الأخبار تتعقب تجارة خفية لحجارة نادرة ومستحثات ديناصورات بالمغرب
ميدلت: عزيز الحور
صار مثيرا لانتباه من يهمه أمر الآركيولوجيا والتنقيب عن المستحثات والمعادن كل تلك «البضاعة» المعروضة على مواقع أنترنت متخصصة في الاتجار في هاته الأشياء. البضاعة تبدأ من متحجرات حشرات قديمة (trilobites) ما زالت بادية على حجارة وصخور قديمة وتصل إلى بقايا ديناصورات وتماسيح وحيوانات اندثرت قبل ملايين السنين. كيف وصلت هذه «البضاعة» إلى دول أجنبية حتى تعرض على الأنترنت وكأنها سلع عادية؟
يحوم غموض كبير، كما سنرى في هذا التحقيق، تجارة المستحثات والمعادن في المغرب. الغموض يبدأ أول خطوة في الميدان حيث تظهر كميات كبيرة، في مدن محددة في مقدمتها ميدلت، من المستحثات والمعادن النادرة والمتحجرات وحتى جماجم وعظام مخلوقات انقرضت قبل آلاف السنين، في محلات تجارية مفتوحة، في وضح النهار، أمام العموم. درجة الغموض ستصل ذروتها حينما نطالع وثائق تظهر أن ثمة تحويلات مالية من الخارج إلى هنا بين تجار مستحثات ومعادن باطنية. وثيقة مفتاح ضمن هذه الوثائق تؤكد أن إدارة الجمارك، المفترض ضبطها لكل ما يدخل ويخرج من المغرب، ليست على علم بهذه التجارة، على الأقل في أحد الملفات التي سننطلق منها في تحقيقنا.
هل كل ذلك أمر عادي؟ ما الذي يضبط تجارة المستحثات والمعادن وحتى النيازك والأحجار البركانية في المغرب؟ ما حجم هذه التجارة؟ ومن المستفيد منها؟
لنبدأ من أول عتبة في البحث؛ الأنترنت. تصفح الشبكة العنكبوتية يبرز وجود مواقع متخصصة في بيع المستحثات والمعادن الباطنية وحتى بقايا الحيوانات الغابرة. قائمة الدول التي استقدمت منها هذه البضائع، كما هي محددة في عدد من هذه المواقع الشهيرة، قصيرة جديدة. الأمر يتعلق ببضعة دول بينها المغرب.
معطى وجود المغرب ضمن قائمة قصيرة جدا للدول التي تشكل مصدرا لهذه المواد النفيسة يتأكد من خلال تخصيص مؤسسات دولية معنية، بصفة أساسية أو عرضية، بحماية الممتلكات الآركيولوجية، لتقارير خاصة عن المغرب. بين هذه المؤسسات جهاز الشرطة الدولية «الأنتربول»، والذي سبق أن نشر تقريرا يكشف فيه أن المغرب يشكل قبلة مفضلة لشبكات الاتجار في المستحثات والمعادن النفيسة والآثار الآركيولوجية.
ضمن المؤسسات الدولية التي دخلت على الخط أيضا منظمة «اليونسكو»، أرفع هيأة دولية معنية بحماية التراث الثقافي للدول. ضمن تقرير أعده مسؤول بوزارة الثقافة وبعث به المغرب إلى هذه المنظمة، لتوضيح حيثيات تفعيل الاتفاقية المتعلقة بضبط استيراد وتصدير الممتلكات الثقافية، ثمة إقرار بتسجيل اشتغال أشخاص بالحفر والتنقيب القانوني عن ممتلكات قانونية. الأمر يتعلق، وفق التقرير الذي يخص الفترة ما بين 2011 و2015، الكنوز التي يتكثف البحث عنها في المواقع الأثرية القديمة. هل هذا كل ما في الأمر؟
بالتأكيد لا، فالمعطى الأول الذي يظهر وصول مستحثات ومتحجرات ومعادن باطنية مستخرجة من المغرب إلى دول أجنبية يطرح أسئلة بخصوص الطريق التي مرت عبرها. هل يتم ذلك بعلم السلطات المعنية؟
للإجابة عن هذا السؤال وجب، في البداية، تعقب خيوط تجارة المستحثات والحجارة النفيسة في المغرب. كيف تجري هذه التجارة في المغرب؟
ميدلت.. مدينة من حجر
بمجرد الاقتراب من مدينة ميدلت تبدأ معالم تجارة تتفرد بها المنطقة بالبروز؛ تجارة المعادن والمستحثات. متاجر على قارعة الطريق، والتي لم تخل من مرور «كارافانات» لسياح أجانب. تعرض أحجارا وديكورات منحوتة من معادن وحجارة مستخرجة من باطن الأرض. عند مدخل المدينة فندق كبير بجواره بناية كتب عليها أنها متحف للمستحثات والمعادن. داخلها المشهد مثير للانتباه؛ مجسمات كبيرة لمخلوقات غريبة. هيكل دب وديناصور، ورأس ديناصور آخر من فصيلة «تريسيراتوبس». السيدة الموجودة بالمتحف، الذي هو متجر في حقيقة الأمر، تؤكد أن الأمر يتعلق بمجسمات مصنوعة وليست حقيقية.
