الحمل والولادة تجربة فريدة من نوعها، فخلالها تجرب الأم الجديدة مشاعر لم تعرفها من قبل. ولا شك أن تجربة الحمل وبعدها الولادة تترك في نفسية الأم آثارا كبيرة، خصوصا وأن بعض حالات الحمل تكون صعبة للغاية، والشيء نفسه بالنسبة للولادة التي تكون صعبة كذلك وتؤثر بشكل كبير على نفسية الأم.
خلال الأيام الأولى التي تلي الولادة مباشرة، تتحول مشاعر الأم وتختلط عليها الأحاسيس وتصبح حساسة جدا، ناهيك عن أن تغير شكل جسدها يؤثر أيضا على نفسيتها، بالإضافة إلى تغيرات المزاج التي تحدث لها نتيجة لأسباب كثيرة، ومنها تغير الهرمونات، وظهور مشاعر جديدة لم تألفها من قبل وهي مشاعر الأمومة، بالإضافة إلى تجربة الولادة المؤلمة التي تترك آلاما كبيرة في نفسية المرأة.
كل هذه التغيرات النفسية الكبيرة تؤدي بالمرأة في الأخير إلى أن تصاب باكتئاب الولادة. هذه المشاعر الغريبة والكئيبة تصيب نسبة كبيرة من النساء بعد الولادة، وقد تصل إلى خمسين أو سبعين في المائة من النساء اللواتي يصبن بهذه الحالة، التي عادة ما تظهر بين اليومين الرابع والعاشر بعد الولادة.
أعراض اكتئاب ما بعد الولادة
هناك مجموعة من الأعراض التي تصاب بها المرأة بعد الولادة، وتتمثل في شعور الأم بعدم الراحة، والإصابة بالصداع والنسيان، أو قد تصبح امرأة تنفعل بسرعة، مع إمكانية إصابتها باضطرابات النوم، فضلا عن أنه يمكن أن ترافقها أفكار سوداوية أو سلبية تجاه مولودها الجديد.
عادة يمكن أن تمر هذه الحالة بسرعة ولا تحتاج لعلاج، بل تحتاج الأم فقط إلى الراحة مع المرافقة من أجل التخفيف عنها.
مخاطر الاكتئاب
قد يكون اكتئاب ما بعد الولادة حالة طبيعية ومتجاوزة بالنسبة للعديد من النساء، ويمكن أن يسجل تحسن بعد أيام، لكن هناك حالات أخرى قد تكون صعبة وأكثر حدة، ولا يجب التساهل معها. وتصيب هذه الحالة عادة 8 أو 12 في المائة من النساء اللواتي أصبن باكتئاب ما بعد الولادة، حيث يصبن بهبوط حاد في الحالة المزاجية، يرافقها شعور باللامبالاة وعدم الاكتراث، مع انعدام المتعة، واضطرابات الشهية والنوم، بالإضافة إلى فرط الانفعال والبطء في الاستجابة، مع الإحساس بالتعب العام وفقدان النشاط.
يمكن أن تصاب الأم، أيضا، بفقدان التقدير الذاتي وشعور ملازم لها بالذنب، وتصاحب هذه الحالة الإصابة بفقدان التركيز وعدم القدرة على اتخاذ القرارات، مع إمكانية ظهور أعراض أخطر من اكتئاب ما بعد الولادة.
أنواع الإصابة الأكثر خطورة
بعد الولادة قد تصاب المرأة بالذهان التالي للوضع، وهو أحد أكثر أنواع الاضطراب خطورة، حيث تظهر مجموعة من الأعراض الخطيرة على المرأة، على غرار أعراض الفصام، الذي يسمى «الفصام العقلي»، أو تظهر عليها أعراض مرض الذهان والهوس الاكتئابي، ويسمى أيضا «الاضطراب ذو الاتجاهين»، أو «الاضطراب ثنائي القطب».
دواعي العرض على الطبيب
في حال ظهور أعراض هذه الاضطرابات الخطيرة، قد تسيطر على المرأة أفكار انتحارية، والأخطر من هذا أنه قد تسيطر عليها أفكار لقتل أو إيذاء مولودها. في هذه الحالة، قد يكون من الضروري عرض المريضة على طبيب نفسي وبشكل مستعجل، لأن الحالة غير قابلة للانتظار، حتى بالنسبة للأمهات الجدد اللواتي يعانين من الاكتئاب الحاد الذي يجعل المرأة عاجزة عن التواصل مع الناس، وغير قادرة أيضا على رعاية مولودها أو الاقتراب منه، أو تلبية حاجياته الطبيعية، من قبيل الاعتناء بنظافته الشخصية وتغيير حفاظاته أو إطعامه. وتجب الإشارة هنا إلى أنه في أغلب الحالات (قد تصل النسبة إلى مائة في المائة من النساء اللواتي تعرضن لاكتئاب ما بعد الولادة في ولادتهم الأولى) يعانين منه أيضا في الولادات اللاحقة، ويكن عرضة للإصابة بالاكتئاب حتى من دون ولادة.
