ازدحام الاحتلالات وارتطام المصالح
صبحي حديدي
كلا المتفاهمَين الروسي والتركي، كي لا نقول: المتشاركَين، في ازدحام تعقيدات محافظة إدلب السورية على الأقل؛ يدرك حدود التسخين أو التبريد في شروط اللعبة التي تفاهما عليها جيدا ومرارا، بعد خصام وصدام أعقب واقعة نونبر 2015، حين أسقطت الدفاعات الجوية التركية طائرة «سوخوي 24» روسية، فوق جبل التركمان داخل الحدود السورية. كلاهما، إلى هذا، قوة احتلال عسكري على الأرض، تطبق أطوار اللعبة مباشرة، أو عبر تفويض (النظام السوري عند موسكو، والفصائل المختلفة و«هيئة تحرير الشام» ذاتها عند أنقرة). وكلاهما، ثالثا، في حال مركبة من التكامل تارة، أو التناقض تارة أخرى، مع الوجود العسكري الأمريكي في سوريا، تستدعي هذه الدرجة أو تلك من التفاهم أو التناحر؛ مرحليا غالبا، وعلى نحو استراتيجي في الخلفيات الأبعد.
التطورات الأخيرة خير كاشف لعناصر هذا الازدحام المعقد:
ـ قوات النظام السوري تتقدم أكثر في عمق إدلب، ضمن تكتيك القضم التدريجي، تحت غطاء جوي روسي لا يترك ريبة لمستريب في أن موسكو ليست موافقة على هذه العمليات العسكرية، فحسب؛ بل يستحيل ألا تكون هي صاحبة الضوء الأخضر في إطلاقها. وهذا تقدم لا يخلو من مجازفة أولى، كبرى، هي الاصطدام العسكري مع أنقرة عبر نقاط المراقبة التي يديرها الجيش التركي؛ ومجازفة ثانية، سياسية هذه المرة، هي الإضرار بتفاهمات أستانة وسوشي بين تركيا وروسيا.
ـ الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يدرك جيدا أن الذهاب، أبعد مما ينبغي، في تجاوز حدود اللعبة ليس البتة في صالح موسكو سياسيا، كما أنه عسكريا نقطة ضعف فادحة في جانب النظام السوري كما أثبتت التجارب السابقة؛ ليس ضمن احتمالات أية مواجهة عسكرية بين جيش النظام والجيش التركي فقط، بل كذلك إذا شاءت أنقرة رفع سوية التسليح، كماً وكيفا، لدى كتائب ما يسمى «الجيش الوطني السوري» الملحق بوزارة الدفاع التركية، أو حتى منح الجولاني «غمزة» من نوع ما يقرأها كترخيص بالتصعيد.
ـ أردوغان يدرك أن الانسحابات الأمريكية من بعض مناطق التسخين (كما في القاعدة الجوية صرين قرب عين العرب، أو في منبج والطبقة)، لم تمنح إلى الشرطة العسكرية الروسية إلا بموجب مقايضة؛ مؤقتة، كما يقول المنطق، ويمكن أن تلغى بموجب أي تبدل يطرأ على خيارات البنتاغون في سوريا. هذا إذا لم يفترض المرء أن الخلافات التركية ــ الروسية الراهنة توفر فرصة ثمينة لدق إسفين بينهما، يصعب ألا يكون لصالح واشنطن، على المدى القريب في أقل تقدير. ولم يكن مفاجئا، استطرادا، أن الخارجية الأمريكية أصدرت بيانا شديد اللهجة في مساندة الجيش التركي ضد النظام السوري وموسكو معا، تذكرت إحدى فقراته بأن أنقرة… عضو في الحلف الأطلسي! ـ على صعيد الكرملين، لا يلوح أن إعطاء الإذن لقوات النظام السوري بالتوغل أبعد نحو إدلب يشمل، في الآن ذاته، إعلان ساعة الصفر لمعركة المحافظة الكبرى؛ بالنظر إلى أن هذا التطور الحاسم يتجاوز التكتيك المرحلي إلى تقويض الكثير من عناصر استراتيجية موسكو في العلاقة مع أنقرة. وثمة الكثير الذي لا يُرجح أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مستعد لخسرانه، اقتصاديا بادئ ذي بدء، خاصة بعد تدشين خط «السيل التركي» الذي ينقل الغاز الروسي إلى أوربا بمعدل 31,5 مليار متر مكعب سنويا، والذي حرص الرئيس الروسي على المشاركة شخصيا في تدشينه.
العالم بأسره يقف متفرجا على مأساة مفتوحة تتفاقم يوما بعد آخر، في بلد بات هم احتلالاته، الروسية والإيرانية والأمريكية والتركية، بعد الاحتلال الإسرائيلي، أن تفك ما بينها من ازدحام التفاهم والاختلاف، والتكامل تارة والتناقض طورا.