عدد كبير من المستحثات والمعادن والديكورات الحجرية في هذا المتجر. عند بوابته وضعت أكياس كثيرة بها حجارة مستخرجة للتو من مناجم بمحيط المدينة تنحت ثم تباع.
بدا أن النشاط الرئيسي لسكان هذه المدينة متعلق بالحجارة، كما يبرز سكانها. ما يؤكد ذلك انتشار محلات تجارية كثيرة في أرجاء المدينة وقبالة الفنادق بالخصوص، لعرض مستحثات وحجارة ومعادن مصنوعة أو على هيأتها الأصلية.
ولجنا أحد هذه المحلات. البضاعة المعروضة كثيرة ومختلفة؛ ديكورات مصنوعة من حجارة بالغة البريق، أسنان ملتصقة بحجارة كلسية يقول البائع إنها تخص تماسيح كانت تعيش قبل مئات السنين هنا قبل أن تنقرض. في رفوف زجاجية مغلقة تم وضع بضاعة أكثر قيمة من تلك المعروضة في بقية أرجاء المحل؛ جماجم وبقايا عظمية قال إنها تخص مخلوقات منقرضة، جمجمة تمساح صغير واضحة رغم آثار تآكل برزت عليها، متحجرات حلزونات وحشرات واحدة منها تظهر ما يشبه عنكبوتا.
كان السيناريو يقضي بأن نقدم أنفسنا على أننا زبناء نرغب في شراء شيء ثمين، وذلك لضمان الوصول إلى هذا الشيء الثمين كما أكد رفيقنا في هذه الجولة، وهو ابن ميدلت وعارف بخبايا تجارة الأحجار والمستحثات هنا. طلبنا من البائع، إذن، أن يخرج لنا شيئا ثمينا. عمد إلى زاوية قصية بالمحل وفتح خزانة حديدية سوداء وضعت بها صناديق بلاستيكية بيضاء صغيرة. أخرج أحد هذه الصناديق وفتحها بعناية وأطلعنا على ما قال إنه شيء ثمين؛ حجارة متفاوتة الأحجام تبرق بلون برتقالي مائل إلى الاحمرار. ثمن الحجر الصغير الذي لا يتجاوز حجمه قطعة نقدية هو ألفا درهم. لماذا يخبئ هذه الأحجار ولا يعرضها مع بقية ما يعرض في المحل؟، سألناه. أجاب أن السبب هو أن العارفين فقط بقيمة الحجارة الثمينة من يطلبونها. جلهم أجانب كما يقول. لكن السبب الحقيقي، حسب مرافقنا، هو أنه لا يتعين عرض هذه الأحجار من الأصل في محل تجاري هكذا.
