلوط الذي يروجه البعض عن مفهوم استقلال القضاة وكأنه دعوة إلى التسيب، إذ بما ذكر من مضامين أعلاه لن يكون هناك سوى تسيب في مواجهة حقوق وحريات المواطنين.
إن سلطة رئيسية ومستقلة بحجم السلطة القضائية كما نظمها دستور 2011، لا يمكن اختزالها في المجلس الأعلى للسلطة القضائية، كما لم يتم التنصيص على إشرافه صراحة وحصريا على تدبير شؤون المحاكم، مع الاستقلال الإداري والمالي عن وزارة العدل، فلا يمكن تحقيق أي استقلال في غياب قوانين تنظيمية فاصلة وواضحة تعكس مضامين الدستور الطموح، وترسي أسس سلط مفصولة عن بعضها ومستقلة، بحيث لا نفوذ لإحداها على الأخرى ولا تداخل في الاختصاصات. فأملنا أن يتم تدارك المقتضيات غير الدستورية في القوانين التنظيمية المرتقبة لترقى لمستوى تطلعات القضاة وكافة المهتمين، خاصة وأن تكريس سلطة قضائية ضعيفة من شأنه إفراز نتائج كارثية، مما يستوجب تغليب منطق الحكمة ومصلحة الوطن، والتخلي عن بسط وزارة العدل لنفوذها على مكونات هذه السلطة القضائية.
وإذا كانت هذه هي الخطوط العريضة للإصلاح والتطوير، فإن الوقوف عند هنات وعثرات بعض مضامين مواد مشاريع «السلطة القضائية» من شأنه أن يقوي ويعزز الاستقلالية للقاضي والقضاء عموما، ويدعم دور المجلس الأعلى للسلطة القضائية كهيئة ناظمة للقطاع القضائي بكل تجلياته وأبعاده في اتجاه صيانة استقلال السلطة القضائية وحماية القاضي والسهر على حسن سير العدالة، وحماية حقوق المتقاضين، وتعزيز الثقة في القضاء وصون الأمن القانوني والقضائي.