النساء الأكثر عرضة للإصابة
أظهرت أبحاث في الولايات المتحدة الأمريكية أن جل النساء اللواتي يصبن باكتئاب ما بعد الولادة، هن تحت سن العشرين، وهن في الغالب غير متزوجات ولا يتلقين أي علاج طبي منتظم، وهن في الغالب ينتمين لأسر من أفراد كثر، ولم تكن علاقتهن بآبائهن جيدة، وبالتالي فإن مجموعة من هؤلاء النسوة لا يستطعن إنشاء علاقات زوجية ناجحة، وغالبا ما يعانين من ظروف اقتصادية صعبة، فضلا عن أنهن نساء، في الغالب، ذوات مستوى دراسي متوسط ويعانين من عدد من الاضطرابات العاطفية والنفسية، مثل فقدان الثقة بالنفس.
أعراض اكتئاب ما بعد الولاة تشبه تماما أعراض الاكتئاب الذي يصيب الإنسان في الحالات الطبيعية، ولا فرق بينهما، غير أن الحدة تختلف من شخص لآخر. وكما ذكرنا في حال الإصابة بالحالات الأعمق من الاكتئاب، فإن المصابين عادة ما تتولد لديهم أفكار أكثر خطورة، على غرار الميل للانتحار والشعور بالتيه، وفقدان الصلة مع الواقع، إذ تظهر المرأة وكأنها تعيش في عالم خاص بها، وفي الحالة الأكثر خطورة قد تقوم بإيذاء نفسها أو طفلها..، لهذا من المهم جدا تركها بعيدة عن مولودها إذا كانت تعاني من الاكتئاب الحاد.
أسباب الاكتئاب
ظهور اكتئاب ما بعد الولادة لا يحدث من تلقاء نفسه، بل هناك مجموعة من العوامل التي تزيد من احتمال الإصابة به، ومنها القلق والتوتر الذي يصيب المرأة في حياتها، ومعاناتها من الاكتئاب في السابق، ناهيك عن تغيرات في الحالة المزاجية لأفراد الأسرة الذين تعيش معهم.
الإصابة بمشاكل الغدة الدرقية، وذلك إما بفرط نشاطها أو خمولها، وفي حال كانت الأم حديثة الولادة مصابة باضطرابات الغدة الدرقية، فقد تعاني من تغيرات في الحالة المزاجية، ما قد يؤدي إلى إصابتها باكتئاب ما بعد الولادة. ويذكر الأطباء أن الإصابة بهذا الاكتئاب لا يتعلق بثقافة المرأة أو غيرها أو بمستواها التعليمي أو بجنس المولود أو بإرضاع المولود من عدمه.
كيف يتم التشخيص؟
من أجل الكشف عن حالة الاكتئاب التي تعاني منها الأم حديثة الولادة، فإن الطبيب سيقوم بجلسة مع المرأة للتعرف أكثر على مشاعرها تجاه نفسها ومولودها، وعادة ما يتم من خلال هذه المحادثة التي تجمع الطبيب والمريضة، البحث عما إذا كانت تحمل أفكارا تتعلق بإيذاء الذات، أو تعاني من الاكتئاب، أو مصابة باللامبالاة، أو ما إذا كانت فاقدة القدرة على الاستمتاع بالأنشطة اليومية، أو ما إذا كانت مصابة باضطرابات أو صعوبة في التواصل مع البيئة والناس.
العلاج
يتطلب علاج حالات اكتئاب ما بعد الولادة، عادة، أخذ أدوية مضادة للاكتئاب، ولكن في حالة الأم المرضعة، فدائما ما يتم اختيار الأدوية التي لا تؤثر على الرضيع، ويجب تناول الدواء لمدة لا تقل عن ستة أشهر، وذلك للاطمئنان على حالة المريضة وعلاجها بشكل آمن، ولمنع حصول الاكتئاب من جديد. وفي حال لم تعط أدوية علاج الاكتئاب أية نتيجة، فمن الضروري، حينها، التوجه للطبيب النفسي من جديد من أجل أخذ استشارة أخرى.
في بعض الحالات، قد يتطلب الأمر المعالجة بالتخليج الكهربائي وحالات الشفاء مضمونة، وغالبا ما تبدأ الحالة في التحسن بين الشهرين الثاني والثالث. ولتجنب تكرار الإصابة باكتئاب ما بعد الولادة، من المهم أن تأخذ المرأة الحامل أدوية من عائلة مثبطات إعادة امتصاص «السيروتونين».