لكن لماذا تعرض بقية المستحثات والأحجار هنا؟ هل من العادي عرض بقايا تماسيح ومخلوقات منقرضة للبيع للعموم؟ ألا يجدر أن تكون في أروقة مؤسسات الآركيولوجية ومتاحف المملكة؟ هذا على فرض أنها حقيقية، إذ أليس من الممكن أن تكون مزيفة فيصير الأمر كله محض نصب؟ من يفترض أن يحدد ما إذا كانت زائفة أم لا؟ وإذا كانت مزيفة فعلا، هل تسكت مصالح الدولة على مظاهر نصب بارزة للعموم؟
أطلال مجد غابر
إذا كان ما يظهر لزائر ميدلت أنه غريب، بسبب النظر إلى الأمر بعين مندهشة أو باحثة عن حقيقة ما وراء هذه التجارة، فإنه مشهد عرض مستحثات وآثار مألوف لسكان المدينة. ذلك أن نشاط ميدلت كله، كما يقول سكان، يعتمد على ما يستخرج من باطن الأرض، في ظل العزلة التي تعيشها المنطقة، والتي تجعل الحجارة والسياحة وشيء من الفلاحة المنقذ الوحيد لمن يعيش هنا من الهلاك.
لذلك لا يستغرب سكان المدينة كثيرا لمشاهد بدت لنا صادمة في أرجائها؛ يتعلق الأمر بانتشار كثيف لمناجم معادن وأطلال قرى كانت تؤوي المنقبين عن المعادن والمستحثات وأطر وعمال أجانب كانوا يديرون أكبر مناجم المعادن في إفريقيا خلال الاستعمار.
هذه المناجم تبدأ في الظهور على بعد عشر كيلومترا من جنوب شرق المدينة، بداية بمناجم «امي بلادن»، وهي قرية مازالت تشهد وجود بنايات كولونيالية قديمة وأكواخ كان يستقر فيه الأطر الفرنسيون المشتغلون في استخراج المعادن والعمال المغاربة الذين ما زال بعضهم يبحث عنها في هذا المكان حتى الآن. قبل مباني «امي بلادن» تبرز تلال كبيرة عند التدقيق يتبدى أنها حديثة التشكيل. هي، في الواقع، الحجارة والأتربة المفرغة من مناجم المعادن. هذه المناجم تستغل على نحو كثيف جدا. كل من سألناهم يشيرون إلى اسم شخص نافذ هنا هو الذي يستغل ما يستخرج من هذا المكان.
عند التقدم في الطريق الوعرة بين جبال أشبه بحيطان جامدة يتطلب المرور عبرها المسير فوق قناطر خشبية قدمية، وتحديدا على بعد 25 كيلومترا من مدينة، تبرز ما يشبه أطلال مدينة قديمة. يتعلق الأمر بـ «امي إحولي»، وهي قرية كانت تشهد نشاطا منجميا هائلا أيام الاستعمار الفرنسي. توقفنا نجوب أرجاء المكان. ما زالت بضعة أسر تقطن في مساكن خربة كان يقطنها أطر الشركة المنجمية الفرنسية المشرفة على مناجم المنطقة. هذه الأسر مازالت تعمل في التنقيب عن معادن. يوميا يعمد «حجارة» هنا إلى الغوص في أعماق حفر تعود إلى فترة الاستعمار لاستخراج حجارة معدنية.
تبادلنا أطراف الحديث مع أحد هؤلاء «الحجارة» الذي توقف، في زاوية على الطريق الوعر المخترق لهذه المدينة الشبح، يعرض حجارة للبيع. الرجل يقول إن لهذا المكان تاريخا ضخما، ويردف: «لقد كانت «امي احولي» ثاني مدينة تربط بالكهرباء بعد الدار البيضاء. الحياة كانت صاخبة هنا»، يشير إلى بناية قال إنها كانت قاعة سينما ومقهى مضيفا: «آخر الأفلام التي كانت تعرض بباريس كانت تعرض في هذه القاعة». تجولنا رفقة مرافقنا في هذه القرية المهجورة وبين بناياتها المتشبثة بالجبال الصخرية رغم مرور العقود. يطلعنا المرافق على فيلا مسؤول رفيع فرنسي كان يعمل هنا، وقبالة ما يظهر على أنه مسبح يتخذه أبناء سكان الدور المهجورة مكانا للعب. «في سنة 1925 بدأ الاستعمار الفرنسي يستغل المناجم هنا. استمر العمل حتى الثمانينات إلى أن استؤنف بعد الترخيص لشركة بالتنقيب بموجب رخصة تمتد إلى سنة 2030. الشركة لم تعمد تشتغل في مناجم «امي احولي» بعدما تكثف النشاط في مناجم عشوائية قرب ميدلت»، يقول مرافقنا مضيفا: «البنية التحتية كما ترى ضخمة. أنظر إلى تلك الأبواب الحديدية الثقيلة التي مازالت صامدة حتى اليوم. لقد ثبتت لتكون حاجزا أمام مياه الوادي حينما ترتفع وتغمر المكان. ما زالت آثار السكك الحديدية التي تقود إلى وحدات الاستغلال وغسل الأحجار وتحميلها موجودة».
ما زال بضعة «حجارين» يعملون في المكان، كما ذكرنا. أحدهم خرج للتو، كما يقول، من نفق يمتد على مسافة 10 كيلومترات. على رأسه خوذة ثبت بها مصباح، وفي ظهره يحمل كيسا يضم ما جمعه من جوف الجبل. «حجار» آخر داخل حجرة صغيرة منهمك في صقل ما يأتي به المنقبون.
كان يشتغل حينها، كما يطلعنا، على حجارة هي خليط من معادن مثل الحديد والرصاص. ليس ثمة ترخيص لدى هؤلاء «الحجارين» للقيام بعملهم، كما أن اختراقهم اليومي لباطن الأرض محض مخاطرة لا يشملها أي تأمين. هل الأمر يشمل حتى المناجم الكبيرة التي طالعناها على بعد 10 كيلومترا من ميدلت؟
ما زلنا نبحث عما إذا كان النشاط المنجمي في هذه المدينة خاضعا لترخيص. اتصلنا بمصالح عدة، بما فيها النيابة العامة التي تحفظت عن تقديم معطيات، كما انتقلنا إلى مصلحة للجيولوجيا تابعة لوزارة الطاقة والمعادن توجد بوسط ميدلت، لكن تبين أن المصلحة لا تضم حاليا سوى بضعة تقنيين، في حالة ما يشبه عطالة بسبب تخبط تنظيمي، ذلك أن المصلحة حاليا هي تابعة إداريا لإدارة وزارة الطاقة في مدينة خنيفرة، لكنها تأتمر بأوامر مسؤولي الإدارة الجهوية بمكناس ويجري الإعداد لإلحاقها بالرشيدية. التخبط بلغ حد تخبط تقنيين في إحالتنا على مخاطب بين الإدارة الموجودة بمكناس والأخرى الموجودة بخنيفرة. السبب هو هيكلة إدارية جديدة تحضر لها وزارة الطاقة والمعادن لم تخرج بعد للوجود. المعطى شبه الرسمي الوحيد الذي خلصنا إليه هو أن المكتب الوطني للمعادن والهيدروكاربوات هو الذي يستغل مناجم المنطقة. معطى يبقى محل شك حتى توضيحه من طرف وزارة الطاقة التي راسلناها في الموضوع.
الوزارة ذاتها كانت قد أخرجت مشروع قانون، قبل شهور، يحمل رقم 33.13، يتعلق بالمناجم ويعدل القانون الذي ظل معمولا به منذ سنة 1951، أي قبل الاستقلال. في مذكرة تقديم مشروع القانون هذا، والتي توضح حيثيات نزوله، جرى توضيح أن هذا الإطار الجديد يتمحور حول ثلاثة مبادئ، هي خلق تصنيف قانوني للمواد المنجمية وحصرها وتحديد حيثيات امتلاك الدولة للمواد المنجمية ثم ضبط تخويل حقوق استغلال مناجم للفاعلين العمومية والخواص في شكل رخص بحث أو استغلال، باستثناء الفوسفاط الذي تحتكر الدولة التنقيب عليه واستغلاله.
حول أسباب تعديل القانون المنجمي المذكور، توضح المذكرة أن الأمر مرده إلى ارتفاع القيمة السنوية للصادرات المنجمية إلى ما يقدر بـ 70 مليار درهم، بشكل يساهم في 6 في المائة من الناتج الداخلي الخام، كما أن بين المسوغات محدودية الإطار القانوني المعمول به حاليا.
الملف المفتاح
الغموض القانوني المحيط بالملف يفتح كثيرا من مداخل الشك. قررنا إغلاق بعضها لعدم وجود معالم الطريق التي تقود إليها وتقفينا آثار مداخل أخرى لوجود أدلة تخصها. الأمر يتعلق بفرضية استغلال أشخاص، وربما شبكات، لوجود فراغ قانوني ومؤسسات تقر به مذكرة تعديل القانون المنجمي وتشهد به وقائع تقفيناها خلال تحقيقنا. الوقائع كلها تدور حول ديناصور. كيف ذلك؟
الكل هنا في ميدلت، بما في ذلك مسؤول بمحكمة المدينة تحدثنا إليه، يعلم بأمر ملف قضائي كان قد تفجر في تسعينات القرن الماضي. الملف يتعلق بمتابعة أشخاص في المدينة، بينهم وجوه معروفة، بتهمة حول واقعة العثور على بقايا ديناصور والقيام بتهريبها إلى الخارج مقابل ثروة خيالية. كل شهادات من تحدثنا إليهم تجهل مآل الملف.
المآل المجهول ارتبط أيضا بالملف الثاني، الذي نتوفر على تفاصيله، والموجود حاليا في نهاية شوطه الاستئنافي باستئنافية مكناس، بعدما كان قد مر بمحكمة ميدلت الابتدائية. ملخص الملف يدور حول خلاف بين أجنبي يقيم منذ زمن في المدينة، وينشط في تجارة المعادن والمتحجرات، وبين شخص آخر، وذلك بشأن صندوق يتهم الأجنبي غريمه بسرقة محتوياته. بين المحتويات مجسم ديناصور.
بغض النظر عن بقية تفاصيل الملف، إلا أن تفاصيل أخرى برزت فيه، وتتعلق بما يهمنا في الموضوع، وهو حقيقة وجود تجارة خفية للمستحثات والمعادن الثمينة، تميط اللثام عن رأس خيط يقود إلى تعمق فرضية وجود هذه التجارة الخفية بالفعل.
لفهم الملف نبدأ من أوله، من لحظة وصوله إلى مكتب الشرطة القضائية بالمدينة، إثر وضع الأجنبي المعروف هنا في المدينة لشكاية يتهم فيها غريمه بسرقة صندوق كان قد ائتمنه عليه وداخله مستحثات قيمة.
في محاضر الشرطة القضائية، والتي تعود إلى صيف سنة 2013، تبرز حقيقة صادمة، لكن لم يتلقفها المحققون ولم تولها النيابة العامة اهتماما كبيرا. هذه الحقيقة هي أن الصندوق موضوع النزاع كان يضم، بتصريح صاحبه الأجنبي وزوجته التي صارت طليقته وقريبتها، وعلى نحو متطابق، 11 قطعة موزعة على ما يلي: «مجسم هيكل عظمي شبيه بالديناصور. 3 قطع من الأحجار المعدنية. مستحثات حيوانات مائية على شكل أسماك مختلفة الأشكال والأحجام تتجاوز اثنتان منهما المترين».
الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، بل ظهر، في المحاضر نفسها أن هذه المستحثات والأحجار المعدنية قد اشتراها «الحجار» الأجنبي المقيم بالمغرب منذ سنوات من ربوع مختلفة من المغرب كما سبق له أن أحضر بعضها من دول أجنبية، وتحديدا البرازيل وفرنسا.
تفاصيل هذه المعطيات يميط عنها الأجنبي اللثام في تصريحاته أمام المحققين، إذ يقول إن الصندوق كان يضم مجسم الديناصور والأحجار المعدنية المذكورة، فضلا عن مستحثات باهظة الثمن كما يقول، تضم كما يوضح: «مستحثة لحيوان برمائي –حوت- مستخرجة من بلدة ميبلادن طولها حوالي 60 سنتيمترا سبق أن عرض على شخص مكلف بمتحف بمدينة لندن شراءها مقابل مبلغ 26 ألف درهم كثمن لها وهي مميزة بأسنانها المقوسة وبدون ذيل، وقد تسنى لي شراءها من بلدة ميبلادن من شخص لا أتذكره منذ ما يزيد عن 15 سنة. مستحثات لأسماك برازيلية مستخرجة من دولة البرازيل طول كل واحدة منها حوالي 70 سنتيمترا وقيمتها الإجمالية حوالي 25 ألف درهم. مستحثة حوت مستخرجة من مدينة كلميمة تشبه التمساح طولها حوالي مترين وعرضها حوالي 60 سنتمترا وقيمتها الإجمالية حوالي 150 ألف درهم. مستحثة سمكة مستخرجة من دولة فرنسا طولها حوالي 30 سنتيمترا قيمتها حوالي 30 ألف درهم. مستحثة سمكة مستخرجة من مدينة سيدي قاسم طولها حوالي 70 سنتمترا قيمتها المالية حوالي 50 ألف درهم. لوحة للديكور تحتوي على مجموعة من نجوم البحر على شكل مستطيل قيمتها المالية حوالي 3 آلاف درهم وعمرها حوالي 300 مليون سنة».
مسار الملف القضائي سار في اتجاه آخر قد يكون، من الناحية المسطرية، هو العادي، أي إثبات ما إذا تمت عملية سرقة وخيانة للأمانة أم لا، لكن لم يتقف حقيقة ما عثر عليه داخل الصندوق، رغم أن النيابة العامة حجزت محتويات تم العثور عليها، وفي مقدمتها مجسم الديناصور، قبل أن تعيدها إلى «الحجار» الأجنبي بناء على طلب استرجاع. لماذا تم إرجاع هذه المحجوزات دون التحري في طبيعتها ومصدرها؟ لماذا لم تحقق النيابة العامة في كيفية وصولها إلى المغرب؟ هل مازالت هذه الأشياء موجودة في حوزة صاحبها؟ ألا يظهر عرض الأجنبي لأثمان ما يتوفر عليه، فضلا عن ربطه الاتصال بأجانب طلبوا منه بيعهم بعض ما يحوزه أنه عارف بسوق المستحثات؟ ثم كيف يمكن لمستحثات تعود إلى ملايين السنين أن يعثر عليه قرب المناجم التي زرناها والقريبة من ميدلت ويتم الاحتفاظ بها من طرف شخص وبكل بساطة؟ ألا يفترض أن تكون هذه المستحثات الآن في متحف وطني أو معهد عمومي للبحث العلمي؟
البحث عن إجابات لهذه الأسئلة يتطلب طرح فرضية رئيسية، وهي أن هذا الشخص الأجنبي ينشط في الاتجار في المعدن والمستحثات، استيرادا وتصديرا، وأنه، على سبيل الافتراض، لا يمر عبر المساطر القانونية المتعين اللجوء إليها في مثل هذه الحالات، فهل هذا صحيح؟
للوقوف على صحة الفرضية من عدمها تقفينا أثر الملف القضائي، والذي ظهرت به وثائق تكشف جانبا من نشاط الأجنبي موضوع الملف.
جزء من وثائق الملف عبارة عن كشوفات بنكية ومالية تخص الأجنبي المذكور، وتعود إلى فترات متفرقة من العقد الماضي والحالي. هذه الكشوفات تظهر تلقي الأجنبي المذكور تحويلات مالية بالعملة الصعبة، الأورو والدولار أساسا، ومن دول مختلفة في مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا وسويسرا. هذه التحويلات ظلت تتم بشكل كثيف خلال الفترة المذكورة، وتشمل مبالغ مالية تصل إلى ما يفوق 50 مليون سنتيم في العملية المالية الواحدة.
كانت تقتطع من هذه التحويلات حصصا متعلقة بمكتب الصرف على أساس أن الأمر يهم تحويلات مالية شخصية، وبالفعل فقد كانت التحويلات تصل إلى الشخص المذكور في اسمه الشخصي وليس في اسم شركة أحدثها، كما أن من كان يرسلها كان يقوم بذلك باسمه الشخصي. هل كان الأمر يتعلق بتحويلات عادية لها طابع شخصي كما يظهر من إحدى الوثائق التي توضح أن إحدى التحويلات تخص قريبة للأجنبي؟
بحثنا في أسماء الأشخاص الأجانب الذين يحولون الأموال للشخص المذكور قاد إلى التأكد من أن بينهم من يعمل في مجال تجارة المستحثات والمعادن. أحد هؤلاء يملك موقعا لتجارة المستحثات والمعادن وراءه رواق له يملكه في ألمانيا. الفرضية التي تبرز هنا تشير إلى أن «الحجار» الأجنبي كان يتلقى المقابل المالي عن تسليمه لتجار أجانب مستحثات وأحجارا، فهل هذا صحيح؟
لا يمكن لتحقيق صحافي تقديم إجابات يقينية، لكن ثمة معطيات يميط عنها التحقيق الذي أنجزناه اللثام، وهي تنطلق من الوثائق دائما. أولى هذه المعطيات التي تظهر فرضية وجود تجارة كثيفة بعيدة عن أنظار السلطات المعنية، مراسلة بعث بها الآمر بالصرف للجمارك والضرائب غير المباشرة بمكناس إلى وكيل الملك بالمحكمة الابتدائية بميدلت، بناء على محضر الشرطة القضائية الذي يخص الأجنبي، يطلب فيها من النيابة العامة فتح تحقيق في الملف وإحالة محضر الواقعة والمحجوزات المذكورة، إن اقتضى الحال، على إدارة الجمارك بمكتبها بمكناس للاتصال كطرف مدني في الموضوع، إذ يقول في المراسلة: «نظرا لكون هذه المستحثات خاضعة لإجراءات خاصة، إذ تعتبر محظورة بمفهوم الفصل 23 من مدونة الجمارك والضرائب غير المباشرة، فإن حيازتها تعتبر حيازة غير قانونية طبقا لمقتضيات الفصل 281 (فقرة 8) من مدونة الجمارك والضرائب غير المباشرة كما أن تداول مبالغ مالية بالعملة الأجنبية داخل التراب الوطني بدون ترخيص من مكتب الصرف يعتبر بمثابة جنحة لقانون الصرف».
الوثيقة الثانية التي ترفع سقف الارتياب بسجل فاتورات يخص هذا الأجنبي وعليه ختمه في اسم شركته يظهر نشاطا تجاريا كبيرا، أما الوثيقة الثالثة فهي كشوف بنكية تبرز سحب مبالغ مالية ضخمة، دفعة واحدة، من حسابه.
كل هذه التحويلات ظلت تجري وإدارة الجمارك تؤكد أنه لم يسبق لها تسجيل نقل أي «بضاعة» نحو الخارج. هل كان ذلك يتم بطريقة غير المعهودة جمركيا؟
هل استجابت النيابة العامة بميدلت لطلب مدير الجمارك بمكناس. لا، لم تفعل؟.. هذا ما أكدته مصادر ورفضت النيابة العامة بالمحكمة المذكورة توضيحه لنا حين مقابلتنا لوكيل الملك هناك. المسؤول القضائي الذي التقيناه قال إنه لا يمكنه اطلاعنا على ما اعتبره معطيات شخصية متعلقة بملف معروض أمام القضاء، موضحا أنه حديث التعيين ولا يعرف هذا الملف قبل أن يقول، بعد الاسترسال في الحديث، إنه على علم بالملف، وحينما سألناه عما إذا كانت النيابة العامة تضع ضمن اهتماماتها التحري في نشاط تجار الحجارة والمستحثات بالمنطقة، تحفظ عن الإجابة قائلا: إنه لا يمكنه الإدلاء بمعطيات حول السياسة الجنائية طالبا الرجوع إلى وزارة العدل والحريات التي تحدد السياسة الجنائية.
على كل حال، لم نتوصل بأية وجهة نظر رسمية، فالموضوع رغم مراسلاتنا لإدارات معنية مثل وزارة الطاقة والمعادن وإدارة الجمارك، كما اتصلنا مرارا بمستشارة وزير الطاقة المكلفة بالتواصل لكن دون رد. كما اتصلنا بالأجنبي المعني بالملف وانتقلنا إلى حيث يقيم بميدلت لمعرفة وجهة نظره وتركنا في هاتفه المحمول رسالة نصية لكن دون رد.
ما تفسير «عدم اهتمام» مسؤولي مدينة بأمر أكبر نشاط تجاري فيها، وهو تجارة الحجارة؟ هل من العادي تمرير معطى استخراج مستحثات تعود إلى ملايين السنين من المغرب وعدم ضبط عمليات الحفر في أمكنة تم العثور فيها بالفعل على مستحثات نادرة؟ ألا يفترض، مع غياب المراقبة، أن ثمة من يعثر على مستحثات ديناصورات ومخلوقات منقرضة في ميدلت وبقية أجراء المغرب دون علم أي مسؤول من المفترض أن المعني الأول بما يحدث؟
كثير من الأسئلة تظل عالقة ولا تجد جوابا يقينا باستثناء فرضيات كل الأدلة تقود إلى حجيتها.